إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ:
(7 )(النبى وقواعد الهداية)(فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٠٢ - يونيو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ:
( 7 ) (إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ )
القسم الثانى : (فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ ): (النبى وقواعد الهداية)
مقدمة
فى المقال السابق توقفنا مع ما تميز به خاتم المرسلين من حرص على هداية قومه مع ما لاقاه منهم من عنت واضطهاد ، وكيف كان عليه السلام رحمة للذين آمنوا ، وكيف كان يأتيه العتاب من رب العزة جل وعلا على طيبة قلبه الزائدة ، وكيف أطمعت طيبة قلبه فيه بعض المؤمنين والمنافقين فأوذى منهم . ولمن يريد المزيد فإننا نرشح له هذه الايات ليتدبر فيها : فى علاقاته بأزواجه ( التحريم 1 ـ ) ( الأحزاب 28 ـ 35) فى علاقاته بمن حوله ( الأحزاب 36 : 39 ) فى علاقاته بالمنافقين ( التوبة 42 : 43 )
والآية الكريمة (إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ) تنقسم الى ثلاثة أقسام ، ولن نتعرض للقسم الثالث والأخير من الآية : (وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ) لأنه خارج عن موضوعنا ، وقد توقفنا مع القسم الأول من الآية : (إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ ). وموعدنا الآن مع القسم الثانى : (فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ ) .
أولا : قواعد الهداية
1 ـ قلنا فيما سبق إن مشيئة الهدى تأتى من الفرد أولا فإذا شاء الفرد الهدى هداه الله جل وعلا ، ونفس الحال فى الضلال ، إذا شاء الانسان الضلال لبّى الله تعالى مشيئة ذلك الضال وزاده ضلالا . (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء) ( فاطر 8 ) أى من يشاء الضلال يضله الله ، ومن يشاء الهداية يهده الله. ويقول تعالى :(قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ) ( الرعد 27 )أى من يشأ الضلال يضله الله ، ومن يشأ الانابة الى الله تعالى يهده الله ، ونفس المعنى فى قوله تعالى (فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء ) ( ابراهيم 4)، فمشيئة الله جل وعلا فى الهداية والضلال تأتى تالية ومؤكدة لمشية الفرد ، إن أراد الفرد الهداية زاده الله تعالى هدى (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) ( مريم 76 ) (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ) ( محمد 17 )، ويزيد الضال ضلالا (قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا) ( مريم 75 ) (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً)(البقرة10 ).
إرادة الهدى هى عملية عقلية تبحث عن الحق باخلاص ، وتناقش خرافات الشرك بعقل مفتوح ، وتتطلع الى ملكوت الرحمن وتقارن بين خلق الخالق جل وعلا وعجز الآلهة المزعومة ، وطالما بدأ الفرد هذه المرحلة بقلب مفتوح راغب فى الهداية فلا بد ان تحل عليه هداية الله جل وعلا ، وهذا هو وعد الرحمن القائل : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت 69 ). هنا ينجو الفرد من مرحلة الضلال ليدخل فى مرحلة الهداية وينتهى ذلك الضلال المؤقت. هذه من نوعية الضلال المؤقت التى أشرنا لها فى مقالات سابقة.

2 ـ الانسان الضال الذى رضى بضلاله ورضى به ضلاله لا يهديه الله جل وعلا طالما التصقت به صفات الضلال دون رغبة فى مراجعة النفس ، لذلك يقول تعالى إنه لا يهدى الكافرين ولا الفاسقين ولا الظالمين ولا المسرفين ، وكلها مترادفات للضلال .
ونقرأ معا تلك الآيات :
* (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (البقرة 258) :لاحظ الاقتران هنا بين الكفر و الظلم. والله تعالى لا يهدى الكافرين الظالمين . وهكذا كل مترادفات الضلال .
*(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )( البقرة 264 ): لاحظ الاشارة هنا الى أن الرياء والمنّ والأذى فى إعطاء الصدقة من ملامح الكفر، وسبق أن كتبنا مقالا عن ارتباط البخل بالكفر .
*( وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (المائدة 108 )، والفسق يجمع بين الكفر فى الاعتقاد وادمان المعصية.
* (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ )( الزمر 3 ).لاحظ الترادف بين الشرك والكفر والكذب على الله جل وعلا بزعم أن أولئك الأولياء أولياء لله جل وعلا.
* (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ )( غافر 34 ). (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) ( غافر 28 ). الاسراف المرتبط بالريب والكذب على الله جل وعلا من ملامح الكفر، والإسراف يعنى فى عصرنا ( التطرف) ..والآيتان فى وصف فرعون موسى ..وفى وصف كل من هو على شاكلته.

3 ـ موقف المضلّ أصعب . نتحدث هنا عن شخص لم يكتف بالضلال بل أخذ يدعو اليه و يصدّ الناس عن الحق . هذا (المضلّ ) لايمكن أن يهديه الله جل وعلا ، وهذا ما جاء فى الاية الكريمة (إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ )( النحل 37 ).
ونسأل : هل هذا حكم أبدى عليه بألا يهتدى مطلقا ؟ والجواب بالنفى ، فالآية الكريمة تتحدث بصيغة المضارع فتقول (مَن يُضِلُّ ) ، أى طالما يقوم بالاضلال فلا يمكن أن يهتدى ، فكيف يهتدى للحق وهو يدعو الى الباطل . أما لو كف ّ عن الاضلال وراجع نفسه وتفكر وتعقل وطلب الهداية فالهداية فى إنتظاره .
ثانيا : أقسام الدعاة الدينيين :
وهنا تكون مسئولية الدعاة الدينيين . لا مكان للتوسط عندهم ولا بد من تحديد المواقف ،فهم إما ضالون مضلون وإما يدعون الى الهدى بكتاب الله تعالى .
ومن خلال تجربة أكثر من ثلاثين عاما فى حقل الدعوة الاسلامية بالكتابة و التدريس والخطب وعقد الندوات والمؤتمرات ، يمكن تقسيم الدعاة الذين عاصرتهم وتعاملت معهم الى ثلاثة أقسام ( ونحن هنا لا نتحدث عن أشخاص بل عن صفات وسمات ) :
(ا ) قسم متمسك بالباطل مصمم عليه يجحد الحق وهو يراه رأى العين ، لأنه يستكبر أن يقرّ بالخطأ ويعزّ عليه أن يعترف أنه طوال حياته ودعوته كان مخطئا ضالا مضللا يدعو للباطل ويضل عن سبيل الله جل وعلا . هذا الصنف يحترف التكسب بآيات الله جل وعلا ،أو بالتعبير القرآنى : يشترى بها ثمنا قليلا ويكتم الحق ويشيع الباطل . وتراه منشغلا باصدار فتاوى فى التفاهات ليصدّ الناس عن الحق والدعاة للحق ، ولكى لا يعطى فرصة لأحد أن يسأله فى الأمور الخطيرة فى الدين والدنيا ورأى الاسلام فى الاستبداد والظلم والفساد والاستعباد والتعذيب .
عاقبته ـ إن لم يتب ـ عذاب هائل واحتقار له من الرحمن ، وسيكون خصما لرب العزة يوم القيامة ، فقد قام بتحريف الحق الالهى وقدم للناس الباطل على انه حق ، وهاجم الحق على أنه باطل . يقول جل وعلا فيهم : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ) ( البقرة 174 : 175 ).
(ب ) قسم يعرف الحق ولكن يكتمه خوفا على نفسه أوعلى منصبه ، لذا يتحاشى أن يقول الحق أو أن ينبه على باطل منتشر ، والى هذا الصنف ينتمى كثيرون ، منهم من كان يصرّح لى بأنه مؤمن تماما بما أقول ولكنه ليس مستعدا مثلى ( للبهدلة ) وفقدان الوظيفة والجاه والثروة ..
هذا الصنف ـ إن لم يتب ويعلن الحق ـ فمصيره لعنة الله والملائكة و الناس أجمعين . يقول جل وعلا : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )( التوبة 159 : 160 )
(ج ) ثم القسم الذى يعلن كل الحق ويتمسك بالحق وبالصبر ، لا يجعل نفسه سلطة دينية يأمر ولا يؤمر ويعظ ولا يوعظ ، ولكنه يقول الحق بأكمله ضمن التواصى بين المؤمنين بالحق والصبر طبقا لما جاء فى سورة ( العصر ) ، ويكون أول من يطبق الحق على نفسه ، وفى قول الحق لا يطلب من الناس أجرا ، ولا يهتم بما يقال عنه من مدح أو ذم ، ولا يخشى فى قول الحق لومة لائم ، لأن حق الله جل وعلا عنده هو الأولى بالاعتبار ، ولأنه يضع الأخرة نصب عينيه عكس القسمين السابقين .
4ـ من هنا نعظ انفسنا ـ نحن الكتّاب فى الشأن الدينى ـ أن نعى المسئولية الملقاة علينا حين نكتب للناس فىما يخص الهدى و الضلال . ولنتذكر بجانب الايات السابقة عن عذاب المضلّين يوم القيامة ،ان من يضل سيحمل مع أوزاره الشخصية عن عمله بالاضلال ـ أوزار ضحاياه ممن صدقوا ضلالاته ، يقول جل وعلا : (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ )( النحل 25 ).
ثانيا : الاضلال بغير علم :
1 ـ معناها سهل ومباشر تلك الآية الكريمة التى نتدبر هنا ـ فى هذا المقال ـ جزءا منها. تقول الآية الكريمة :(إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ). المعنى بكل بساطة ويسر أن الله تعالى يقول لخاتم المرسلين (إن تحرص على هداهم فان الله لا يهدى من يضل وما لهم من ناصرين ). أى الآية لا تحتاج الى شرح لأنها غاية فى البساطة و السهولة . ولكن من آيات الفصاحة فى القرآن الكريم أن يكون سهلا ميسرا للذكر ، وفى نفس الوقت فيه مجال غير محدود لمن أراد التعمق فى التدبر فيه . ولذلك فإننا أفردنا المقال البحثي السابق فى جزء من الآية فقط ، ونتدبر الآن فى الجزء الثانى . ويحتاج الجزء الثالث الى مقال بحثى منفصل . وربما لو تدبر فى الآية الكريمة من هو أكثر منا علما لكتب ثلاثة كتب وليس ثلاث مقالات .
ولهذا نذكّر بما قلناه سابقا أن للقرآن الكريم مستويات للفهم والتدبر ؛ هناك المستوى المتاح للجميع ، وهو مستوى الهداية لمن أراد أن يهتدى بالقرآن الكريم. هذا المستوى قد يسّره الله تعالى للجميع ، فشاء رب العزة أن يكون القرآن الكريم ميسّرا للذكر، فتكرر فى سورة القمر قوله جل وعلا : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) وقال جل وعلا : (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) (الدخان 58 ) (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا ) ( مريم 97 ). ثم هناك مستويات متعددة لمن أراد التعمق فى تدبر ودرس القرآن الكريم ، وكلما تعمق اكتشف المزيد، وإزداد بالقرآن الكريم علما وهدى .
نحن هنا نتحدث عن باحث يريد الهداية بالقرآن الكريم. فالقرآن الكريم له منهج خاص فى نسقه وتركيبه ، وهو يختلف عن كتب البشر . ولو كان من تأليف بشر لجاء كالمعتاد فى كتابات البشر ، أى يتم تقسيمه الى فصول وأبواب ، باب يتخصص فى القصص وباب فى التشريع وباب فى الحوار ، وداخل كل باب فصول . ليس هذا منهج القرآن الذى ينقسم الى سور ن وكل سورة تتكون من آيات ، وتتعدد فيه الموضوعات فى السورة الواحدة ، بحيث لا يمكن أن تبحث فيه إلا إذا كنت متمكنا من حفظ واستذكار كل السور وكل الآيات ،ولك مع كل منها وقفة وتفكر وتعامل عقلى .
السبب فى اختلاف منهج القرآن عن كتب البشر أنه كتاب للهداية أصلا ، والهداية فيه تعتمد على مشيئة القارىء أولا ثم تأتى مشيئة الرحمن لتؤكد الهداية وترشد صاحبها . ومن خلال الهداية تتنوع فى القرآن الدعوة للهداية فى موضوعات مختلفة ، من التفصيل فى ملامح العقيدة الصحيحة والعقائد الفاسدة ، الى الشريعة و القصص و إشارات علمية وضرب أمثال ، وحوارات. وفى كل ذلك يأتى التكرار الكامل والتكرار الجزئى ـ وتداخل الموضوعات مع تداخل وتكامل التفصيلات ، الأمر الذى يعطى فرصة متساوية لمن يريد الهدى فيزداد بالقرآن هدى ، ولمن يريد الضلال فيزداد بالقرآن ضلالا : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا) ( الاسراء 82 )،فالذى يبغى الهداية فى تدبر القرآن الكريم يكتشف أن تفصيلات القرآن قد تم وضعها على علم برغم ما فيها من تداخل ،يقول جل وعلا : (وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ( الأعراف 52 ) فالتفصيل هنا ليس ثرثرة ـ حاش لله ـ ولكن بوزن ومقدار على أسس علمية .
والمتخصصون فى القرآن هم المؤهلون لاكتشافها ، وهذا التخصص متاح للجميع ،يفتح أبوابه لكل من يهب القرآن حياته وعقله وجهده . ويقول جل وعلا (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ) ( العنكبوت 43 ) ، أى لا بد أن تكون عالما حتى يتاح لك أن تتعقل هذه الأمثال التى ضربها الله تعالى فى القرآن الكريم .
2 ـ بعض الناس يستسهل الكتابة فى الاسلام مستشهدا بالقرآن الكريم دون تخصص علمى ، مستهينا بعاقبة ذلك ، وينسى أن التخصص فى الاسلام شأن علمى مثل أى فرع فى العلوم. وينسى أن الله تعالى يتوعد من يتكلم فى الاسلام ـ بغير علم ـ بأنه سيحمل يوم القيامة أوزار خطئه وأوزار الذين ضلوا بسبب كتاباته.
ولنراجع الآية الكريمة مرة ثانية:(لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ). كلمة (بِغَيْرِ عِلْمٍ) هى الشاهد هنا ، أى فلا بد أن تكون من أهل العلم بالقرآن الكريم فى لغته ومنهاجه وبيانه وتفصيلاته ، واختلاف لغة القرآن عن تطورات اللغة العربية خلال العصور التى مرت بها حتى الان ، بالاضافة الى علم راسخ باللغة العربية وأسرار بلاغتها ،وكيف نشأ علم النحو فى حضارة المسلمين فى العصر العباسى ، ومدى الاتفاق ومدى الاختلاف بين قواعد علم النحو التى وضعها النحاة و قواعدها فى القرآن الكريم ، ثم العلم بالدراسات المقارنة بين القرآن والعلوم التى قامت عليه ( علوم القرآن ) ومدى التناقض والاختلاف بين تشريعات القرآن وتشريعات المسلمين على اختلاف أديانهم الأرضية ، وتنوع هذا التناقض من المنهج الى القواعد الرئيسة و التفصيلات ، ومدى الفجوة و التناقض أو الاتفاق بين القرآن وتراث المسلمين العقلى و الفلسفى فيما يعرف بعلم الكلام ، ونفس الحال بين القصص القرآنى ومناهج كتابة التاريخ لدى المسلمين ، مع دراسة متعمقة لكل أنواع التراث من سنة وتشيع وتصوف وبقية الفرق الكلامية العقلية الأخرى، ثم لا بد أن تحفظ القرآن الكريم بحيث تستطيع أن تستحضر بالذاكرة معظم الآيات الخاصة بالموضوع ، بل وأرقامها أحيانا. ثم قبل ذلك وبعده لا بد أن تكون طالبا للهداية بالقرآن ،أى لا تدخل على القرآن لكى تثبت رأيا وتنتقى له الآيات وتلويها عن سياقها وتتجاهل غيرها لتحقق ما يريده هواك ، بل تبحث فى القرآن الكريم بدون رأى مسبق مستعدا لأن تلقى خلف ظهرك كل رأى يظهر لك أنه يخالف القرآن الكريم ، وأن تتمسك بما يؤكده القرآن الكريم مهما تكالب الناس عليك هجوما ونقدا.
بدون هذا ( العلم ) يكون الداعية ضالا مضلا للناس ( بغير علم ) . ويأتى يوم القيامة يحمل أوزاره وأزار الذين أضلهم ( بغير علم ) .
3 ـ ولأن ( الاضلال بغير علم ) قضية خطيرة فقد جاء التنبيه عليها مكررا فى القرآن الكريم . ونتوقف مع بعضها :
* يقول جل وعلا عن ( كثير من الناس ) :(وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ )(الأنعام 119 ) . اى أكثرية من الناس تتبع هواها ( بغير علم ) ، والهوى نقيض للحق والعلم ـ فتضل الناس ، وتعتدى على دين رب الناس جل وعلا ، وهذا الاعتداء هو حضيض الظلم ، خصوصا عندما يقترن الهوى باختراع أحاديث ضالة ونسبتها الى الله تعالى ورسوله عبر وحى كاذب لم يحدث ، يقول جل وعلا : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )( الأنعام 144 ). ولا يمكن لمن يحترف الكذب على الله تعالى ورسوله ( بغير علم ) أن يهديه الله، فالله تعالى لا يهدى القوم الظالمين . ويتأكد نفس المعنى فى قوله تعالى عن الظالمين متبعى أهوائهم :(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ)( الروم 29 ). هذا هو حال الأكثرية من الناس،يتبعون أهواءهم ( بغير علم )، تلك الأكثرية التى لو أطاعها خاتم المرسلين نفسه لأضلته عن سبيل الله جل وعلا لأنهم لا يتبعون العلم بل يتبعون الظن ويحترفون الكذب ( الأنعام 116 )
* ويجعلها رب العزة عادة متأصلة فى كل مجتمع. فحيث يوجد (ناس ) فمن الناس من يقترف ذلك الاثم . فمن الناس من يجادل فى الله جل وعلا ( بغير علم ) متبعا الشيطان مستكبرا عن الاستماع للحق معرضا عن كتاب الله جل وعلا :(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ) (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ )(الحج 3، 8 ). ومن الناس من يشترى كتب الحديث الضالة ليصدّ بها الناس عن القرآن الكريم ( بغير علم ) ، ولو أثبتّ له بالقرآن الكريم أن الحديث الذى يجب الايمانه به فقط هو حديث الله تعالى القرآن ، فإنه يستكبر عن إتباع الحق ويولى كأن لم يسمع آيات الله تتلى عليه : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) ( لقمان 6 : 7 ).
4 ـ ولأنها قضية خطيرة فإن المؤمن الحريص على إيمانه يجب ان يعى تحذير رب العزة القائل : (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) ( الاسراء 36 )، أى لا تتبع آثار السابقين دون أن تكون مسلحا بالعلم ، ولا تتكلم فى أى موضوع دون علم بابعاده و أعماقه وجوانبه. وإذا كان هذا منهيا عنه فى أمور الدنيا فهو فى أمور الدين أخطر وأعظم ، فلا بد لمن يسير فى البحث القرآنى أن يستعد لهذه الرحلة بمستلزما البحث ،وإلا ضلّ الطريق.
لنفترض أن لك هواية بالطب ولكن لست طبيبا ، وتخيلت بعد أن قرأت بعض المعلومات الطبية و الصحية أنك مؤهل لأن تكتب أو تفتى فى الطب أو أن تعلق على موضوعات طبية ، هنا سيكون الانكار عليك شديدا ، لأن العادة أن للطب متخصصين ، وكل منهم يكتب تخصصه والشهادات العليا التى حصل عليها ، ولو كان راسخا فى العلم الطبى فهو يكتب هذا على باب عيادته وباب مكتبه وفى وصفة العلاج التى تحمل إسمه. وبالتالى فلو أفتى أحد الهواة فى شأن طبى فان السخرية ستلاحقه ، مع أن أقصى ضرر يترتب على فتواه أن يموت من يأخذ بهذه الفتوى .
ويختلف الوضع عمن يتصدى للقول فى الاسلام بدون علم وتخصص ، قد يكون حسن النية ، وقد تسلح مع النية الطيبة ببعض معلومات قديمة وحديثة ومتناثرة جمعها ممن يقول الخطأ ومن يقول الصواب ، ثم قرر ان يجتهد فى الاسلام وأن يكتب عن القرآن . هنا يكون الخطأ منه مدمرا لأنه يترتب عليه أن يضيع بعض الناس فى الدنيا والآخرة بسبب آراء خاطئة اعتمدت على آيات قرآنية مقتطعة من سياقها ، وتم تحريف معناها. الضحية هنا نوعان : الجانى نفسه ، ومن يتبعه . والجانى هو الأكثر ظلما لنفسه لأنه سيحمل وزره ووزر من اتبعه فيما يقول .
5 ـ خطورة هذا الوضع يجعلنا ننبه على أهمية تحصيل مؤهلات العلم بالقرآن الكريم بحيث لا يقع من يكتب فى الاسلام فى خطأ هائل يفقد به مستقبله يوم القيامة .
6 ـ وفى كل الأحوال ، فلايزال فى الوقت متسع لمن أراد التوبة والهداية ، فالله تعالى لا يهدى من يضل طالما ظل يضلّ ، أما إذا توقف عن الضلال وأعلن للناس خطأه فيما قال من قبل واستغفر الله جل وعلا فعسى أن يكون من المهتدين .
ولكن هل يستطيع أحدهم الدخول فى هذه التجربة ؟ يستطيع لو آمن فعلا بالآخرة وما فيها من خلود فى الجنة أو خلود فى النار. يستطيع لو آمن بان ( بهدلة الدنيا ) تهون مقابل لحظة ( بهدلة ) فى الجحيم.!!
أخيرا : هل يستطيع النبى محمد عليه السلام أن يهدى أحدا ؟
1 ـ والسؤال الآن : هل يستطيع النبى محمد عليه السلام أن يهدى أحدا ؟ والجواب إنه لا يستطيع أن يهدى من أراد الضلال ، مهمته تنحصر فى أن يرشد الناس الى طريق الهدى ، ثم على كل راغب فى الهدى أن يسعى اليه ، وأمامه القرآن الكريم يقرؤه بقلب مفتوح وهو يدعو الله جل وعلا قائلا ( إهدنا الصراط المستقيم ).
2 ـ ليست الهداية مسئولية النبى ـ أى نبى ـ والله تعالى يقول لخاتم المرسلين : (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء )(البقرة 272 ). مسئولية الهداية تتوقف على مشيئة الفرد ، فإذا شاء الهدى هداه الله جل وعلا ، أما النبى فما عليه سوى التبليغ (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) ( الغاشية 21 : 22 ) .
كان النبى نوح يامل أن تهتدى زوجته ويهتدى ابنه ، وكان النبى ابراهيم يتمنى أن يؤمن أبوه آزر ، وكان النبى لوط يتمنى ان تهتدى زوجته ، وكان النبى محمد يتمنى ان يؤمن عمه أبولهب ، ولكن لم يتحقق لأحدهم أمنيته لأن أولئك الناس اختاروا الضلال وتمسكوا به فماتوا عليه ، وتخلد ذكرهم فى القرآن كمثل أسفل للضلال . ولهذا فقد جاء حكم قاطع لخاتم المرسلين بأنه لا يستطيع أن يهدى من أحب ، لأن الله تعالى يهدى من يشاء الهداية من البشر، وهو جل وعلا أعلم بالمهتدين ومن لديه ذلك الاستعداد القلبى للهداية :(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) ( القصص 56 ).
وفى نفس الوقت فهو جل وعلا أعلم بالضالين علما ظاهريا وباطنيا ، ومن ضمن علمه الذى لا يدركه البشر انه تعالى يعلم السرائر وما خفى فى القلوب ، ولذا فان بعض الراسخين فى الكفر والضلال يعرف الله جل وعلا ما فى قلوبهم مهما أخفوا ، يقول جل وعلا عن إستحالة إيمان بعضهم مهما سمع من القرآن : (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ) ( الأنفال 23 )،أى لا فائدة فيهم .
3 ـ وعليه فان النبى ( يهدى الى ) الحق ، أى يرشد الناس الى الحق ، أما الله جل وعلا فهو (يهدى ) من يشاء الهدى، يقول جل وعلا لخاتم المرسلين عن القرآن الكريم : ( .. وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الشورى 52 ).الشاهد هنا هو استعمال كلمة ( يهدى ) (فعلا متعديا ) يحتاج الى مفعول ، واستعمالها ( فعلا لازما ) لا يحتاج الى مفعول ولكن الى جارومجرور. أستعمالها فعلا لازما جاء فى حق النبى ، فالنبى (لا يهدى أحدا ) ولكن ( يهدى الى ) إى يدعو الى ، أو يرشد ويشير الى الكتاب الحكيم والصراط المستقيم ،أما رب العزة فهو الذى ( يهدى من يشاء الهداية ) . هو فارق ضئيل ولكن به يختلف المعنى . ولوكان هذا القرآن من صنع البشر لوجدوا فيه اختلافا كبيرا ..
أخيرا :
1 ـ لا نتحدث عن أشخاص ولكن عن مواقف وحالات توجد فينا وحولنا ، ونذكرها أملا فى الهداية ، وطالما ظل الانسان يسعى حيا فأمامه فرصة التوبة والهداية . ونأمل أن نختار طريق الهداية مبكرا ، أى قبل الموت بوقت كاف كى تتوفر لنا فرصة تصحيح المسار حتى تكون توبة مقبولة من الله جل وعلا.
2 ـ قد يتلقى بعضهم هذا القول بسخرية .. ولكن سيذكر هذا عند لحظة الاحتضار .. عندما يندم وقت لا ينفع الندم : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) ( المؤمنون 99 : 100 )

اجمالي القراءات 37144