الدولة وآليات التكفير

كمال غبريال في الجمعة ١٧ - يوليو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

نقصد بالتكفير جميع الفتاوى المحرضة على القتل، والتي تصم كل صاحب رأي مخالف للسائد بالكفر، سواء تلك الفتاوى التي يصدرها ما يعرف بشيوخ النظام، الذين غالباً ما يوصفون أو يوصمون بالاعتدال، أو تلك التي يطلقها محترفو الشهرة والمصادرة والحجر على عقول الناس. . ونقصد بآليات التكفير ما يوفره المجتمع والنظام السياسي لهؤلاء من تسهيلات، تجعل صوتهم هو الأعلى، إن لم يكن الأوحد في الساحة المصرية.
قد يبدو ما نحن مقبلون على التوصية به في هذه السطور، مخالفاً لما نؤمن ب&ar;ه من ليبرالية، تحتم علينا ألا نحاول المصادرة على أي صاحب رأي، مهما بدا مثل هذا الرأي شاذاً، بل أننا نقف في عداد من يعانون أساساً من المصادرة والحجر على حريتنا في إبداء الرأي، وليس من المقبول منا أن نشتكي من أمر ونطالب بمثيله، في مواجهة من يخالفوننا الرأي. . لكن الإشكالية هنا معقدة، فهي نظرية بجانب كونها أيضاً عملية، فالجماهير المصرية متدينة بسليقتها، وهي تتحمل وتصبر على كل بلايا حياتها البائسة، لكنها لا تصبر على ما قد تتصوره مساساً بمقدساتها الدينية، فإذا أضفنا لهذا أن ثقافة عموم الناس الدينية هي ثقافة شفاهية أو سماعية، يغيب عنها القدرة على الفحص والتحليل والتدقيق في مدى صحة ما يقال لها، بل تندفع من فورها لتفعل أي شيء وكل شيء، يصوره لها المغرضون على أنه زود عن الدين، وجهاد في سبيل الله، فإن حماية الجماهير هنا ممن يتلاعبون بعواطفها ومشاعرها الدينية، هو حماية لتلك الجماهير من سموم بضاعة فاسدة، أشبه بحماية المستهلك من الغش التجاري، ومن بيع المستغلين والمتربحين لأغذية فاسدة. . بل وحالتنا هذه أخطر، فرغم أن "معدة المصريين لا تهضم الزلط" كما يدعون، إلا أن تسميم العقول لا شك أخطر وأبعد وأطول تأثيراً وأصعب في العلاج من تسميم الأجساد.

كم شهدت مصر من حرائق لكنائس ولبيوت ولمتاجر أقباط بعد عظة صلاة الجمعة، في مساجد تشرف عليها وزارة الأوقاف، ناهيك عن مسئولية ذات الوزارة وأجهزة الأمن عن سائر المساجد على أرض مصر التي لم تعد محروسة. . وشهدنا حرق بيوت البهائيين البسطاء، بعد حلقة تليفزيونية فضائية، أتاح فيها "وائل الإبراشي" لأحد المكفرين أن يتخذ من قناة "دريم" منبراً للتحريض على القتل، سواء قتل الضيوف المناظرين له في البرنامج، أو التحريض على عموم البهائيين، والسيد المذيع مازال يبدو راضياً عن نفسه وعن رسالته الإعلامية، والدولة ترقب ما يحدث من حرائق صارت يومية باتساع وادي النيل، ويضع مسئولوها أياديهم في جنوبهم، ربما معجبين ومغتبطين بما يجري، وربما هو عدم الاكتراث بمصر ومصيرها، حيث هم مشغولون بجمع ثرواتهم، وتحصين مواقعهم على كراسيهم الأبدية، وتوريثها لأبنائهم من بعدهم.

كان هذا عن الناحية العملية من الأمر، أما من الناحية النظرية، فإن فتاوى التكفير ليست أبداً من قبيل الرأي، الذي يفترض أن تتيح له الليبرالية الحرية، فمن الخطأ الحديث عن كل ما يقال بصفته رأياً، على وزن المثل القائل "كله عند العرب صابون"، فالرأي الذي يجب أن يتمتع بالحماية هو ذلك الذي يقتصر على إعلان ما تعتقد فيه، وليس أن تصم المخالف لك بصفات تحرك ضده الغوغاء، فمثل تلك الآراء (إن صحت تسميتها بآراء) تصادر آراء الآخرين، بل وتصدر عليهم أحكاماً، تصل إلى الدعوة لتطبيق حد الحرابة عليهم، بأن يقتلوا أو يصلبوا، وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.

تخرج مثل هذه الفتاوى عن تصنيف حرية إبداء الرأي، كما تخرج عن تصنيف التفسير أو التعليم الديني، فالوعظ والتعليم الديني يكون باستنباط قواعد أخلاقية أو دينية عامة، يسترشد بها المؤمن في علاقته بربه أو علاقته بالناس، وليس التحريض على قتل المختلف في الرأي، سواء كان هذا القتل مادياً، أو كان قتلاً أدبياً، يحكم فيه على المقتول بالنفي، كما حدث لكثير من المفكرين المستنيرين، أو بالحصار والعزلة عن المجتمع.

كل ما ذكرناه أعلاه معروف ومحفوظ وبديهي، ولا يحتاج لتوضيح أو شرح، لكنه الزمن الأغبر الذي جعلنا في حاجة إلى تكراره، زمن الفتاوى السوداء التي تسببت في أن يغتال سباك د. فرج فودة، وأن يحاول آخر قتل نجيب محفوظ، ومازال مسلسل التحريض مستمراً، على يد من يعرفون بشيوخ النظام، ذلك النظام الذي حيرنا معه، وصرنا نضرب في الظلام ونحن نحاول استنتاج ماذا يريد لنفسه ولنا.

أيريد استقراراً وتنمية، على الأقل لنصلح لأن يرثنا ولي العهد السعيد؟
أم يريد تحويل الساحة المصرية إلى مخاضة، لمجرد قتل كل مقاومة للتوريث، حتى لو كان ذلك بتدمير كل بارقة أمل في المستقبل، وليس فقط في الحاضر البائس؟
ماذا نتوقع أن تكون النتيجة أو النتائج المترتبة على مثل هذه الفتاوى التحريضية القاتلة؟
• تشويه وتلويث الضمير الجمعي للشعب، بحيث يصبح غير مستهجن للممارسات الدموية الخسيسة بحق كل مخالف في الرأي.
• تعتقد قطاعات عريضة من شعوبنا المتدينة بطبعها في انتماء هذا الفكر وتلك الممارسات لصحيح الدين، وفي إثابة صاحبها في الآخرة بجنات الخلد.
• تحفز نفر من الشباب المتحمس والراغب في إرضاء ربه على التحول إلى قاتل متجرد من كل ضمير، كما نرى الآن ممارسات شبابنا بامتداد الكرة الأرضية، بدل أن يكون عامل بناء وتعمير لمجتمعه وللبشرية، كما هو مأمول من الشباب المؤمن بهدي السماء وباريها.

هؤلاء التكفيريين يحولون شرقنا الكبير إلى مزرعة للكراهية، تنجب القتلة وقاطعي الرؤوس وقاطعي الطرق، ويحولون شعوبنا إلى حشود من العقارب السامة، تلدغ ذاتها والإنسانية جمعاء لدغات قاتلة، فماذا سيكون المصير؟ ستصاب البشرية والحضارة بخسائر جسيمة لا ريب، لكن ماذا سيكون مصيرنا نحن؟
سوف تسحقنا الأقدام، ستدهسنا قاطرة الحضارة - التي لن تتوقف - تحت عجلاتها، هذا هو ما يدفعنا إليه هؤلاء الذين يدعون لأنفسهم امتلاك الحقيقة المطلقة.
أطالب السلطات المصرية السياسية، والتي نجحت حتى الآن نجاحاً لا بأس به في مقاومة الإرهاب، ألا تترك أشواك الإرهاب تنمو بحرية في الأرض المصرية، لكي تعود بعد ذلك وتطاردها، أو تدعي بأنها تطاردها. . أن تكون على مستوى المسئولية، بأن تحرم هؤلاء المكفرين من استغلال آليات التقاضي لملاحقة أصحاب الفكر، واستغلال القنوات التليفزيونية الفضائية، والتي تسعى الآن للإثارة جلباً للجماهيرية وإيرادات الإعلانات، بما يكفل درأ الشر المستطير الذي يمثله ثعبان الإرهاب، الذي نجحنا شعباً وحكومة في دفعه للاختباء في الجحور، لكنه يمكن أن يعود ليطل برأسه الغبي الكئيب، بفضل بث تلك الفتاوى للجماهير.

اجمالي القراءات 9128