وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
(1 ) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٠٤ - مايو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

نظرا لطول هذا المقال البحثى فنقسمه الى ثلاثة أقسام .
نناقش فيها قضية هامة فى موضوع الكفر العقيدى و السلوكى وعلاقته بعلم الله جل وعلا. وينقسم المقال البحثى الى ثلاثة أقسام : سبيل الله المقصود هنا هو القرآن الكريم ، مفهوم العلم الالهى هنا ، ثم كيفية التعامل مع كلام الله تعالى فى القرآن فيما يخص الضلال والضالين .


القسم الأول :- سبيل الله هنا هو القرآن الكريم.
ونبدأ بالقسم الأول نتتبع فيه السياق القرآنى الذى جاء فيه إن الله جل وعلا هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين .
أولا : فى سورة النحل
الدعوة الى القرآن سبيل الله تعالى بمنهج القرآن
يقول سبحانه وتعالى :(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(النحل 125 ).واضح أنها جاءت أمرا لخاتم المرسلين ولدعاة الإصلاح بعده ـ فى سياق الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الجسنة ، أى أن تدعو الى القرآن الكريم بمنهج القرآن الكريم،أى بأن يكون القرآن الكريم هو ( موضوع الهداية ) وهو أيضا ( منهج الهداية ) ، فالقرآن الكريم هو الحكمة وفيه الموعظة الحسنة، وفيه أسلوب الحوار الراقى ، والأمر بالجدال بالتى هى أحسن ، وذلك موضوع سبق شرحه فى بحث ( حد الردة ) وغيره .
والمستفاد هنا أن الدعوة للإسلام والهدى لا تكون إلا بالقرآن الكريم ، ومن أنزل هذا القرآن الكريم هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ، وليس هناك مخلوق يعلم ملامح الضلال وملامح الهداية أكثر من رب العزة، والباحث المؤمن هو الذى يتعلم مما قاله رب العزة فى القرآن الكريم، وليس له مرجعية الاهية مقدسة مع القرآن الكريم . وقد يقول قائل إن هناك كتابات بشرية غير القرآن يمكن أن تكون مرجعية فى معرفة الضلال و الهدى ، ويمكن الرجوع اليها مع القرآن الكريم ، ويستشهدون بكتب الأحاديث وكتب الأئمة فى الترغيب و الترهيب ، هنا يأتى الرد عليهم مقدما فى سورة الأنعام (117:112 ) لتؤكد أن القرآن الكريم هو وحده فقط المرجعية فى الهداية ، واليه وحده الاحتكام فى كلام أهل الضلال.
ثانيا :
فى سورة الأنعام
الدعوة الى التمسك بالقرآن وحده والاحتكام له وحده مقابل الأحاديث الضالة الشيطانية
1 ـ قوله جل وعلا (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) جاء فى سياق وجوب الإحتكام للقرآن الكريم ووجوب التمسك به دون غيره، يقول تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )(الأنعام 112-117 )
*الآية الأولى فى السياق ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)(الأنعام 112 ) تتكلم عن أعداء كل نبى ، وهم الذين يخترعون أحاديث شيطانية مزخرفة إفتراء على الله تعالى ورسوله مع التأكيد أن هذا الإفتراء يسمح به الله تعالى ليتم إختبار البشر .
* والآية التالية ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ )( الأنعام 113 ) تتحدث عن الجماهير التى تتبع هذا الإفتراء وتلك الأحاديث الضالة ، تصغى إليه وترتضيه وتهلل له ، وعلى أساسه تقترف المعاصى ، أى أن الكفر العقيدى يتأسس على آحاديث مفتراه وأقاويل ضالة مزخرفة ، يعتنقها من يضل عن سبيل الله تعالى ممن لا يؤمن إيمانا حقيقيا باليوم الأخر ، ويترتب على هذا الكفر العقيدى القلبى عصيان وإقتراف للجرائم تسوغه وتشرعه تلك الآحاديث، مثل حديث ( من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ...) ، وحديث ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ..... ) إلخ .

*والآية التالية (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)(الأنعام 114 ) تتساءل بإستنكار :(أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا)؟ ، والإحتكام إلى الله تعالى يكون بالرجوع إلى القرآن الكريم فى توضيح ماهية وملامح الكفر والشرك ، سواء كان عقيديا قلبيا أو كان سلوكيا عمليا ، أو مزيجا بين الإثنين، وقد جاءت آيات القرآن الكريم فى تفصيل ذلك .

* الآية التالية (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )(الأنعام 115 ) تؤكد على أن كلمة الله تعالى قد تمت واكتملت بالقرآن الكريم ولا مبدل لكلمات الله تعالى ، ولا يلحقها تغيير ولا تبديل أو إلغاء أو إبطال (أو النسخ بالمفهوم التراثى )، والله جل وعلا هو (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أى السميع العليم بتصرفات البشر وخطرات قلوبهم .

* ولذلك فلا يصح للمؤمن أن يحتج على آيات الله تعالى فى القرآن الكريم بأن أغلبية البشر ترى أمرا مخالفا ، وهذا المعنى فى الآية الكريمة جاء خطابا مباشرا للنبى محمد نفسه تؤكد له أنه لو أطاع أكثرية البشر فى هذا الكوكب الأرض سيضلونه عن سبيل الله، أى أن أكثرية البشر ليست فقط فقط ضالة ، بل مضلة . أى تحترف الإضلال ، وتستطيع بإضلالها أن تضل خاتم المرسلين لو أطاع كلامهم وترك كتاب الله تعالى ،يقول تعالى (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ: الأنعام 116 ) .
* وبالتالى فإن الله تعالى هو أعلم بمن يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(الأنعام 117). ، وقد أنزل هذا بعض هذا العلم فى القرآن الكريم لنتعلم منه ملامح الضلال فنتجنبها وملامح الهدى فنتمسك بها ، أو بمعنى آخر نتعرف من القرآن الكريم ـ وهو علم الاهى ـ ملامح الشرك والكفر وملامح الإيمان فى المعتقدات والسلوكيات.
2 ـ والبحث هنا بابه مفتوح للجميع فى التخصص فيه ، وهم فيه مرجعية بشرية غير معصومة ، فكل منهم يرى رأيه الذى يقبل الخطأ والصواب والنقد والاعتراض ، وقيمة رأيه تتوقف على مبلغ إعتماده على آيات القرآن الكريم ، ومدى تعمقه فى فهمها ، ومدى ما يتمتع به من هداية إيمانية بجانب الهداية العلمية ؛هل يتلاعب بالآيات ليثبت رأيه وهواه ،ام يتدبر الآيات ليكتشف المزيد من كنوز القرآن الكريم ، وهل يطبق مايقول من هدى القرآن على نفسه أم لا ، وهل يتخذ هذا تجارة يكتسب بها جاها ومالا وشعبية على حساب الحق أم يقول الحق ويصبر متحملا التعب فى البحث ثم المعاناة من الاضطهاد والمطاردة والاتهامات الباطلة. هنا مجال العلماء الذين تكرر حديث القرآن الكريم عنهم ، وصف أهل الهوى منهم بالضلال ( الأعراف 175 ـ ) ( الجاثية 23 ) ( البقرة 159 ـ ، 174 ـ )بينما رفع المؤمنين منهم درجات واعتبرهم أهل الذكر والراسخين فى العلم ، وجعلهم مرجعية بشرية يطلب الناس سؤالهم ( فاطر28 ) ( النحل 43) ( آل عمران 7 ) ( النساء 162) ( المجادلة 11 ) .
أما المؤمن البسيط فعليه أن يصلح نفسه طبقا لما جاء فى القرآن الكريم طالما كان حيا ، وليس هذا بالعسير،إذ يكفى المؤمن البسيط قوله جل وعلا لخاتم المرسلين (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)( الكهف 110 ) والآية الكريمة تنقسم لقسمين : الأول : التأكيد على بشرية النبى ، فهو بشر مثلنا ، وبالتالى فليس هو بشخصه جزءا من عقيدة الإسلام ، ولكن الوحى القرآنى هو المطلوب الإيمان به، والقسم الثانى هو ما يجب على كل مؤمن عمله ، وهو ببساطة أن يعمل عملا صالحا ، وألا يقع فى الشرك بأن يتخذ مع الله شريكا غيره من الخلق، إن فعل المؤمن هذا فهو يؤمن فعلا وعمليا بيوم الحساب ويستعد له ، يوم لقاء الله . حيث يرجو لقاء ربه لينال رضاه وجنته ...
ثالثا : ـــ سورة النجم
الدعوة للهداية بالتنبيه على بعض ملامح الضلال

1 ـ وجاء فى سورة النجم (30) قوله تعالى ( ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى). والسياق هنا فى الدعوة للهداية بالقرآن ، وسورة النجم بدأت بالحديث عن نزول القرآن ثم التفتت الى عقائد المشركين ترد عليها مع الأمر بالإعراض عنهم .
بعد الحديث عن نزول القرآن الكريم ( النجم 1 : 18 ) يقول تعالى (أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنثَى وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى)( النجم 19-30 )
2 ـ عبادة الأسماء :
الأيات الأولى :(أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى) (19 : 23 ) تتحدث عن أهم ملمح من ملامح الشرك العقيدى ، وهو تقديس الأسماء ، فالأسماء التى يطلقونها على آلهتهم تصبح لها رهبة أو قداسة ، وتلك عادة سيئة فى كل الأديان الأرضية ، نبّه عليها رب العزة فى القرآن الكريم فى معرض الهداية، ومنه ومن هذا العلم الالهى نتعلم ونحكم على عصرنا الذى يكرر نفس العقائد .
قوم نوح أطلقوا على آلهتهم أسماء قدسوها وعبدوها ، رغبة ورهبة ، وتمسكوا بها عدة قرون فى مواجهة نوح : (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا)( نوح 23 ).
وبعد إهلاك قوم نوح عليه السلام عادت عبادة الأسماء إلى قوم عاد ، فكان مما قال لهم نبيهم هود عليه السلام: (قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ)(الأعراف 71 ) . أى هى أسماء إخترعوها ثم عبدوها وقدسوها ، وهى أسماء ما أنزل الله تعالى بها من سلطان ، فكل ما تدل عليه هذه الأسماء فى عقائدهم من رهبة وخوف وتعظيم وتقديس ، كل هذا ليس إلا إفتراء .
وتأسست عبادة الأسماء فى مصر القديمة ، ولذلك قال يوسف عليه السلام يخاطب المصريين جميعا فى شخص رفيقيه فى السجن: ( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ : يوسف 40 ) أى هو نفس الوصف؛ أسماء ومخترعات ما أنزل الله بها من سلطان ، ولا صلة لها بدين الله تعالى ، ويجب الإحتكام بشأنها إلى الله تعالى الذى أمر ألا نعبد إلا سواه ، ولكن أكثرية البشر لا يعلمون .
وتكرر نفس الحال مع العرب قبل وأثناء نزول القرآن الكريم ، حيث عبدوا اللات والعزى ومناة وغيرها، وجاء الرد عليهم فى سورة النجم (أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى : النجم 22:19 ) وبعدها قال تعالى (إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى) (النجم 23 ).
ومما سبق يجب أن نعلم وأن نتعلم .
فبعد قرون من موت النبى محمد عليه السلام ما لبث أن عادت عبادة الأسماء . بدأ الأمر بإختراع شخصية للنبى محمد تخالف كونه بشرا ، فأضافوا له العصمة المطلقة وعلم الغيب والتحكم فى الدنيا والآخرة ، وجعلوه شريكا لله تعالى فى شهادة الإسلام وفى الصلاة والحج والآذان ومالكا ليوم الدين طبقا لأسطورة الشفاعة . بذلك تحول أسم ( محمد) فى عقائد الأديان الأرضية للمسلمين مناقضا لأسم (محمد) فى القرآن الكريم؛ ( محمد ) فى القرآن الكريم هو بشر مثلنا ورجل من العرب ولكن يوحى إليه، والوحى هو الذى يوجهه، فلأنه بشر فهو غير معصوم من الخطأ مأمور بالاستغفار من ذنبه يأتيه الوحى باللوم والتانيب كما يأتيه بالمدح والتقدير. ولكن ( محمدا ) فى عقائد معظم المسلمين إسم إلهى مقدس له رهبة ؛ فلابد من الاسراع بالسلام والصلاة عليه حين التلفظ به كنوع من العبادة ، وليس سلاما عاديا كبقية الأنبياء و المرسلين ،لأنه عندهم هو سيد الأنبياء و المرسلين ، وقبس من نور رب العالمين ،اى جزء من الله ـ تعالى عن ذلك علوا كبيرا . وهم يبادرون بالاستغاثة به وبالتوسل اليه لكشف الضرر وتحقيق المنى ، وهو فى قبره حىّ تعرض عليه الملائكة أعمال الناس كل ليله ليشفع فيهم.
ثم إتسعت ساحة عبادة الأسماء فأصبحت تضم آل البيت عند الشيعة ، وكبار الصحابة عند السنة ، ثم إتسعت أكثر بضم الأولياء الصوفيين ( الرفاعى والبدوى والدسوقى والجيلانى ... إلى ) وبإضافة أئمة الحديث والفقة فى الدين السنى ( الشافعى والبخارى وابن حنبل وابن تيمية .. إلخ ).
وفى خضم كل تلك الأسماء المقدسة تناسى أولئك المسلمون أنه لا تقديس إلا لله تعالى فقط ولأسمائه فقط ، وأنه له وحده الأسماء الحسنى ولا ينبغى أن تكون لغيره أسماء حسنى ، ولا يصح الإلحاد فى أسماء الله تعالى بتغييرها أوبإطلاقها على البشر أو بمساواتها بأسماء البشر، فليست لأسماء البشر أى قداسة (وَلِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)( الأعراف 180 ) ، والمؤمن الحقيقى هو الذى يعتمل الوجل فى قلبه عند ذكر أسم الله تعالى ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ )( الأنفال 2 ) ، ولا يهتز قلبه بالخشوع عند ذكر إسم أى بشر مهما علا شأنه ، لأن العلو و التعالى هو لله جل وعلا وحده ، ولهذا نقول ( سبحانه وتعالى ) ، بل يقولها رب العزة فى التعليق على من يشرك بالله جل وعلا ، ونقولها تنزيها له جل وعلا عما يصفون ( الأنعام 100 ) ( النحل 3 ) ( الأنبياء 22 ) ( المؤمنون 91 ) ( النمل 63 ) ( الصافات 159 ، 180 ) ( الزخرف 82 )( الجن 3 )
3 ـ ليس فى الدين أمنيات ولا شفاعات :
نعود إلى سورة النجم وقد رأينا الأيات الكريمة الأولى فى هذا السياق تنكر عبادة الأسماء ، وتتهم المشركين بإتباع الظن والهوى مع أنه جاءهم من ربهم الهدى ، ثم يتساءل رب العزة : (أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى)(النجم 24 ) وهو جل وعلا يشير هنا الى (التمنى ) كملمح آخر من ملامح الأديان الأرضية. فهل يقوم دين الله على تحقيق أمنيات الإنسان ؟!! (أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى ) ؟.!! .هذا إستفهام إستنكارى ينفى قيام دين الله تعالى على إرضاء الأنسان ، بل هو على العكس ،هو إختبار للإنسان ،والاختبار يعنى حرية الاختيار ، فلكل إنسان مطلق الحرية فى الإيمان والكفر وفى الطاعة والمعصية، وفى إتباع القرآن الكريم وإلزام نفسه به أو إتباع الهوى وإتخاذه إلها يدخل به على القرآن الكريم ينتقى من آياته ما يؤكد هواه .
ليس الدين بالتمنى ، ولقد قالها رب العزة أيضا لنا ولأهل الكتاب (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ) ( النساء 123 ) فمن أهم الأمنيات لدى الانسان أن يدخل الجنة مهما أجرم ،بأن يجد الشفعاء والأولياء يدافعون عنه وينقذونه من العقاب ، ولذلك تكفلت الأديان الأرضية بخداع الناس باساطير الشفاعة والتوسط لدى الله جل وعلا ، وأقامت على أساس التمنى أساطير تنسبها لله جل وعلا ولأنبيائه . الله تعالى يؤكد عكس ذلك فليس للانسان ما يتمنى فى الدين ولا يتحقق له أيضا كل ما يتمناه فى الدنيا. نحن هنا نتكلم عن (الانسان ) بمفهومه القرآنى القائم على الغرائز والكفر و الأنانية واتباع الهوى. ومعروف عمليا أن ليست الدنيا بالتمنى ، وليس كل ما يتمنى المرء يدركه ،فكل إنسان يتمنى لنفسه كل المغانم والمزايا فى الدنيا ،ولا يحصل إلا على المقدر له سلفا من الرزق . ويتمنى لنفسه الجنة فى الأخرة ، ويريد كل ذلك بدون أى إلتزام ، وبدون أى تعب أو جهد أو جهاد ، مع أن الذى يملك الآخرة ويملك الأولى – أى الدنيا – هو الله جل وعلا وحده ، وهذا ما تؤكده الآية التالية (فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى)(النجم 25 ).
نفى التمنى ينفى أساس الشفاعة عند المشركين ، وهى التى تعنى أن العاصى مهما بلغ عصيانه فسيدخل الجنة ، وإن دخل النار سيخرج منها ، وكل ذلك بشفاعة البشر . هذا التمنى لا مجال له فى دين الله تعالى الحق .
4 ـ الرد على تقديس العرب الجاهليين للملائكة
وتلتفت الآية التالية إلى ملمح ثالث من ملامح الشرك ، كان سائدا وقتها، هو تأليه الملائكة باعتبارهم بنات الله وجعلهم متصرفين فى الشفاعة فى ملك الله تعالى دون إذنه أو إرادته – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وعن عبادتهم للملائكة يقول تعالى (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلا ضَرًّا)( سبأ 40-42 ) ، وكان من عادتهم - وعادة المشركين المستمرة – هى إتخاذ شفعاء ، أى هم الذين يقررون أن تلك الأسماء من المخلوقات ستشفع لهم عند الله ، والله تعالى رد عليهم فقال (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )(الزمر 43-44 ) ، ورد على عبادتهم وتقديسهم لأولئك الذين يزعمون شفاعتهم بإستفهام إستنكارى : هل تنبئون الله تعالى بما لا يعلم ؟!( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ : يونس 18 ). وتكرر نفس المعنى فى سورة النجم ، فقد كانوا يزعمون شفاعة الملائكة ، وعلى أساسها يعبدون الملائكة، ويرد رب العزة بأن شفاعة الملائكة لا تأتى إلا طبقا لأذن الله تعالى ورضاه (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى)( النجم 26 ).
وكانوا يطلقون على الملائكة أسماء مؤنثة ، فقال جل وعلا ردا عليهم:(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنثَى)( النجم 27 ) ، وزعموا أنها بنات الله - جل وعلا عن ذلك علوا كبيرا – وجاء الرد عليهم فى سورة النجم (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى )(النجم 21 ) وقال تعالى أيضا : (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ )(الصافات 150-154 ).إذن هى أحكام باطلة ، وهم كما قال تعالى عنهم فى سورة الأنعام (إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ: الأنعام 116 ).
لذا يتأكد نفس المعنى فى سورة النجم (وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا )( النجم 28 ) أى ليس لهم علم ، أنهم يتبعون الظن المنافى للحق .
ثم يأمر الله تعالى خاتم المرسلين وكل مؤمن بالإعراض عنهم لأن كل همهم وهواهم متعلق بالحياة الدنيا دون إيمان حقيقى باليوم الآخر (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا )( النجم 29 ).
وفى نهاية السياق يتكرر التأكيد بأن علمهم هذا قاصر متعلق بهذه الدنيا وبظواهرها ، وأن الله جل وعلا هو الأعلم بمن هو ضل عن سبيله ، وهو الأعلم بمن إهتدى (ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى )( النجم 30 ) .
هذا هو السياق المقصود فى سورة النجم ، ردا على المشركين وتأكيدا لجهلهم فيما يزعمون ، وبالتالى فإن العلم الحقيقى عن الدنيا والآخرة هو فى القرآن الكريم الذى أنزله ، الذى يعلم من ضل ومن يضل ومن اهتدى . وهذا العلم القرآنى محفوظ الى يوم القيامة ليهتدى به كل من أراد الهدى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ) ( البقرة 2 ) (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( المائدة 15 : 16 ).
رابعا ـــ سورة القلم : منهج القرآن يخالف منهج الشيطان :
1 ـ ويقول أيضا جل وعلا (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)( القلم 7 )
ونقرأ سياق الآيات الكريمة (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) ( القلم 1-7 ). ونتوقف معها بالتدبر .
2 ـ القرآن الكريم هو أهم نعمة من رب العالمين :
* كان عليه السلام قبل البعثة موصوفا بالصادق الأمين ، فلما نزل عليه القرآن إنهالت عليه الإتهامات بالسحر والجنون والضلال والغواية، ودافع عنه رب العزة فقال عن نزول القرآن الكريم : (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى )( النجم 1 :-4 ) ، (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ )( التكوير 19-23 ).وبذلك ينفى اتهام المشركين لخاتم المرسلين بالجنون و الضلال . وعليه فإن قوله تعالى ( مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ )( القلم 2 ) يعنى أن القرآن الكريم هو النعمة التى بسببها اتهموا محمدا عليه السلام بالجنون ، وتكرر نفس المعنى فى قوله تعالى لخاتم المرسلين :( فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ)( الطور 29 )
ووصف القرآن الكريم بالنعمة جاء فى قوله تعالى : ( وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ)( البقرة 231) فآيات الله فى القرآن الكريمة نعمة الاهية يجب على المؤمنين ذكرها و العمل بها . وفى أوائل ما نزل من القرآن الكريم أمر الله جل وعلا رسوله بأن يتحدث للناس بالقرآن : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ )(الضحى 11 ) أى أن محمدا عليه السلام كان مأمورا بالتحدث فى الأسلام بالقرآن الكريم فقط وهو – أى القرآن – نعمة الله جل وعلا ، ولو أنكرها الكافرون المعاندون فما عليه سوى البلاغ : ( فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ )(النحل 82 ـ 83 ) وعن إكتمال القرآن الكريم يقول جل وعلا ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)( المائدة 3 ).
ولأرتباط القرآن الكريم بالكتابة جاء القسم الألهى فى بداية السورة بالقلم وما يسطره (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ : القلم 1 ) ، كما جاء فى السورة الأولى الأمر بالقراءة ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) ( العلق 1 : 5). ثم جاءت الأية التالية تنفى إتهامه بالجنون بسبب ما نزل عليه من نعمة الله تعالى فى القرآن الكريم:( مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ )( القلم 2 )

وتعده الآية الثالثة بالأجر العظيم (وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ )( القلم 3 ).
وتؤكد له الأية الرابعة أنه على خلق عظيم (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ( القلم 4 ) ، والخلق فى المصطلح القرآنى ليس الأخلاق ولكن المنهاج سواء كان منهاجا عظيما كالقرآن ، أو منهاجا متوارثا يناقض الحق كقول المشركين من قوم عاد للنبى هود عليه السلام (قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ )( الشعراء 136-137). هنا ( خلق الأولين ) أى منهاج ( السلف الصالح ) عندهم وما وجدوا عليه آباءهم ، أو كما قال الله تعالى فى وصف المشركين فى كل زمان ومكان ( إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ )( الصافات 69-70 ) .
وتقول الأية الخامسة والسادسة (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ )( القلم 5-6 ) أى سيأتى اليوم الذى يبصر فيه النبى من سيكون خاسرا مفتونا. ثم يأتى التأكيد بعدها بأن الله جل وعلا هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)( القلم 7 ).
ثم تاتى الايات التالية تعرض لمنهج المشركين : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ) ( القلم 8 : 16 )
وهنا أيضا يدور السياق حول القرآن الكريم الذى جاء فيه علم الله تعالى فى القرآن الكريم بملامح الشرك والإيمان ، والفارق بينهما، ومطلوب منا أن نتدبره ونتعقله ونتعلم منه.

ختاما ـــ
المستفاد مما سبق أن القرآن الكريم هو سبيل الله جل وعلا فى الايات السابقة . يؤكد هذا أن القرآن الكريم من معانى سبيل الله تعالى ، يقول تعالى عمّن يصدّ عن القرآن الكريم سبيل الله جل وعلا : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )( لقمان 6 : 7).
ويقول تعالى عن علماء السوء فى كل زمان ومكان : ( اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) ( التوبة 9 ) . ويقول عمن يتعامى عن القرآن الكريم الذى هو ذكر الله وسبيل الله : (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ )( الزخرف 36-37 ).
وجاء فى سياق سورة محمد (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ )فالسبيل هنا هو ما انزله الله تعالى على خاتم المرسلين ، ويقول جل وعلا عن بعض الصحابة المنافقين فى نفس السورة:( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) ويؤكد نفس الحقيقة عن مصير من يصدّ عن القرآن الكريم ـ سبيل الله جل وعلا : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ)( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ)( محمد 1 ،2،9 ، 32 ، 34 ).
وعن مصيرهم يوم القيامة يقول جل وعلا : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)(الفرقان 27 ) فالذى يتنكب سبيل الله هو الذى يهجر القرآن الكريم .
والسبيل يعنى الطريق ويعنى الصراط ، والقرآن الكريم هو الصراط المستقيم الذى يجب على المؤمن إتباعه وحده : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )( الأنعام 153 ) ، ويقول جل وعلا عن القرآن الكريم :(وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)(الأنعام 126 ) ويقول جل وعلا :(يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ )( يــس 1 : 5 ) ،ويقول لخاتم المرسلين :( فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ) ( الزخرف 43 : 44 ) . وقوله جل وعلا هنا (إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) هو نفس قوله تعالى (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ).
وندعو الله جل وعلا أن نكون ممن يتمسك بالقرآن الكريم الصراط المستقيم وسبيل رب العالمين .
ومن التمسك بالقرآن الكريم أن نتعلم منه الهدى فنتبعه ، و نتعرف منه على ملامح الضلال فنبتعد عنها .
وفى هذا المقال رؤية قرآنية لبعض ملامح الضلال التى نبه عليها رب العزة جل وعلا.
وفى المقال التالى وقفة تدبر مع علم الله تعالى المقصود فى الاية الكريمة .

اجمالي القراءات 26645