الدراما المصرية الشعبية: فانتازيا الرداءة في العشوائية والكومباوند

في الجمعة ١٤ - مارس - ٢٠٢٥ ١٢:٠٠ صباحاً

ترتبط صناعة الدراما المصرية بالتصنيف الطبقي للجمهور منذ بداياتها، نظراً إلى اعتماد الأعمال التلفزيونية على الإعلانات مصدراً أساسياً للتمويل، لذلك أصبح أكثر النجوم القادرين على جذب الجمهور والإعلانات في التصنيف الأول، وظهرت تصنيفات إنتاجية أخرى لهم مثل "نجم صف أول" و"صف ثانٍ" وهكذا. امتدت بعد ذلك التصنيفات إلى نوعية الجمهور المستهلك للإعلانات، فجمهور ربات البيوت والطبقات الفقيرة أصبحت مسلسلاته تسمى Class C، والآن تحول كل ذلك إلى تصنيف فني للأعمال تحت وصف "دراما شعبية".

المعروف أن هناك ثيمات درامية معينة لا تخرج عنها الدراما، فلدينا الآكشن والجريمة والكوميدي والرومانسي. لكن، متى أصبح هناك ثيمة تُدعى "شعبية"؟ أُسيء استخدام مصطلح الشعبي في الفن المصري، فلا يوجد إطار واحد معروف يحدد ماهية الأعمال الشعبية وغير الشعبية. المسلسلات في النهاية أعمال قائمة على الجماهيرية، إذا لم تحقق ذلك فلا جدوى منها، أياً كان أسلوبها الفني، تماماً مثل أغاني البوب التي تستهدف أوسع فئة جماهيرية، ولا تُصنف شعبية، ولكن نطلق ذلك على أغاني المطربين المنحدرين من الطبقات الفقيرة الشعبية. أعمال درامية أجنبية عدة حققت نجاحات جماهيرية خيالية في العالم العربي في السنوات الأخيرة، مثل الدراما التركية أو المسلسل الكوري "لعبة الحبار" أو "صراع العروش" وغيرهما، فهل هذه الأعمال دراما شعبية أو Class C ومنخفضة الجودة والتكلفة؟

في الآونة الأخيرة، اتجهت المنصات الرقمية وشركات الإنتاج إلى كتابة عنوان "دراما شعبية" على المسلسلات نفسها، في تطور جديد لهذا المصطلح الدخيل على صناعة الدراما، بعدما اتخذت هذه الأعمال شكلاً موحّداً في السنوات الأخيرة، بِسمات فنية وإنتاجية مشتركة؛ أولها دورانها في إطار خيالي بعيداً عن الواقعية والحياة الحقيقية للطبقات الشعبية، بداية بمواقع التصوير نفسها المصطنعة والكرتونية، وليس انتهاءً بالهموم والصراعات التي يعيشها أبطال هذه المسلسلات، فهم رجال خارقون يتحدثون بلغة جديدة ويسعون إلى الانتقام في الأغلب، ولكنهم أصحاب مبادئ وطيبون ويتعاونون مع الشرطة في النهاية رغم عنفهم.

أفرزت هذه الموجة لهجة مصرية جديدة أصبحت تسمى "لغة المسلسلات"، لا تُسمع إلا فيها، إذ تعتمد أحداث هذه المسلسلات كثيراً على الحروب الكلامية وقصف الجبهات والجمل المقفاة والسجعية والتلاعب بالألفاظ. توجد هذه النوعية من الأعمال بتزايُد في السنوات الأخيرة، وأغلبها تحمل عناوينها أسماء أبطالها، مثل "فهد البطل" لأحمد العوضي و"إش إش" لمي عمر و"سيد الناس" لعمرو سعد و"العتاولة 2".

وأنتجت هذه الظاهرة بطريقة غير مباشرة أعمالاً فنية أخرى موجهة إلى الأغنياء، تُسمّى بـ"دراما الكومباوند"، وهي أعمال درامية أخرى جاءت رّد فعل عكسياً للتطرف في التصنيفات الطبقية للمسلسلات والجمهور، وهي أعمال خيالية أخرى، فأحداثها لا تمت للواقع بصلة أيضاً، خاصة أنها تعرض لجمهور يعيش 60% منه على الأقل على حدود خط الفقر في السنوات الأخيرة، وفق دراسة للبنك الدولي في 2019، ويعيش 40% منه في عشوائيات، وفق آخر إحصائية رسمية في 2016. واستكمالاً للحالة الطبقية، يختار صناع المسلسلات الكومباوند لتقديم الرومانسية والكوميديا والقضايا الاجتماعية، مثل مسلسل "الهرشة السابعة" للحديث عن مشاكل الزواج، أو مسلسل "كامل العدد 3" في رمضان الحالي، الذي يعرض جانبا من حياة أسرة سعيدة وطريفة ومتحابة في الكومباوند، ويتحاشى الجميع التطرق إلى الواقع جدياً، لأسباب أمنية معروفة، وربما كانت هذه القيود الأمنية هي السبب الرئيسي في اتجاه الدراما إلى الأعمال الخيالية تحت مسمى شعبية وكومباوند.كانت المسلسلات في العصر الذهبي للتلفزيون المصري تقوم على الحكايات الاجتماعية البسيطة، وأساسها الحبكة وجودة السيناريو والحوار، مع ضرورة وجود موضوع اجتماعي عام للمسلسلات أو إسقاطات سياسية واقتصادية، مثل قضايا الثأر والفقر والفساد وصراع الطبقات، مثل مسلسل "ليالي الحلمية" و"الضوء الشارد". أما الآن، فالدراما الشعبية خاوية من أي معنى أو قصة، ولكن الأسوأ هو جودتها التقنية الضعيفة في عصر المنصات الرقمية والإنترنت والذكاء الاصطناعي.

مع الوقت، ارتبط مفهوم الدراما الشعبية بالصورة الرديئة والأداء التمثيلي المفتعل، باعتبار أن جمهور هذه الأعمال لا يهتم بالجودة ولكن بالإثارة فقط، وهي نظرية أسس لها المخرج محمد سامي في السنوات الأخيرة من خلال أعماله في الفانتازيا الشعبية، مثل "جعفر العمدة" و"البرنس"، والآن يقدم عملين في نفس الموسم، هما "إش إش" مع زوجته مي عمر و"سيد الناس"، ويشتركان في ضعف العناصر الفنية والتقنية فيهما، سواء في الصورة والديكور والملابس والأداء التمثيلي والحوار. ومع تحقيق هذه الأعمال أرقام مشاهدة عالية، بفعل السخرية منها أو الترويج الضخم لها، اعتبرت مرجعاً للنجاح في الدراما، واتجه آخرون إلى التنازل عن جودة أعمالهم عن قصد من أجل منافسة دراما محمد سامي الرديئة، والخوف من الاتهام بالتعالي على الجمهور والتعقيد. وساد اعتقاد خاطئ أن الجمهور يتنازل عن الجودة مقابل الإثارة والمعارك، رغم أن هذه الأعمال ذات ميزانية ضخمة، وتذهب أغلبها على أجور النجوم على حساب بقية البنود الإنتاجية، في إهانة أخرى للجمهور، بعد اعتباره في البداية جاهلاً ومجرد رقم على مقاطع الفيديو.

لا يوجد مؤشر على انتهاء سباق تحقيق الرداءة في الأعمال طالما هناك من ينافقها ويدعمها ويدفع الملايين لإنتاجها والترويج لها، في مقابل تجارب نادرة في تحقيق الشعبية من دون التنازل عن الجودة الفنية، مثل مسلسل "قلبي ومفتاحه" للمخرج تامر محسن مثلاً. هذا الأخير يمثّل تجربة غير مألوفة في تقديم قصة اجتماعية ورومانسية في مواقع تصوير حقيقية في القاهرة مع الالتزام بمعايير الجودة في الأداء التمثيلي والصورة والموسيقى والعناصر الأخرى، واحترام ذكاء المشاهد بقدر المستطاع.