ويسألونك عن الحمار الذي يحمل أسفــارا
كان المرشد يتحدث عن التوراة والإنجيل وكيف تعرض الكتابان المنزلان إلى كل تحريف يمكن تصوره وقد يتجاوز كل تصور . وأعطى مثالين اثنين يكون حتما وقعا على مسامع كل مؤمن قرآني كالصاعقة ، لاسيما والمثالان يتعلقان بسيدنا لــوط عليه السلام مع بنتيه أو بناته عندما أعطي الخمر ، ومع سيدنا داود عليه السلام واعتدائه على امرأة ، وذنبها الوحيد هو أنها أعجبته ، وكيف تمكن من استغلال نفوذه وانتهاك حرمتها وعرضها وشرفها وتمكنه من الزواج بها بعد ذلك ، وبعد أن تخلص من زوجها حيث بعثه في مهمة حربية وبلا رجعة فكان له ذلك وخلا له الجو..
ومهما يكن ، فإن الثابت هو ما أنبأنا به الله العليم الخبير في القرآن وهو أن قضية التحريف والتزوير والإخفاء واقعة لا ريب فيها ، ولأمر ما شبه الله أولئك الذين حمّلوا التوراة - مع كونها توراة صريحة مضبوطة مبينة ثم لم يحملوها - شبههم بالحمار الذي يحمل أسفارا . ( الآية رقم 05- سورة الجمعة ).
وإن الأسئلة العديدة التي سوف تتسارع وتتشكل وتتزاحم عند كل متأمل في ما فعله الذين داسوا التوراة والإنجيل وكذبوا بما فيهما من آيات وعاثوا فيهما تحريفا وتزويرا وأسرفوا ، يكونون حتما انحدروا إلى ذلك الحضيض لغرضهم المنحط وهو تغيير تعاليم الخالق وصهرها وصياغتها حسب هواهم الدنئ غير مقدرين حق قدره مغبة ما هم عليه مقدمون وغير متصورين حجم المسؤولية والظلم والعصيان وما ينتظرهم من عواقب وحساب عسير .
وإن كل من ينتهج هذا الأسلوب في التفكر والتأمل والتدبر يستخلص لا محالة عدة نتائج أو استنتاجات أو تساؤلات ومنها :
إن الذين وصفهم الله في القرآن وهجاهم هم الذين انتهكوا تعاليمه في التوراة والإنجيل وبذلوا كل ما في وسعهم من ظلم ليكتموا ما أنزل الله ويزوروا ما أمكنهم تزويره وينسبوه في الأخير إلى ما جاء في كتاب التوراة والإنجيل من تحريف بكل وقاحة وساهموا بحق في رسم مدى براعة إبليس الذي يكون قرير العين.
وإلى نتيجة منطقية ثانية مفادها : إن هؤلاء المعتدين على التوراة والإنجيل فعلوا فعلتهم تلك لغرض واضح وهو للتملص وعدم الاستجابة لآوامر الله ونواهيه الأصلية الواردة في كتابي التوراة والإنجيل . وهنا تبرز مرة أخرى براعة إبليـــس
.../...
.../... - 2 -
والتزامه وبإخلاص في تنفيذ وعده ووعيده ، لأنه يجعل هؤلاء العاصين مقتنعين بما يعملون ويحسبون أنهم يحسنون صنعا بل ويعتقدون أنهم منصاعون لله في ما أنزله ومطيعون له متناسين ثم مع مرور الزمن ناسين أن ما بين أيديهم من تعاليم ليس من عند الله بل وعاجزين عن التصور بأن كل ذلك وليد هواهم الموقع عليه من طرف إبليس.
ونتيجة ثالثة مفادها : إن تلك الآلاف المؤلفة من الأجيال المتعاقبة انطلاقا من عهدي التوراة والإنجيل المحرفين ، تكون تلك الأجيال ورثت توراة وإنجيلا مزورين غير محفوظين وغير مطابقين لما أنزله الله العلي الخبير ، وبالتالي تكون تلك الأجيال ضحية إسراف أسلافها من الظالمين الجناة ، وتكون تلك الأجيال إلى يومنا هذا في موقف يرثى له ولا يغبطون عليه وينظر إليه المؤمن القرآني بعين الشفقة والأسف والأسى والحسرة ، لاسيما وأن تلك الأجيال تعتقد في قرارة نفسها أنها على صواب وعلى صراط مستقيم في ما تعتقد به إلا من رحم ربك .
ونتيجة رابعة مفادها : إن الله العلي الودود في وصفه أولئك الضالين المضلين الذين حرفوا رسالته بعد أن كذبوها ، انتهج أسلوبا ساخرا – كاريكاتوريا - ملفتا في هجائهم وفي وصفهم بالغباء ملمحا وبقوة إلى أن داخل عقولهم مساحات شاسعة ضربت فيها البطالة أطنابها ، لأن الله أهدى لهم تعليمات محيية فلم يكترثوا بها ولم يبذلوا الجهد في التدبر و العمل بها ( ولعل هذا التفسير يكون مصيبا في فهم - حملوا التوراة ثم لم يحملوها - ) وهذا التصور غير عسير بعد أدنى تأمل في الآية القرآنية رقم 05 بسورة الجمعة حيث قال الله : مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(5). الجمعة.
وهناك نتيجة خامسة : ولعلها تكون هي بيت القصيد ومفادها :
- إذا كان المؤمنون بالقرآن يؤمنون حقا أنه قرآن محكم مبين مفصل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
- وإذا كانوا يعتقدون حقا أن الله صرح بأنه هو المنزل لهذا الذكر وأنه هو حافظه مهما حاول المغرضون المكذبون - وكثيرا ما هم في كل العصور -
وإذا كان المؤمنون بالقرآن يعتقدون حقا أنه منذ نزوله لم يمسه أدنى تحريف ولن يمسه بمشيئة الله ، وأن الأجيال المتعاقبة منذ خمسة عشر قرنا حباها الله بهذه الرسالة السليمة من أدنى مس أو عيب أو باطل ، وبالتالي فإن هذه الأجيال نفسها ساهمت وبمشيئة الله تعالى وحكمته في أن تحفظ هذا القرآن وتبقيه كما أنزله الله في ليلة القــدر .
.../...
.../... - 3 -
وإذا أنصف المؤمنون القرآنيون وكانوا عادلين في القول وتشجعوا وصرحوا بالحقيقة التي لا يمكن أن يختلف فيها اثنان مع مرارتها التي تغيظ الحنظل ، وهي أن القرآن هو حقا محفوظ لفظا ونصا تمام الحفظ بين دفتي المصحف إلا أنه شمله ومنذ أمد بعيد تحريف وأيما تحريف وتزوير وكتمان وتكذيب بما أنزل الله وتعطيل وتجميد وتحنيـط حسب الأهواء ، وكم هي أهواء منحطة وهجائية لما أنزل الله ومعبرة إن تصريحا أو تلميحا قويا لذلك الحرج الذي في الصدور إزاء آيات وآيات .
وإذا تشجع المؤمنون القرآنيون وصرحوا بالواقع وهو لأن هناك عشرات من آيات هي تعاليم وأوامر ونواه قررها الله ومع ذلك وعلى الرغم من ذلك فقد أصيبت بوباء فقدان المناعة وأصبحت بكل اختصار آيات بائدة بعد أن كانت في يوم من الأيام وهي قليلة سائدة وهذا حسب مشيئتنا نحن المؤمنين وحدنا ليس إلا .
وإذا تشجع المؤمنون القرآنيون وحدقوا في الأمر بكل جدية وخلصوا إلى البوح بأن تقصيرهم ذلك حولهم من خير أمة أخرجت للناس إلى أغرب أمة وقفت ونصبت نفسها فتنة للذين كفروا بسبب عدم تمكننا نحن من عرض الدين كما أراده الله .
وإذا كان كل ذلك كذلك :
فالسؤال الكبير هو :
إذا كان الله عبر بأسلوبه المعروف عن الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها وإذا قد وصفهم كمثل الحمار الحامل للأسفار ، (والحمار بغبائه لا يفقه ما هو حامله وقيمته وفائدته ).
- فكيف يمكن أن يكون يا ترى المثل الذي ينطبق علينا نحن الذين حمّلنا القرآن العظيم ذا المناعة الكاملة من أي وباء ثم مع ذلك لم نحمله ؟
- وأما إذا سألوك عن ذلك الحمار الذي يحمل أسفار أهل التوراة فقل إنه حتما من أسلاف ذلك الحيوان الذي يصلح مثالا لحالنا .
يقول تعالى:
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(146). البقرة.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ(159). البقرة.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(174). البقرة.
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا(42). النساء.