عاد الصبي (مسعد) لمنزله عصرا بعد يوم طويل في مدرسته ، بدأ بحصة التاريخ قال لهم الأستاذ ، يحكي التاريخ أنه في زمن غابر تفرق حال العرب والمسلمين وكانوا غثاء كغثاء السيل وأسوأ هو عصر الدويلات العباسية ، كان الخليفة العباسي لا يحتكم حتى على قصره وكانت السيادة الحقيقية حتى على أمير المؤمنين نفسه تتأرجح بين البوهيين والديالمه والسلاجقه حتى والزنج كانت لهم ثورة وثورات للقرامطة وغيرهم ، وأصبحت كل مدينة مملكة الموصل وحلب ودمشق ، أما عن مصر فكانت تحت الحكم الفاطمي (الدولة العبيدية) وحتى هذه الدولة شاخت وتحكم فيها وزراءها حتى قامت حربا بين الوزير شاور والوزير ضرغام ، وأستقوى أحدهما بالفرنجة والآخر بنور الدين محمود الذي أرسل له القائد أسد الدين شركوه ، وفي ظل هذا التفرق والتمزق ليس فقط سياسيا بل عقائديا سنة وشيعة وخوارج ومعتزلة ، وزاد الانقسام إنقساما حتى داخل الفرقة الواحدة أشاعرة وصوفية وسلفية حنابلة وكرامية وماتريدية أهل ظاهر وأهل باطن ورجال شريعة ومجاذيب حقيقة وأثنى عشرية وسبعاوية وعلوية ودروز وشيخ جبل وشيخ سهل وهانت الأمة على أعدائها فتداعوا على الأمة وأصبحت نهب مستباح وخسرت الأمة القدس لمائة عام كاملة وفي خضم ذلك كله ظهر صلاح الدين الأيوبي الذي كان أحد جنود نور الدين محمود خرج مع عمه اسد الدين شركوه إلي مصر وما لبث أن أصبح وزيرا أول في آخر أيام الدولة الفاطمية وأطلق عليها بنفسه (سهم) الرحمة ، عفوا فزمنه لم يكن يعرف الرصاص بعد ، جمع رجاله ووحد صفوفهم وحدد عدوهم بدقة وهدفهم بشكل أكثر دقة ، ومن إنتصار إلي آخر حتى هزم الصلبين في حطين وحرر المسجد الأقصى ، وطوال الحصة ومسعد يعيش بكيانه مع صلاح الدين يحلم بنفسه واحدا من فرسانه يمتطي جواده ويحمل سيفه ويشق طريقة في صفوف الفرنجة والصليبين ويحارب تحت أسوار القدس (أورشاليم)يقتل ويصاب ويتحامل على نفسه وهو يرى رايات صلاح الدين ترفرف إذانا بنصر الله ، ويفرح مع المؤمنين بنصر الله ألا إن نصر الله قريب.
وكانت الحصة الثانية في السيرة ووقف الأستاذ يحكي لهم غزوة بدر وكم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بإذن الله ، وكيف كان القتال بين الكفار وهم يومئذ تسعمائة ونيف ، والمسلمين يتأرجحون حول الثلاثمائة لا تكافؤ في العدد أو العده ، ولكن المسلمين يتلون قوله تعالى (ان الله اشترى من المؤمنين انفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون) ويهجمون ويحاربون ويصمدون من يموت يموت مقبل غير مدبر ومن بقى يتمتع بحلاوة النصر ، ولسان حالهم يقول (قل هل تربصون بنا الا احدى الحسنيين ونحن نتربص بكم ان يصيبكم الله بعذاب من عنده او بايدينا فتربصوا انا معكم متربصون) ، ويستمر الصبي مسعد في أحلامه فيرى نفسه صحابي يحارب جنبا إلي جنب مع الصحابة الكبار علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، وعمر بن الخطاب والصديق ابو بكر رضي الله عنهما ، يحارب ويصاب وتختلط دمائه بدماء الصحابة ثم يسعد بالنصر ، ويقف بجوار رسول الله وهو ينادي أهل القليب ولا يخرجه من حلمه الجميل إلا جرس الحصة ، وتأتي الحصة الثالثة في العلوم ، ولا ينسي الأستاذ ذكر الحسن بن الهيثم وابن سينا والفرابي وغيرهم ويعود مسعد لحلمه فيرى نفسه (مسعد بن الغزاوي) الذي أكتشف قانون العملة النفيسة والرديئة قبل جريشام أو تكلم في الجاذبية قبل جاليليو أو أول من كتب موسوعة طبية ، وأنتهت الحصة وعاد مسعد لبيته في بيت حانون بقطاع غزة في عصر هذا اليوم الجميل الصبي لا يستطيع الهروب من حلمه ، حلم الحرية والمجد والتقدم والازدهار ، حلم القوة ولكنها ليست غاشمه والعلم ولكنه من النوع المفيد للبشرية فليس فيه قنابل عنقودية أو قنبلة ذرية أو مدافع رشاشة ورصاصات فتاكة ، دخل بيته وأكل لقيمات بسيطة تلك التي أستطاعت أمه إعدادها له في ظل الحصار الشديد على مدينته المحاصرة (غزة) ، ثم صلى فرض الله ، ولم يستطع الصبر فدخل سريعا إلي غرفته ، وأخرج كتاب التاريخ ، وأخذ يقرأ المجد البائد ويحلم كيف يعيده ، ونام المسكين وكتاب التاريخ على صدره ، نام وهو يحلم أنه خالد أو صلاح الدين ، ولكنها كانت آخر مرة ينام فيها الصبي المسكين ، ففي ذات الليلة وبقذيفة إسرائيلية تهدم المنزل على روؤس سكانه ووقعت القذيفة على سرير (مسعد) فتحول جسده النحيل إلي أشلاء والكتاب إلي أجزاء وأختلطت الأشلاء بالأجزاء وجمعوا الأشلاء والأجزاء ودفن مسعد وكتابه وحلمه في التراب المختلط بالدماء ، ومع كثرة الدماء في التراب بدأت نبته تخرج من قبر مسعد نبتة الحلم العربي ، ترى من بين خرائب العمران والأطلال ومن بين الدماء والأشلاء هل ستتحول النبتة فسيلة والفسيلة شجرة وارفة الأوراق والأزهار ، وكل ورقة من ورقات هذه الشجرة تحكي قصة مجد تليد وكل زهر تحمل حلما من أحلام مسعد ، أم سينجح العدوان الغاشم على غزة إلي حرق النبتة وقتل الفسيلة وإقتلاع الشجرة؟ سؤال يحتاج إلي إجابة
هذه قصة حقيقية من واقع تجارب الحياة ، فأفضل مكان لها هو تجارب الحياة