1 ـ أؤكد مجددا إعجابى بما يكتبه الاستاذ محمود دويكات فى مقالاته وتعليقاته ، فهو يجمع بين الاسلوب العلمى المنهجى فى تدبر القرآن الكريم ، واستخلاص حقائقه ، وتقديمها فى صورة مبسطة منظمة ، وهو فى تعليقاته عالى الخلق رفيع الاسلوب.
وفى مقاله الأخير أبدع فى تحليل قصة السامرى و موقف موسى عليه السلام منه ، وجاءت تعليقات جيدة وممتازة عليه ، وأحببت أن أشارك فيها ، ولكن قررت أن أجعلها مقالا ، ليس فقط احتفالا بالاستاذ دويكات ـ وهو يستحق هذا ـ ولكن أيضا لنتدرب معا على كيفية توليد أفكار جديدة من خلال التعليقات، خصوصا إذا كان الموضوع فى تدبر القرآن الكريم ، وهناك درجات فى فهم النّص القرآنى ، وبالتعليقات يمكن أن نقوم بعصف عقلى وذهنى يتفتق عنه أن يرزقنا الله جل وعلا ببعض كنوز القرآن الكريم.
2 ـ فى مقاله استخلص الاستاذ دويكات من قصة السامرى أهمية حرية الفكر و المعتقد ، يقول : (إن أهم ما نستفيده من هذه القصة هو ضمان الحرية الفكرية للأفراد و ضمان حرية المعتقد للناس.... فرغم عظم الفعلة التي قام بها السامري ـ لم يقم موسى بمعاقبته مطلقا ، بل تركه يذهب و شأنه. كل ما فعله موسى (كرسول من عند الله) هو تذكير الناس بالحق و العودة الى الله . إن فرض عقوبات بدنية – كالحبس و غيره – على الاشخاص لمجرد أنهم قد جاؤوا بفكر مخالف، أو بحجة خروجهم من الملة ، هو أمر مرفوض و مخالف تمام المخالفة لما يريده الله. فالله قد أوحى لموسى باسم الفاعل ، و لكنه لم يوحي اليه و لم يأمره بأي شيء تجاه الفاعل ، بل ترك السامري يرفل في الحرية متحملاً وزر ما فعله عندما يلقى ربه يوم الحساب ).
3 ـ ولكن تبقى فى قصة موسى مع قومه بعض قضايا متعلقة تستلزم العصف العقلى والتدبر القرآنى ، وسأعرضها، دون أن أبدى فيها ـ الان ـ رأيا لنناقشها معا.
أولا : ـ
يقول تعالى ( قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ) ( طه 97 ). وبغض النظر عن معنى (لا مِسَاسَ ) هل تعنى تركه والاعراض عنه ،أم أنه أصيب بمرض جعله يبتعد عن الناس ويبتعد عنه الناس ، فان الواضح إن هناك عقابا وقع على السامرى بأن تم إبعاده أو طرده.
وهنا اختلاف عما نعرفه فى شريعة القرآن فى التعامل مع أمثال السامرى ، وهم كثيرون فى تاريخ المسلمين ، ولكن التعامل معهم ليس بالطرد والاكراه فى الدين.
ثانيا : ـ
بل وقع العقاب على صنم العجل فتم تدميره (وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ). وليس فى شريعة القرآن تدمير للأصنام والأوثان بل مجرد إجتنابها ، وهذا يعنى أن تظل موجودة ولكن نبتعد عنها ، وهنا نتذكر قوله جل وعلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( المائدة 90) (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ) ( الحدج 30 ـ )
ثالثا :
إن الله جل وعلا قد توعد أتباع السامرى بالعذاب فى الدنيا عقوبة لهم على إتخاذهم العجل (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ) ( الأعراف 152 ). ونفهم من الاية التالية أن هناك من تاب منهم وتاب الله تعالى عليه ، ومنهم من استمر ، وعقوبته مؤكدة من الله تعالى فى الدنيا قبل الآخرة ، تقول الآية التالية : (وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .
رابعا :
والمفهوم من القرآن الكريم أن بنى اسرائيل لم يخضعوا لموسى تماما ، وكانوا يستضعفون هارون وكادوا يقتلونه(قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) (الأعراف 150 ) ، وأستمر عصاتهم فيما بعد فى قتل الأنبياء : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ) ( البقرة 61) (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ )( المائدة 70 ).
أى إن العقوبة تكفل بها الله جل وعلا فى الدنيا ، تماما كما تكفل لهم بالمنّ والسلوى ، كما تكفلت لهم عصا موسى بتفجير الصخر 12 عينا لكل قبيلة مشربها (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )( وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ( البقرة 57 ، 60 ).
وكان من العقوبة التى طلب موسى من قومه ان يطبقوها على أنفسهم :أن يقتلوا أنفسهم عقوبة على اتخاذهم العجل (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)( البقرة 54 ). لم يستطع موسى تطبيق العقوبة عليهم فطلب منهم أن يقيموها على أنفسهم ، ولكن الله جل وعلا تاب عليهم . وفى كل الأحوال فقد كان أغلبهم أميل الى العصيان والجدال كما فعلوا فى أمره لهم بذبح البقرة. ( البقرة 67 ـ ).
المقصود أنه حتى مع عدم طاعتهم لموسى إلا إن موسى طلب منهم قتل أنفسهم عقوبة على عبادة العجل .
ختاما :
والسؤال الآن : هذا الاختلاف بين التشريع القرآنى فيما يخص حرية الرأى و الفكر والاعراض عن المشركين لماذا نفتقده هنا فى قصة موسى مع قومه ؟
أهلا بكم .. ولنفتح باب النقاش ..