ليالي الأُنس مع هشام وهناء في لندن

سعد الدين ابراهيم في الخميس ٠٢ - يوليو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

أصبحت لندن في السنوات الأخيرة أشبه بعاصمة عربية. ففي فصل الصيف خصوصاً، يزدحم شارع أكسفورد بآلاف العرب، من السُياح والطلاب واللاجئين. وتُسمع اللغة العربية بكل اللهجات، من الخليجية إلى الشامية والمصرية إلى المغاربية. كما تزدحم المتاجر الهامة، من هارود إلى مارك وسبتيسر. وتستجيب هذه المتاجر بدورها، فتضع لافتات بالعربية، وتستخدم موظفين عرب للتفاهم مع العُملاء من مُختلف البُلدان العربية بلهجاتهم المحلية. وتظهر بعض النساء العربيات في هذه الشوارع &aeliaelig;المتاجر بالحجاب والنقاب وهن يتسوقن بنشاط ملحوظ.
وقد جاءت زيارتي لبريطانيا هذا الصيف للمُشاركة في مؤتمر عن "المستقبل السياسي لمصر بعد مُبارك"، نظمته كُلية بيرك بكب بجامعة لندن، وتحدث فيه د.مها عبد الرحمن من جامعتي كمبردج والأمريكية بالقاهرة، ود. عُمر عاشور من جامعة إكستر، والألماني والبريطاني لاس برجر، من جامعة مانشستر، ود. سلوى إسماعيل، الأستاذة بكلية الدراسات الإفريقية والأسيوية. ولأن توقيت المؤتمر تزامن مع الانتفاضة الشعبية الإيرانية ضد مُحاولات آيات الله إخماد المُعارضة وفرض نتائج الانتخابات، فقد أثيرت مُقارنات ببن ما يحدث في إيران وإمكانية تكراره في مصر، خاصة بعدما تناقلت وسائل الإعلام تعاطف الشباب المصري والعربي من "المدونين" مع نظرائهم الإيرانيين. كما أن مئات من المصريين والعرب المُقيمين أو الزائرين، كانوا يُشاركون في المُظاهرات اليومية بلندن تضامناً مع المُحتجين في إيران.
ولأن لندن أصبحت أشبه بعاصمة عربية، على نحو ما أشرنا إليه أعلاه، فإنها تزخر بمظاهر الحياة العربية من مؤتمرات إلى احتجاجات ومُظاهرات، إلى التسوق والمشتريات، إلى الأفراح والليالي الملاح. وكُنا في سنوات الصبا والشباب نستمع إلى المُطربة أسمهان تصدح بأغنية "ليالي الأنس في فينا"، ولدهشتي اكتشفت أن بعض أبناء الجالية المصرية والجاليات العربية الأخرى يُفضلون إقامة أفراحهم في لندن. وأصبحت هناك شركات مُتخصصة في القيام بكل ما تتطلبه هذه الأفراح من طقوس ومشروبات ومأكولات مصرية وشرقية. ولهذه الشركات موقع على الإنترنت اسمه "زفّة دوت كوم zaffa.com".
وكما شاركت في مؤتمر جامعي، وفي مُظاهرة تضامنية مع الشباب الإيراني، فقد تلقيت دعوة لحضور عُرس مصري في لندن لكل من رجل الأعمال الشاب "هشام الناظر" والعروس "هناء العوصي". ولأن العريس كان صديق طفولة لابني أمير، فإنني لم أتردد في قبول الدعوة. وذهبت مُعتقداً أن ذلك سيكون عُرساً عائلياً يحضره فقط الأقارب والأصدقاء، ويستغرق ثلاث أو أربع ساعات، تواؤماً مع العادات الإنجليزية، حيث ينام الناس مُبكراً، ويستيقظون مُبكراً. ولكني فوجئت بأن هناك ما يقرب من خمسمائة مدعوا، وفد نصفهم تقريباً من مصر وبُلدان عربية أخرى، حيث أن أم العروسة مغربية. ولاستيعاب هذا العدد الضخم من المدعوين، أقامت أسرة العروس خيمة كُبرى في حديقة منزلها التي تبلغ عدة أفدنة في أحد ضواحي لندن. وقد توسط هذه الخيمة العملاقة مسرحاً بلورياً شفافاً، عليه "كوشة"، تنتظر العروسين، اللذان سبقتهما زفّة صاخبة"، بها راقصة شرقية، وعشرون عازفاً من لابسي الطرابيش!.
باختصار، وجدت نفسي شاهداً على، ومُشاركاً في فرح، ذكّرني بعشرات من أفراح الميسورين المصريين التي تقام في فنادق الخمس نجوم، التي لم أرى مثلها خلال سنوات المنفى في أي من البُلدان التي تجولت فيها. لقد كانت أفراح آل الناظر وآل العوصي في لندن، نسخة لندنية مُنقحة من أفراح الطبقة المصرية العُليا والأكثر ثراء. وحينما أقول "نسخة مُنقحة"، فلأن ذلك كان واضحاً من إشارات الطريق من لندن إلى الضواحي، والمشاعل، وعشرات المُرشدين بأزيائهم البريطانية، إلى المُنادين الذين يتسلمون السيارات عند وصول المدعوين، إلى عشرات المُضيفات الحسناوات بأزيائهن الأنيقة، إلى ترتيبات الموائد، والجلوس، والموسيقى، والمُقبلات، والموسيقات والأضواء.
وحينما حان وقت تناول العشاء، لم يحدث الهرج والمرج المُعتاد في الأفراح المصرية، حتى في فنادق الخمس نجوم. كذلك تحدث أحد أصدقاء العريس، المهندس أمير سعد الدين إبراهيم، عن ذكرياته مع العريس وعدة طرائف مُضحكة عن شخصيته. ثم تحدث والد العروس، وهو رجل الأعمال المصري ـ البريطاني مُحسن العوصي، عن ابنته هناء، وعن سعادته بأنه حقق لها العُرس الأسطوري الذي كانت تحلم به منذ طفولتها، ثم وجّه كلمة إلى العريس، هشام الناظر، الذي يُهديه أغلى ما يملك والديها، ثم وجّه كلمة لابنته هناء، اختلطت بدموع الأب الحنون وهو يوصيها بعريسها حباً وخيراً.
ثم بدأت الموسيقى تصدح في الخيمة والخلاء المُحيط بها وأصوات المطربين والمُطربات، ومعهم أصوات أصدقاء العريس وصديقات العروس، ورقص بعضهم مع العروسين على المسرح البلوري الشفاف، في مشهد مُماثل لما تصوره لنا السينما في ليالي "ألف ليلة وليلة". واستمرت الموسيقى والرقص والغناء والطرب إلى الخامسة صباحاً.
ولاحظت أن عشرات من رجال الأعمال المصريين، من الذين ترددت أسماؤهم في الصحافة خلال السنوات العشر الماضية كانوا بين المدعوين. وكنت أعرف بعضهم من قبل وتعرفت على البعض الآخر في تلك الليلة. وكانوا جميعاً يُعبّرون عن حنينهم الشديد لمصر، وشوقهم للعودة إليها، في وقت قريب!
وسألني عدد منهم عن توقعاتي وقراءتي لما يحدث في مصر هذه الأيام. ولم يكن لديّ إجابات شافية. فمثلي مثلهم، من المُطاردين، أو الهاربين، أو اليائسين من إصلاح أحوال البلاد. ولكن الجميع لا يكفّون عن التفكير في مصر وحلم العودة وتذكرت قول البابا شنودة، "أن مصر بلد لا نعيش فيه ولكنه هو الذي يعيش في وجدان كل مصري، حتى لو كُنا نعيش على بُعد آلاف الأميال منها".
كان من الطرائف التي ذكرها صديق العريس عن العريس هشام الناظر، ولعه بتقليد النجم الاستعراضي الغنائي مايكل جاكسون. وخاصة في "مشية القمر" (Moon walking)، والتي لم يكن زُملائه الأطفال يستطيعون مُنافسته فيها. وفي طريق العودة إلى لندن، عند الفجر، سمعنا من راديو السيارة خبر وفاة المُطرب مايكل جاكسون بمنزله في هوليود. وقيل ضمن ما قيل في التعليق على خبر الوفاة أنه عاش لفترة، لاجئاً في دولة البحرين، وأنه مثل مشاهير آخرين من نجوم الرياضة والفن، الزنوج اعتنق الإسلام. وسواء كان هذا الخبر صحيحاً من عدمه، فقد ترحّمنا عليه مع شُعاع الفجر، حيث يجوز الدُعاء لبني الإنسان، مهما كان دينهم أو لونهم. فكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وتبقى مصر خالدة بأبنائها وثقافتها مهما تناوب عليها من حُكّام ظالمين.

اجمالي القراءات 13342