بعد سنوات طوال من المعيشة فى بلاد المهجر، نسينا كرة القدم المصرية واعتبرناها ككل الأمريكيين لعبة مملة وبطيئة تخلو من الإثارة وتسجيل الأهداف، وتحول إعجابنا نحو كرة القدم الأمريكية، حيث أبدع الزنوج الأمريكيون فى تنمية مهاراتهم بالقفز العالى واللياقة البدنية الفائقة، مما جعل كرة القدم الأمريكية أكثر متعة وإثارة.
وفى نهاية كل موسم كروى، اعتدت أن أستقبل أصدقائى وعائلتى فى حفل صغير لمشاهدة المباراة النهائية وسميناهSuper Bowl Party)) نتلمس دفء اللمة المصرية والدردشة الممزوجة بهتافات التشجيع ونحتفل بشرب المثلجات التى تلطف من حرارة الانفعالات وأكل أجنحة الدجاج الحارة ((Hot Wings.
وبعدما تألق الفريق المصرى فى مباراة البرازيل والفوز على الفريق الإيطالى بطل العالم، تشجعت على تنظيم حفلة مشاهدة جماعية لمباراة مصر وأمريكا، وظللت أراقب المشاعر والتشجيع من الحضور، ومعظمهم من المصريين الأمريكيين لأرى من سيشجعون الفريق المصرى أم الفريق الأمريكى.
كان الحضور ينقسمون إلى ثلاثة أجيال مختلفة، الجيل الأول هم زملائى وأقرانى فى السن بين الخمسين والستين، والجيل الثانى جيل الشباب من الأبناء بين 25 إلى 35 عاماً، والجيل الثالث من الأحفاد بين 5 إلى 12 عاماً. بدأت المباراة والجميع يتوقعون أن يسجل الفريق المصرى نصراً كبيراً على الفريق الأمريكى بعد مبارياته السابقة التى أعطت الأمل للجميع، لكن اكتشف الجميع بعد وقت قصير أن اللاعبين المصريين قد ربطوا أكياساً ثقيلة من الرمل على أرجلهم، وكانت الهزيمة حاسمة للفريق المصرى وتألق الفريق الأمريكى وأحرز النصر لبلاده.
كنت أراقب وأحلل انفعالات الحزن والدهشة التى علت وجه الجميع، وخاصة من أقرانى فى الفريق العمرى الأول، وتذكرنى تلك المجموعة بقصة دائما ما أتذكرها وأذكرها لأبنائى وأحفادى، وهى عندما كنت شاباً فى المدرسة الثانوى كنا معتادين أن نشترى الكباب من عربية عم حسن على ناصية شارعنا بشبرا وكان عم حسن يبدأ بشوى الكباب بعد العصارى، ويملأ الحى برائحة الكباب الذى يجذب الناس من آخر شبرا، ولا يستطيع أن يقاوم المارة رائحته حتى صار عم حسن أشهر كبابجى فى شبرا، وكانت وجبة كباب عم حسن أفضل وجبة تعودنا عليها شبه يومياً، وفى يوم ما شاهدنا بوكس الشرطة يحاصر عربية كباب عم حسن ويلقى القبض عليه وعلى كبابه، ويتهمه بخلط لحمة الكلاب مع الكباب، وشمعوا عربية عم حسن بالشمع الأحمر، ولا أنكر حزنى على فقدان رائحة كبابه التى كانت سمة مميزة لناصية شارعنا بشبرا.
فى المهجر وجدنا أنواعا كثيرة من اللحوم تنقسم إلى أشكال وأنواع كثيرة، وأسعارها تتوقف على درجة جودتها، وأغلى نوع منها هى لحميسمى (Kobe Steak) وهو مأخوذ من جزء معين فى البقر اليابانى الذى يطعموه خلطة محسوبة بدقة من الأعشاب النية الخاصة جدا، ويتمتع يوميا بتدليك يدوى لساعات طويلة لأجزاء معينة من جسمه لكى يصلوا به لأعلى جودة من اللحوم، والغريب أننى عندما ذهبت يوماً ما لمطعم لتذوق ذلك اللحم المشوى الذى يصل ثمن الكيلو منه إلى 800 جنيه أدركت أننى أفضل كباب عم حسن عن هذا اللحم.
أما عن الجيل الأول والذى سميته "الجيل المصرى الصميم"، فهو جيل مهما طالت به الغربة لم ينسَ مصر وتسكن جنباته ويفضل أى شىء مصرى عن أى شىء بالمهجر رغم أنهم بحكم الأوراق والأقدمية صاروا أمريكان، ويتمتعون بالحياة فى المهجر، ولو خيروه بين لحم البقر الأمريكانى وكباب عم حسن سيختارون وبلا تفكير، كباب عم حسن الكلبجى، ولما يتذكروا منظر البوكس وأنه أطعمهم لحم كلاب سيتحولون للحم البقر اليابانى، هذا الفريق كان ظاهراً عليه الحزن الشديد لخسارة مصر للمباراة، ولكن قلل من حزنهم ترقبهم لمشاهدة المباراة بين مصر وأسبانيا فى الدور القبل نهائى.
أما الجيل الثانى من الأبناء، وهم جيل الشباب، وهم بين الـ 25 إلى 35، ويتكلمون العربية بطلاقة وزاروا مصر مرات عديدة كانوا أكثر تأثراً وحزناً على خسارة الفريق المصرى، ولما سألت واحداً منهم لما هو حزين قوى هكذا؟ فكان رده مفاجأة!!! فقد قال لى كنت أتمنى أن يفوز الفريق المصرى ليجد المصريون الغلابة شيئاً واحداً يفرحون به وسط أحزانهم المتتالية، ويحققون نصراً يشجعهم على الحياة حتى لو كان نصراً كروياً، أما الأمريكان فالنصر عندهم متكرر وشىء عادى فانتصاراتهم كثيرة.
بصراحة لم أكن أتوقع مثل ذلك الرد ولكنه اقتلعنى من الداخل اقتلاعاً لمشاعر شاب مصرى يريد أن يرى فرحة النصر فى عيون المصريين التواقين للنصر بعد سلسة الهزائم المتكررة التى يلاقيها المصرى فى حياته اليومية.
لكنى اندهشت أكثر عندما عندما تناقشت مع حفيدتى جريس ابنة التسع سنوات وهى طفلة مهتمة جداً بالرياضة، وتعرف أخبار كل المباريات كرة القدم والسلة وغيرها، ولما سألتها عن رأيها فى خسارة الفريق المصرى ردت أنها ليست مبسوطة، فسألتها لماذا، أتريدين أن يهزم الفريق المصرى الفريق الأمريكى، فقالت "لا أعرف ولكنى أحب الاثنين".
حقيقية لم أرَ فى حياتى حباً كحب المصريين لوطنهم مهما بعدت الأميال وكثرت السنون، يظل هناك رباط سحرى يشدك ويجذبك إلى مصر، إنها الجينات المصرية التى تظهر عبر الأجيال. وبالرغم من أن الكبابكى أصبح "كلبجى"، فكباب عم حسن أحسن من اللحم اليابانى.