أتابع وقائع ما يقول عنه الإعلام المصرى الرسمى إنه اكتشاف «لخلايا» سرية، تابعة لحزب الله (اللبنانى). وتقوم بالضلوع فى تهريب الأسلحة، عبر سيناء (وهى أرض مصرية) إلى حركة حماس (الفلسطينية)، وأن مصدر هذه الأسلحة «إيرانى». وأن ذلك ينطوى بالطبع على انتهاك لقوانين مصر، ويُهدد أمنها.
وليس لدى مصدر آخر غير الإعلام الرسمى المصرى، للتأكد أولاً من صحة الوقائع الواردة فى الخبر، فضلاً عن دقتها. ولأن سجل هذا الإعلام فى السنوات الأخيرة لا يوحى بكثير من المصداقية، فقÏIuml; تلهفت على إعلام مصرى غير رسمى، أو غير حكومى، لأرى ما يقول عن نفس الموضوع. فصادفت اثنين، أحدهما إلكترونى، والآخر هو صحيفة «الدستور» المصرية المستقلة. وهما معاً نقلا ردود فعل شرائح من الرأى العام المصرى التى تتعامل مع الإنترنت.
وفحوى ما نقلاه هو أن أكثر قليلاً من ٦٠% لا يُصدقون ما تقوله الحكومة المصرية. وفقط حوالى ٢٠% هم الذين يُصدقون، والبقية (٢٠%) ما زالوا بلا رأى. ويقول الموقع الإلكترونى إن أكثر من ٢٢ ألفاً قد شاركوا فى الاستطلاع.
وما جعلنى أهتم بمتابعة هذا الموضوع عن بُعد، هو أن مركز ابن خلدون كان أثناء وجودى فيه، قد أجرى استطلاعاً للرأى العام المصرى منذ ثلاث سنوات، وبالتحديد فى خريف ٢٠٠٦، حول «الشخصية العامة الأكثر شعبية». ومن ثلاثين شخصية، اختارها المصريون أنفسهم، جاء السيد حسن نصر الله، زعيم حزب الله، فى المركز الأول.
وتلاه مُباشرة السيد خالد مشعل، زعيم حركة حماس. وجاء فى المركز الثالث، الرئيس الإيرانى أحمدى نجاد. وجاء مصريون مثل المستشار هشام البسطويسى، ود. أحمد زويل، ود. محمد البرادعى، وأيمن نور، وعمرو خالد، ومهدى عاكف، فى المراكز التالية ضمن العشرة الأوائل.
وربما يُفسر استطلاع مركز ابن خلدون قبل أربع سنوات، لماذا لا يُصدق أغلبية المصريين إعلام حكومتهم. أو ربما يشعرون بأنه حتى لو كانت الوقائع التى سردها ذلك الإعلام صحيحة ـ أى وجود خلايا أو فرع لحزب الله فى مصر، ويقوم أعضاؤه بتهريب السلاح لحركة حماس ـ فإنهم لا يعتبرون ذلك «مؤامرة» أو «جريمة» بالمعنى الجنائى، الذى تتبناه حكومتهم، وتُريد مُحاكمتهم عليه.
بتعبير آخر، فإن مُعظم المصريين الذين أدلو بدلوهم فى الموضوع، هم أكثر تعاطفاً مع حزب الله، منهم مع حكومتهم. وكما يقول المثل الشعبى: «حبيبك يبلع لك الزلط، وعدوك يتمنى لك الغلط». وكانت عادة مُعظم المصريين أن يتماهوا مع كل ما هو «وطنى»، ضد كل ما هو أجنبى سواء فى الرياضة أو الفن أو السياسة. ولكن يبدو أن ذلك قد تغير فى السنوات الأخيرة ـ وتحديداً زاد الانفصال بينهم وبين «الحكومة».
أو ربما أصبح لديهم إحساس أنها لم تعد «حكومتهم»، حتى لو أصرت هذه الأخيرة على ذلك، أو فرضت نفسها بالقوة عليهم. إن ظاهرة «الانفصال» هذه بين «الشعب»، مُمثلاً فى الرأى العام، و»الحكومة» تستحق الرصد والتحليل والمُتابعة، من عُلماء الاجتماع والسياسة.
ولكن لموضوعنا جانب آخر، كما ورد فى العنوان وهو «سحر المُقاومة...». لقد دخل مفهوم المُقاومة لغتنا العربية حديثاً نسبياً. فارتبط منذ أواخر القرن الثامن عشر، بالتصدى للمُحتل الأجنبى... وكان فى حالة مصر فى ذلك الوقت هو الحملة الفرنسية، بقيادة نابليون، ثم كليبر، ثم مينو... وكانت المُقاومة تبدأ عادة من الجامع الأزهر، وبقيادة رجال الدين... وكانت هناك كلمات مترادفة لمفهوم «المُقاومة» ـ مثل «هبّة»، و»هوجة»، و»ثورة»، و»عصيان»، و»تمرد»، و»انتفاضة».
ولكن توارت مُعظم هذه المُرادفات تدريجياً، وظل لفظ «المُقاومة» هو الأكثر استخداماً، لأنه الأكثر عمومية ودلالة على «حالة الرفض»، لوضع قائم، سواء كان هذا الوضع بسبب عوامل خارجية (مثل الاحتلال، أو الاستعمار، أو التدخل السافر)، أو عوامل داخلية (مثل القهر، أو الفساد، بواسطة أنظمة فاقدة للشرعية من أبناء الوطن أنفسهم).
وقد أضفى الفرنسيون على لفظ «المقاومة» سحراً رومانسياً، أثناء الحرب العالمية الثانية، بعد احتلال ألمانيا النازية لبلادهم، وانهيار المؤسسة العسكرية الفرنسية الرسمية، خلال أيام من الهجوم الألمانى الخاطف. فكانت المُقاومة الشعبية هى البديل.
وقد أذكاها الشُعراء، والكتّاب، والفنانون، والطلبة. وشملت إلى جانب المُقاومة المُسلحة ألواناً شتى من العصيان المدنى مثل المُقاطعة، والتوقف عن أو التباطؤ فى العمل، وتعطيل القطارات، والاعتصام، والتظاهر. وتدريجياً انضم كل الفرنسيين، إلا قلة منهم، إلى «المُقاومة» (le Resistance)... ولأنها أخذت مظاهر ومُستويات مُتعددة، فقد استوعبت المُقاومة كل الفئات، وكل الأعمار.
وظل هذا المعنى الرومانسى يُخلب خيال الفرنسيين، ومعهم بقية أوروبا التى كانت بُلدانها قد تعرضت أيضاً للاحتلال الألمانى النازى، إلى الوقت الحاضر. حتى إنه حينما ثارت شعوب أخرى على الاستعمار الفرنسى بعد الحرب العالمية الثانية ـ مثل الجزائر والمغرب وتونس ـ كان استخدام لفظ «المُقاومة» كفيل بكسب تعاطف قطاع كبير من الرأى العام الفرنسى ضد حكومة بلاده.
ولأن اليهود فى أوروبا تعرضوا خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى للاضطهاد على يد ألمانيا النازية، وشارك يهود أوروبيون فى مُقاومة الاحتلال النازى، فإنهم وأبناءهم وأحفادهم من بعدهم يتعاطفون مع «المُقاومة»، حتى لو كانت مُقاومة فلسطينية ضد إخوة لهم فى إسرائيل. ولعل مثال جون بول سارتر فى فرنسا، وناعوم تشومسكى فى أمريكا أبلغ دليل على ذلك.
وبالنسبة للمصريين والعرب فإن التعاطف مع «المُقاومة» سواء فى فلسطين أو لبنان أو العراق هو فى شىء منه جزء من التأثر بفرنسا خصوصاً وأوروبا عموماً. ولكنه فى الجزء الأكبر منه هو التماهى مع أبناء أمة عربية واحدة وشعوب شقيقة، يُقاوم بعض أبنائها قوى شديدة البأس وأكثر منهم عدة وعتاداً، ومع ذلك فهم صامدون، مُقارنة بجيوش حكوماتهم النظامية، التى لم تصمد أمام نفس العدو فى مُناسبات سابقة، مثلما صمد مُقاتلو حزب الله فى لبنان، خلال صيف ٢٠٠٦، ومثلما صمد مُقاتلو حماس خلال شتاء ٢٠٠٨.
بتعبير إضافى آخر، فإن سحر المُقاومة فى الحالة العربية، ينبع لا فقط من «عدالة» قضية من يُقاومون، ولكن أيضاً من «بسالة» هؤلاء المُقاومين، مُقارنة بخذلان وخيبة الأنظمة العربية الحاكمة. «فالعدالة» و»البسالة» هما قيمتان إنسانيتان يصبو إليهما كل العرب من الخليج إلى المُحيط. فإذا لم يحسمهما فى هذه اللحظة إلا حزب الله وحماس، فلا تثريب على المُعدمين فى الأرض العربية إن هم تعاطفوا معهما. ولا غرابة إذا أدى هذا التعاطف بالمصريين أن يُقرقشوا لهما الزلط، ويتمنون لحكومتهم الغلط.
والله أعلم.