لا يزال يوم الذكرى السنوية لدخول اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب حيز التنفيذ في 26 يونيو/ حزيران 1987 يمر بحزن في مصر وسط استمرار "التعذيب الممنهج". يُعد هذا اليوم فرصة لتسليط الضوء على قصص الضحايا والناجين من التعذيب، وتأكيد التزام الدول باحترام كرامة الإنسان ومحاسبة الجناة، وهذه ليست الحال في مصر حيث تقول تقارير حقوقية محلية ودولية إن "مرتكبي التعذيب يتمتعون بالإفلات الكامل من العقاب".
رغم توقيع مصر اتفاقية مناهضة التعذيب وانضمامها إلى معظم البروتوكولات الدولية ذات الصلة، يحكي واقع السجون ومراكز الاحتجاز المصرية قصة أخرى. وكانت تقاريرعدة نشرت خلال عامي 2023 و2024، زيادة وتيرة الانتهاكات الجسيمة داخل أماكن الاحتجاز شملت التعذيب الجسدي والنفسي، والإهمال الطبي المتعمد، والعنف المفرط المفضي إلى الوفاة. وأكدت تحليلات حقوقية أن "القوانين المحلية، رغم تعديلاتها التجميلية، لا تزال تفتقر إلى آليات مساءلة مستقلة وشفافة، كما يُسجل تضييق مستمر على المجتمع المدني والمحامين المدافعين عن ضحايا الانتهاكات". وفي يناير/ كانون الثاني الماضي، خلال الاستعراض الدوري الشامل لملف حقوق الإنسان في مصر أمام مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، أبدت 137 دولة قلقها البالغ من أوضاع الاحتجاز والتعذيب، وطالبت العديد منها بوقف العمل بقانون الطوارئ، وإنشاء آلية وطنية مستقلة للتحقيق في حالات التعذيب، وتعزيز حرية عمل منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية داخل البلاد.
وكانت منظمات حقوقية مستقلة قدمت وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 تقريراً مشتركاً إلى لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة، اتهمت فيه السلطات المصرية بـ"انتهاج سياسة منهجية في التعذيب، وتمتع الأجهزة المتورطة بحصانة شبه كاملة وسط غياب التحقيقات الجدية واستمرار المحاكمات الصورية".
في إبريل/ نيسان 2025، نشرت الجبهة المصرية لحقوق الإنسان تقريراً موسعاً بعنوان "لا تراجع عن التعذيب في مصر" حللت فيه 569 شهادة تعذيب خلال فترة ما قبل المحاكمة بين عامي 2013 و2021. ووصف التقرير ممارسة التعذيب بأنها "منهجية، وتشمل كافة أجهزة إنفاذ القانون من دون استثناء".
وفي تقريره الخاص بالربع الثالث من عام 2024، رصد مركز "النديم" لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب 1189 انتهاكاً في السجون ومقار الاحتجاز، من بينها 12 حالة تعذيب فردي، و45 حالة تكدير جماعي، و15 وفاة يُشتبه في أنها نتجت من التعذيب أو الإهمال الطبي، إضافة إلى حالة قتل واحدة موثقة.
من جهتها، وثّقت منظمة "ريدريس"، في تقرير أصدرته في أكتوبر/تشرين الأول 2023، إجمالي 830 حالة تعذيب خلال 20 شهراً فقط، من بينها 159 حالة ي معسكرات قوات الأمن، و101 حالة في أقسام الشرطة، و35 في مرافق أمن الدولة. أما لجنة العدالة فأشارت إلى حصول 225 وفاة في أماكن الاحتجاز بين يناير/ كانون الثاني 2020 وإبريل/ نيسان 2022، كان التعذيب أو المعاملة السيئة سبباً رئيساً في كثير منها.
وتعددت أشكال الانتهاكات التي رصدتها التقارير، وشملت وسائل تعذيب لا تزال تُستخدم في شكل ممنهج، مثل الضرب المبرح، وتعليق الضحايا من أذرعهم أو أرجلهم، واستخدام الصعق الكهربائي في مواضع حساسة من الجسد، واحتجاز الأفراد في زنزانات انفرادية ضيقة لأيام وأسابيع، والإذلال النفسي الممنهج الذي قد يصل إلى إلقاء فضلات بشرية في وجوه المعتقلين. وجاءت المعلومات التي وثقتها التقارير في ظل غياب أي اعتراف رسمي بهذه الانتهاكات، واعتماد الحكومة الترويج لما سمته "الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان" التي ووجهت بانتقادات واسعة واعتُبرت مجرد أداة لتجميل الصورة أمام المجتمع الدولي.
ولا تُظهر مأساة التعذيب في مصر نفسها في الإحصاءات فقط، بل في قصص الضحايا الأفراد الذين أصبحوا رموزاً لمعاناة أوسع. ووثقت منظمات حالة فرحات المحفوظي الذي توفي في يوليو/ تموز 2023 بتأثير تعرضه لاعتداء على يدي ضابط في شرطة محافظة مطروح إثر مشادة، وأثار مقتله احتجاجات شعبية تطالب بالعدالة. كما وثقت منظمات حالة إسلام الأسترالي الذي قُتل نتيجة التعذيب في قسم شرطة المنيب عام 2020. ورغم توقيف ضباط على خلفية الحادثة أفرج عن أحدهم بكفالة. كما جرى توثيق حالة محمد عبد الكريم "عفروتو" الذي، قضى في قسم المقطم عام 2019، وواجه الضباط المتورطين بالواقعة أحكاماً مخففة لا تتناسب مع فداحة الجريمة، وأوردت منظمات حقوقية شهادات في قضايا مشابهة مثل: كريم حمدي (2015) وطلعت شبيب (2015) ومحسن شطا (2016) وحسين فرغلي (2016)، وغيرها من الحالات التي تُظهر نمطًا واضحاً لتكرار الجريمة وانعدام الردع.ومن المستجدات المثيرة للجدل في سجل الانتهاكات ما أشار إليه تقرير مركز الشهاب لحقوق الإنسان عن استخدام السلطات المصرية لنظام "جلسات الحبس الاحتياطي عن بُعد" عبر الفيديو. وعلّق حقوقيون بأن "هذا الإجراء، حتى لو بدا تقنياً، إلا أنه يُعد انتهاكاً لحق المحتجز في المثول الفعلي أمام القاضي، ويفتح الباب إلى مزيد من العزلة والانتهاكات داخل السجون".
وهكذا يظل الإفلات من العقاب العامل الأبرز في استمرار جرائم التعذيب، فتقارير الطب الشرعي التي تُستخدم أدلة غالباً تكون غير دقيقة، والمحققون أنفسهم قد يفتقرون إلى الاستقلالية أو الإرادة في ظل بنية قضائية متداخلة مع السلطات التنفيذية. كما تُمارس ضغوط على الشهود، ويتعرض أهالي الضحايا لترويع وترهيب.
ويواجه المجتمع الحقوقي العالمي تحدياً كبيراً في التعامل مع ملف مصر الحقوقي، وفيما تبدي دول كبرى قلقها وتدعو إلى إجراء إصلاحات عاجلة، لا تزال العلاقات السياسية والاقتصادية تُعقّد مسار الضغط الجدي، وتربط بعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة المساعدات العسكرية بالتقدم الحقوقي، لكنها في معظم الحالات تتغاضى عن ربط الانتهاكات بالمحاسبة الفعلية.
وفي ظل هذا الواقع تزداد دعوات منظمات مثل العفو الدولية و"هيومن رايتس ووتش" ومنظمة العدل الدولية لضرورة لإنشاء آلية دولية مستقلة للتحقيق في مزاعم التعذيب في مصر، وفرض عقوبات فردية على المسؤولين المباشرين عن الانتهاكات، وفتح المجال أمام الصحافة والمنظمات الحقوقية المستقلة للتوثيق الحر، وتقديم الدعم القانوني والنفسي للناجين وأسر الضحايا. وحتى الآن تؤكد منظمات حقوقية دولية ومصرية أن "التعذيب ليس مجرد حدث يُمارس في الظل، بل ممارسة سياسية ممنهجة تهدف إلى قمع أي صوت مستقل، وإشاعة الخوف في جسد المجتمع. واليوم، إذ يرفع العالم صوته تضامناً مع الضحايا، تبقى مصر تحت مجهر لا ينبغي أن يُغض البصر عنه. فكرامة الإنسان لا تُجزأ، والعدالة التي تُؤجل عن عمد، ما هي إلا وجه آخر للإفلات من العقاب".