عفواً يا د. فتحي سرور

كمال غبريال في الجمعة ١٠ - يوليو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً


كانت جريدة الأهالي قد نشرت في عددها رقم 1431 في 10-6-2009، مقالاً للأستاذ/ عادل الجندي بعنوان «نعم.. هناك تناقض بين الشريعة وحقوق الإنسان»، ثم طلبت رئاسة التحرير من الدكتور أحمد فتحي سرور رئيس مجلس الشعب أن يرد علي المقال، فتفضل بإرسال رد، جاء واضحاً ومحدداً ومدهش الغرابة في ذات الوقت، وتفوح من سطور الخطاب رائحة احتكار السلطة وشمولية العلم وعصمته معاً. . ولأنني شخصياً لست حجة قانونية لا يشق لها غبار، وإنما مجرد مواطن مصري بسيط، ينشد العدالة والحرية والحداثة، تلك الثلا&Eu;ثية التي قام النظام المصري بحلقاته المتتالية منذ انقلاب يوليو52، بإغلاق الأبواب دونها، مستعيناً بأساطين الهيمنة والاسترقاق والتجهيل لهذا الشعب، هؤلاء الذين بذلوا أقصى الجهد لتغريب المصري، داخل وطنه وبين أهله، أكتفي بالتعليق على بعض ما ورد بمقال د. سرور، ممثلي أنا وأهلي في السلطة التشريعية:
يقول مقال د. سرور: "لقد اعتنق صاحب التعليق رأيا باليا قال إن الإسلام دين فحسب. متأثرا بالمسيحية التي تفصل الدين عن الدولة والتي بمقتضي ذلك لاتعرف سوي الدين كعقيدة، فلم تتضمن المسيحية ــ علي ما ورد في الإنجيل ــ تشريع أمور الدنيا، ولا تنظيم المعاملات والعقود والعهود بين الأفراد والدول. وقد انتهت المسيحية في أوروبا بطغيان سلطان الكنيسة علي سيادة الدول والامارات، وكان المفروض أن يكون روحيا فحسب، مما اضطر شعوب هذه الدول والامارات إلي القول بفصل أمور الدنيا عن أمور الدين."

سيادته إذن يعلن بوضوح وهو رئيس مجلس الشعب لمدة تسعة عشر عاماً ماضية، وربما لفترة مثلها قادمة، أنه ضد الفصل بين الدين والدولة، وأن مبدأ الفصل هذا يجب تطبيقه فقط على المسيحية، أما الإسلام فلا. . وضوح الكلمات والمواقف رائع ويحسب للرجل، فلقد تعبنا وهلكنا من التلون الحربائي للمسئولين طوال عقود، حيث لكل مقام عندهم مقال، مطبقين للمثل الشعبي القائل: "في الوش مراية، وفي القفا سلاية"، لكنني أجدني مضطراً لأن أقول لسيادته، أنني كمواطن مصري أولاً، وكمسيحي ثانياً، أرفض رفضاً تاماً وحاسماً أيضاً (ككلماته) أن يطبق على معاملاتي وحياتي العامة أحكام الشريعة الإسلامية، وفي سبيل ذلك أضع رقبتي رهن إشارة من يطلب نحرها. . لكنني أستأذن سيادته قبل البت في نحر رقبتي، أن أعرف موقف سيادته من المادة الخامسة من الدستور المصري، تلك المادة التي لم يكد حبر تعديلها يجف بعد، وتنص على:
المادة (5): يقوم النظام السياسي في جمهورية مصر العربية على أساس تعدد الأحزاب وذلك في إطار المقومات والمبادئ الأساسية للمجتمع المصري المنصوص عليها في الدستور. وينظم القانون الأحزاب السياسية. وللمواطنين حق تكوين الأحزاب السياسية‏,‏ وفقا للقانون‏,‏ ولا تجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية علي أي مرجعية أو أساس ديني‏,‏ أو بناء علي التفرقة بسبب الجنس أو الأصل‏."‏
أين هذه المادة التي استفتي عليها الشعب، وصارت جزءاً من الدستور الذي نحيا جميعاً في ظله، مما يجزم به سيادته بخطل الفصل بين الدين والدولة المصرية؟

إذا كان الأحزاب من المحظور عليها اتخاذ مرجعية أو أساس ديني، فكيف يتحقق ما يؤكد سيادته وجوبه، أم أن المقصود بالأحزاب المحظور عليها المرجعية الدينية هي أحزاب أخرى في دول أخرى مسيحية؟
يقول المقال: "ولئن ساغت هذه التفرقة في المسيحية والأديان الأخري داخل الدين بين العقيدة والتشريع الذي ينظم أمور الدنيا، إلا أنها لم تسغ بالنسبة إلي الدين الإسلامي، لأنه اشتمل علي كل من أمور العبادات والمعاملات. ولهذا قيل بأن الإسلام عقيدة وشريعة وترجم البعض ذلك القول بأن الإسلام دين ودولة، نظراً لأن الإسلام قد عني بأمور الدنيا عنايته بأمور الدين."
ربما هو جهلي المدقع بالقانون، الذي صور لي أن كلاً من الضمير القانوني ونصوص القانون المصري، يحميني أنا المصري المسيحي من فرض الدين الإسلامي علي، أنا من يعرف جيداً أنه "لا إكراه في الدين". . هو لا يريد أن يفرض العبادات الإسلامية علي بالطبع، لكنه حازم في فرض المعاملات الإسلامية علي، خاصة وهو يقول في عبارة غاية في الدقة والصدق: "أن الإسلام يسوي بين المسلمين وغير المسلمين (أهل الذمة) في كثير من الشئون ويحترم حقوقهم.". . رغم أنه يعيد تصنيفي "كأهل ذمة"، إلا أنه يدخل بعض الطمأنينة إلى قلبي، ما يؤكده سيادته من المساواة بين المسلمين وغير المسلمين في "كثير من الشئون"، لكن ماذا عن باقي الشئون التي لن أتمتع فيها بالمساواة، والتي لم يغفلها خطاب ممثلي في المجلس التشريعي؟
ما موقف د. سرور أمام برلمانات العالم ومنظمات حقوق الإنسان المحلية والعالمية، على ضوء تقريره، بل وتأكيده، على وجوب تطبيق شريعة تنتقص من حقوق فرد واحد، ولا أقول ملايين من أبناء وطنه؟

لا أستطيع بالفعل أن أستوعب تلك العبارة في في مقال سيادته: "أن القضاء وحده هو الذي يحدد المقصود بالأحكام القطعية والأحكام غير القطعية، وذلك تحت رقابة المحكمة الدستورية العليا. والأحكام القطعية وفقاً لما ذهب علماء القانون هي ما قام الدليل علي أنها ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ومنها العقائد والأحكام العملية التي جاءت بطريقة واضحة وحاسمة، والقواعد الكلية التي أخذت بنص صريح في القرآن والسنة ولم يوجد ما يعارضها تقريراً أو تفريعاً. أما الأحكام الظنية، فهي التي لم تجئ علي سبيل القطع، وهي الفروع التي لم يكن يصلح أمر الناس علي توحيدها، وإلا جمدت العقول واصطدمت الشريعة في كل زمان ومكان بما يجدّ للناس من صور المعاملات والوقائع."
فالعبارة حافلة بالألغاز، بالتأكيد لأنني لست حجة قانونية عالمية، وإن كنت أظن أن قدراتي العقلية كافية لأن توفر لي الحياة كسائرالبشر الأحرار في كل أنحاء العالم. . فلست أفهم كيف يكون "القضاء وحده هو الذي يحدد المقصود بالأحكام القطعية والأحكام غير القطعية"، فما أفهمه أن الدين مسألة إيمان قلبي، وهو خطاب إلهي إلى ضمير الإنسان الفرد، وأن الله وحده جل جلاله، هو الذي يحكم بصحة إيمان الإنسان وأعماله، فهو الرقيب الوحيد علينا، وأن تحويل الدين إلى ساحات المحاكم، يخرج به من دائرة الاقتناع أوالإيمان الشخصي والعميق، إلى دائرة الإجبار والإكراه، التي لا يرضخ الفرد عادة لها، إلا تحت سيف قانون العقوبات، ونحن إن فعلنا هذا، وفوضنا القضاء بالحكم فيما جاء بنص ديني، فإننا عندها نكون بلا مراء، قد ذهبنا بالنص المقدس إلى حيث لا ينبغي أن يذهب، إلى قضاة وحرس مدججين وسجانين.

أفهم ما ورد بالعبارة أعلاه من أن "الأحكام القطعية وفقاً لما ذهب علماء القانون هي ما قام الدليل علي أنها ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ومنها العقائد"، فالعقائد الدينية هي ثابتة في جميع الأديان، وهي حق وواجب على كل المؤمنين بذلك الدين (ولا تخص بالطبع سواهم)، لكنني لا أفهم كيف يضيف للعقائد "الأحكام العملية"، خاصة وهو يشير في نهاية العبارة إلى خطورة ثبات الأحكام العملية قائلاً: "وإلا جمدت العقول واصطدمت الشريعة في كل زمان ومكان بما يجدّ للناس من صور المعاملات والوقائع."
كيف إذن على ضوء ما يريد سيادة الدكتور فرضه علينا، سنتمكن من مواكبة العصر، وتحديث حياتنا، التي تحتاج إلى انقلاب شامل في مفاهيمنا وعلاقاتنا، وليس مجرد تعديلات طفيفة، ولماذا يفرض علينا نحن دون سائر شعوب العالم الساعية للتقدم، أن نسمح ببعض التعديلات وفق متغيرات الحياة، ثم نحجم عن التوافق مع العصر في مجالات أخرى، رغم أننا نعرف أنه "حيث المصلحة فهناك الشرع"؟
فارق كبير يا سيادة الدكتور في عصرنا هذا، بين أن يكون لشعب يسعى للحاق بما فاته من حضارة، مرجعية نصية يسعى للتطابق معها، وبين أن يكون "أعلم بشئون دنياه"، فيتخذ من الواقع وتجاربه وإنجازاته وإخفاقاته مرجعية له، يسن قوانينه ويعدل علاقاته وفقاً لها، ليحقق أقصى إنجاز ممكن، سعياً لتحقيق حياة كريمة لشعب، يكاد يتسول الآن معظم مقومات حياته.

نقطة أخيرة نأسف لإضرارنا للفت انتباه سيادة الدكتور إليها، وهو أنه في دائرة الإيمان، يسلم الفرد نفسه للإيمان، ثم يسأل ويستفسر بعد ذلك عن دقائق ذلك الإيمان وتفصيلاته، كي يتيسر له الالتزام بها، وذلك يتعلق فقط بالعقائد والعبادات. . لكن في دائرة قوانين ونظم لحياة وعلاقات شعب، يكون الحديث عن اعتناق منظومة قانونية أمراً آخر، إذ يقتضي التحديد الدقيق المسبق لما نحن بصدده من قوانين، فليس الأمر هنا أمر عواطف أو إيمان مطلق، فهل يعرف د. سرور بالتحديد عن ماذا يتحدث، وماذا يقصد بمفهوم "الشريعة الإسلامية"، هل لديه نصوص محددة ليتم الالتزام بها، أم أن الأمر مفتوح على مصراعية، للبحث في كتب التراث والفقة المسطرة في قرون غابرة، تلك التي يستعصي علينا مجرد حصر عناوينها وأسماء مؤلفيها؟
يؤسفني أن أجدني مضطراً لأن أنهي سطوري هذه بنداء، لا إلى ممثلي في مجلس الشعب د. فتحي سرور، ولكن إلى أعضاء البرلمانات العالمية، ومنظمات حقوق الإنسان، والتي يحضر د. سرور أو من ينوب عنه لقاءاتها، كممثلين لي ولأهلي، أتوجه لهم بنداء، أن يقرأوا ما كتب د. سرور في مقاله هذا، وليقرروا بعدها موقفهم منه، ريثما يبحث مواطن مصري حائر، عن إجابة لتساؤل سيظل معلقاً كالسيف فوق رؤوسنا، عما إذا كان هناك فرق بين الحزب الوطني الحاكم، وبين جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، أم أن الاثنان وجهان لعملة واحدة؟!!

اجمالي القراءات 10599