يواجه العراق، في الوقت الحالي، أزمة مياه خانقة تُصنّف "كارثة واقعية" تفاقمت بفعل التغيرات المناخية وتناقص الإيرادات المائية من نهري دجلة والفرات نتيجة سياسات دول المنبع، وتُنذر بعواقب وخيمة على الأمن الغذائي والصحي والاجتماعي في البلاد، خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة. وفي ظل هذا الواقع المأزوم، باتت الحكومة مجبرة على اتخاذ قرارات استثنائية، كان أبرزها تقليص الخطة الزراعية الصيفية وتوجيه الموارد المائية الشحيحة نحو تأمين مياه الشرب فقط، وهو ما يعكس حجم التحدي الذي تواجهه البلاد في إدارة ملف المياه.
وتناول تقرير لمجلة فوربس (مجلة أميركية متخصصة في الأعمال) أزمة الجفاف المتفاقمة في منطقة الشرق الأوسط، مع تسليط الضوء على العراق بوصفه أحد أكثر الدول تأثرًا. وحذر التقرير، من أنّ ظاهرة النينو، وانتهاءها أواخر 2024 أسهما في تقليص كميات الأمطار، في وقت تسجل فيه المنطقة ارتفاعاً في درجات الحرارة بمعدل ضعف المعدل العالمي. والنينو (El Niño) ظاهرة مناخية طبيعية تحدث كل عدة سنوات في المحيط الهادئ الاستوائي، وتؤثر كثيراً على الطقس والمناخ العالمي، بما في ذلك مستويات الأمطار، ودرجات الحرارة، وتوزيع الجفاف والفيضانات حول العالم.
وذكر التقرير، أن تدفقات نهري دجلة والفرات تشهد تراجعًا غير مسبوق، ما أدى إلى انخفاض الاحتياطات الاستراتيجية المائية إلى 10 مليارات متر مكعب فقط، أي نحو نصف حجته الصيفية، وقد ساهمت السدود في دول الجوار، إلى جانب شح الأمطار وسوء الإدارة المحلية، في تفاقم الأزمة.
موسم جفاف غير مسبوق
أكد المتحدث باسم وزارة الموارد المائية العراقية، خالد شمال، أن مستويات الخزين المائي الحالية تعدّ الأدنى في تاريخ البلاد الحديث، الأمر الذي دفع الحكومة إلى اتخاذ إجراءات استثنائية وصعبة، كان أبرزها تقليص الخطة الزراعية إلى النصف وإلغاءها في بعض المناطق.
وأوضح شمال لـ"العربي الجديد" أنّ العراق يعتمد حاليًّا على إطلاقات محدودة من سد الموصل، الذي يبلغ منسوبه 320 مترًا مكعباً بالثانية، إلى جانب كميات أخرى قادمة من سد حديثة، فضلاً عن ضخ المياه من بحيرة الثرثار، والتي يبلغ منسوبها حوالي 41 متراً مكعباً بالثانية.وأشار إلى أنّ وزارته تسعى إلى إدارة النقص الحاد في الموارد المائية من خلال توزيع الخزين على مشاريع ري استراتيجية، من ضمنها سد دوكان الذي يرفد مشروع ري كركوك، وسد دربندخان الذي يدعم نهر ديالى، إلى جانب كميات محدودة من واردات نهر الزاب الكبير. وفي ما يخص وضع الأهوار، بيّن شمال، أن الوضع فيها "مقبول حالياً"، إلا أن التحدي الأكبر يتمثل في الملوحة الزاحفة من نهر الكارون القادم من إيران، نتيجة انخفاض وارداته، مما يستدعي إجراءات عاجلة للحفاظ على نوعية المياه، خاصة في شمال البصرة، حيث تعمل الوزارة على تأمين المياه لأغراض الشرب والاستخدامات البشرية.
ونبّه شمال، إلى أن دول الجوار تمر هي الأخرى بظروف مائية حرجة، مشيرًا إلى أن سورية تعاني جفافاً حادّاً في الينابيع والعيون، ما أثر سلبًا على واردات نهر الفرات، التي تبلغ حاليًّا نحو 300 متر مكعب في الثانية، وقد تتراجع دون المستوى المطلوب خلال الصيف بسبب انخفاض خزين سد الطبقة.
وبخصوص الإطلاقات المائية من تركيا، بيّن المتحدث أنها تراوح حاليًّا بين 140 و200 متر مكعب في الثانية لنهر دجلة، نتيجة ضعف الأمطار في حوض النهر داخل تركيا، لكنه توقّع زيادة تدريجية في الإطلاقات بعد منتصف يونيو/ حزيران، مع بدء تشغيل محطة توليد الطاقة في سد أليسو، ما قد يرفع الكمية إلى 300 متر مكعب في الثانية.
المياه تهدد الأمن الغذائي
يقول رئيس لجنة الزراعة والمياه في البرلمان العراقي، فالح الخزعلي، إن الجفاف والتصحر تحولا إلى تهديد حقيقي للأمن الغذائي في البلاد، ودفعا آلاف الفلاحين إلى هجر أراضيهم الزراعية، محمّلاً تركيا المسؤولية الأساسية في ذلك، نتيجة عدم التزامها بإطلاق الحصة المائية المتفق عليها دوليًّا مع العراق.
ويحمّل الخزعلي، خلال حديثه لـ"العربي الجديد" الحكومة المسؤولية المباشرة في متابعة هذه الالتزامات الدولية، داعيًا إلى تغيير نمط التفاوض التقليدي مع أنقرة، من خلال الربط بين الملفات السياسية والاقتصادية والتجارية، بما يضمن الضغط على الجانب التركي لإعادة النظر في سياساته المائية.ويضيف، أن استمرار هذا الواقع، في ظل تصاعد درجات الحرارة والتراجع الحاد في مناسيب نهري دجلة والفرات، يضع العراق أمام أزمة وجودية شاملة، لا تتوقف عند حدود الزراعة، بل تمتد لتشمل الاستقرار الاجتماعي والصحي والاقتصادي. ويوضح الخزعلي، أن العراق في حاجة إلى تحرك دبلوماسي جاد ومتكامل، يضع ملف المياه ضمن أولويات الأمن القومي، ويعتمد أدوات ضغط سياسية واقتصادية مدروسة لإيقاف التدهور قبل فوات الأوان.
من جانبه أوضح الخبير المائي، عادل المختار، أن أزمة المياه التي يعيشها العراق اليوم لم تعد مجرد أزمة موسمية، بل تحوّلت إلى كارثة واقعية تهدد حياة ملايين المواطنين وتضرب صميم الأمن الغذائي والاجتماعي للبلاد. وأضاف، لـ"العربي الجديد" أنّه على الرغم من وضوح الأسباب، سواء المتعلقة بالتغير المناخي أو بسياسات دول المنبع المجحفة، لكنّ تعامل الحكومة مع الأزمة لا يزال ضعيفاً، محدوداً، ويفتقر إلى رؤية استراتيجية.