مدن فارهة في صحراء مصر... والنيل في خدمة الأثرياء

في الإثنين ٠٢ - يونيو - ٢٠٢٥ ١٢:٠٠ صباحاً

ما أشبه الليلة بالبارحة، فقبل سنوات عدة بات النيل الخالد في خدمة الأثرياء وعلية القوم قاطني العاصمة الإدارية الجديدة الواقعة شرقي العاصمة المصرية القاهرة. واليوم بات المجرى القديم، الذي تغنّى به الشعراء وكان ملهماً للكتاب والأدباء على مر التاريخ، في خدمة الهوامير ساكني الجزر وقاطني القصور والفيلات وأصحاب مراسي اليخوت في منطقة الشيخ زايد الواقعة غرب العاصمة القاهرة.
وما بين المنطقتين تعيش مصر فترة قاسية من تاريخها، حيث تنتعش "النيوليبرالية" المتوحشة التي تحابي الأغنياء وتدهس الفقراء والطبقة الوسطى، ويصبح فيها الصوت الأعلى لطبقة الأثرياء الجدد، سواء من السكان المحليين أو المستثمرين ورجال الأعمال العرب والأجانب.

وبعد أن نشأت على ضفاف نهر النيل واحدة من أقدم الحضارات في العالم وهي الحضارة الفرعونية التي يعود تاريخها إلى أكثر من سبعة آلاف عام، ونُسجت حول النهر الخالد العديد من الأساطير والخرافات، تُقام الآن على ضفافه المنتجعات السياحية والبحيرات وملاعب الغولف وممرات الدراجات ومجمعات المطاعم والسينما ودور الترفيه والمناطق الترفيهية التي ترتادها الأقلية في مصر من المنتمين لعالم المليونيرات وربما المليارديرات وقناصي الصفقات.

في عام 2019 وقف رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي ليزف بشرى للمصريين، وهي تدشين مشروع لحفر نهر صناعي بطول 35 كيلومتراً وعلى مساحة 20 ألف فدان يشقّ قلب العاصمة الإدارية الجديدة، وبتكلفة تقدر بـ35 مليار جنيه (نحو ملياري دولار في ذلك الوقت)، قائلاً إنه سيتم ربط جميع الأحياء العشرين بالعاصمة الجديدة بالنهر الأخضر الذي يحاكي مجرى نهر النيل وسط القاهرة.

تُقام الآن على ضفاف النيل المنتجعات السياحية والبحيرات وملاعب الغولف وممرات الدراجات ومجمعات المطاعم والسينما ودور الترفيه والمناطق الترفيهية التي يرتادها الأثرياء

وبعدها خرج علينا مدير مشروع النهر الأخضر في العاصمة الإدارية قائلاً إن النهر سيصبح من أكبر المنتزهات على مستوى العالم، وأهم وأكبر مجمع سنترال بارك في العالم كله، ويضم 16 عنصراً أساسياً، منها الحديقة المغطاة، وبحيرة للقوارب المائية، وبحيرتان اصطناعيتان إحداهما على مساحة 25 فداناً وتحتوي على ألعاب مائية للترفيه والتسلية.

وخرج علينا الإعلام المصري ليصف النهر الأخضر بأنه أكبر متنزه في العالم صديق للبيئة، صُمّم ليكون أضخم من الحديقة المركزية بالولايات المتحدة، يمتد بطول عشرة كيلومترات ويتميّز بمناطق ترفيهية بمعايير عالمية، ويحتوي على مساحات خضراء وبحيرات وملاعب وممرات للدراجات ومجمعات مطاعم ومناطق ترفيهية ومساحة مخصصة لإقامة المشاريع الاستثمارية المستقبلية، وسينما مفتوحة وحديقة تفاعلية وحديقة أعمال فنية وواحة فاخرة وحديقة ذات طابع إسلامي وخمسة مساجد للشهداء.وفي مايو/ أيار 2025، خرج علينا مصطفى مدبولي ليزف للمصريين مشروعاً آخر بمدينة الشيخ زايد وعلى بعد 42 كيلومتراً إلى الغرب من وسط القاهرة. المشروع عبارة عن تأسيس مدينة في الصحراء يطلق عليها مدينة "جريان" تُقام على مساحة 361 فداناً وبواجهة نيلية تصل إلى تسعة كيلومترات.

ووفق المخطط فإنه سيتم تحويل نحو 7% من حصة مصر السنوية من مياه نهر النيل من أراضي الدلتا الخصبة لتمرّ عبر المشروع الجديد الذي يضم وحدات سكنية راقية بواجهات زجاجية ومناطق تجارية ومرسى لليخوت ومنطقة اقتصادية حرة وجزراً منفصلة ذات إطلالات خاصة، قبل أن تصل في النهاية إلى مشروع زراعي ضخم. كما أن نحو عشرة ملايين متر مكعب من مياه نهر النيل ستتدفق يومياً إلى جريان البالغة مساحتها 6.8 ملايين متر مربع، ما سيساعد في ري مشروع الدلتا الجديدة على مساحة 2.28 مليون فدان.

الملفت في الأمر أن المشروعات العملاقة المخصصة لأثرياء مصر تأتي في وقت تواجه فيه البلاد نقصاً متزايداً في المياه بسبب كارثة سد النهضة الإثيوبي

الملفت في الأمر أن هذه المشروعات العملاقة المخصصة لأثرياء مصر تأتي في الوقت الذي تواجه فيه البلاد نقصاً متزايداً في المياه وندرة شديدة فيه بسبب كارثة سد النهضة الإثيوبي، وعجزاً مائياً يصل إلى 20 مليار متر مكعب سنوياً، وهو ما دفع الحكومة إلى التوسع في سياسة فرض قيود على زراعات مهمة، مثل الأرز، لتوفير المياه، كما تأتي تلك المشروعات الفارهة المعتمدة على مياه النيل في وقت يتفشى فيه الفقر والغلاء وانهيار الطبقة الوسطى وزيادة غير مسبوقة في الدين الخارجي والداخلي وركود اقتصادي لا تخطئه العين وتضخم جامح لا تتوقف فيه الأسعار عن الزيادة.

وما يحدث في العاصمة الإدارية والشيخ زايد وغيرها من المشروعات الفخمة عبارة عن تبديد للموارد المحدودة، سواء المالية أو المائية، وتعميق لأزمات الاقتصاد المصري، وتعميق كذلك للفوارق المجتمعية التي زادت بشدة في السنوات الاخيرة.
اجمالي القراءات 217