سنبدأ بإذن الله في تدبر بعض آيات القرآن والتي يحتج بها أهل السنة علينا ، في الأخذ بالحديث على أنه وحي وأن رفضه يعتبر إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة ، وقد بدأنا بعون الله سبحانه وتعالى وتوفيقه الثمانية عشر آية الأولى من سورة النجم ، فإلي رحاب السورة والله الموفق.
(والنجم إذا هوى) يقسم الحق سبحانه وتعالى بالنجم ، وهو سبحانه يقسم بمخلوقاته تعظيما لذاته أن أحدا من العالمين لا يستطيع أن يخلق بعوضة ، ولكنه سبحانه وتعالى خلق النجم ، وهو أسم علم ينطبق على أي نجم من النجave;وم ، قد يكون الثريا وقد يكون نجم آخر أو مجموعة نجوم أو حتى كل النجوم ، ولكن القسم كان في حالة النجم الذي يهوى ويتساقط من ذرا السماء العالية إلي ثرى الرماد ، أو ذلك الذي يهوى به الله على من يسترق السمع من الجن ، مصداقا لقوله تعالى "وانا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الان يجد له شهابا رصدا" الجن 9 ، هو قسم لو تعلمون عظيم بالنجم الذين ترونه بأعينكم ولكن لا تقدرون عليه أن تحيطوا به أو تتمكنوا منه ، وهو صورة جلية من إظهار مدى العجز البشري أمام ظواهر الطبيعة وشخوصها ومنها النجم العالي ، ولكنه يهوى بإرادة الخالق سبحانه وأمره ، فاسمعوا واعوا ، أنتم لستم أرباب ولا آلهة تعجزكم ظواهر الطبيعة ولا يقدر عليها إلا من يحدثكم بهذا القرآن (الله) رب العزة سبحانه وتعالى ، كما أنكم لن تعجزوه أبدا ، هو الذي لم يعجزه النجم وجعله يهوى سقوطا أو عقابا لمخلوقاته من الجن.
(ما ضل صاحبكم وما غوى) ما النافية لجنس الضلال عن رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام ، فلم يكن وليس بكائن ولن يكون ضالا ، والضلال نوعان ضلال الغفلة لقوله تعالى"نحن نقص عليك احسن القصص بما اوحينا اليك هذا القران وان كنت من قبله لمن الغافلين" يوسف3 ، وضلال السعي مصداقا لقوله تعالى"الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا" الكهف104 ، أما ضلال الغفلة (الفكر) يكفيه عدم معرفة الحق لقوله سبحانه وتعالى"فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق الا الضلال فانى تصرفون" يونس32 ، وكان إبراهيم عليه السلام في هذا الباب غافلا إلي أن هداه الله "قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الضالين" الأنعام77 ، وكان محمد عليه الصلاة والسلام في هذا الباب غافلا إلي أن هداه الله "ووجدك ضالا فهدى" الضحى 7 .
وسبحانه من قال "قل هل من شركائكم من يهدي الى الحق قل الله يهدي للحق افمن يهدي الى الحق احق ان يتبع امن لا يهدي الا ان يهدى فما لكم كيف تحكمون" يونس35 ، لا ياربي ويارب كل الأرباب لا يوجد من يهدي للحق من شركائهم الذين يعبدونهم أو من غيرهم ، ولكنك أنت وحدك تهدي للحق وقد هديت ابراهيم الخليل بعد حيرة وضلال ومحمدا الحبيب بعد ضلال ، فالحمد لك يا الله ندعوك متوسلين خائفين مذعورين أن تهدينا بهدايتك التي قلت عنها "انك لا تهدي من احببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو اعلم بالمهتدين" القصص 56 ، فاجعلنا ياربنا ويا إلهنا ممن تشاء وممن تعلم لهم الهداية فهدايتك لنا هي النجاة ، وغضبك علينا الهلاك مؤمنين بقولك "وان يمسسك الله بضر فلا كاشف له الا هو وان يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم" يونس 107 ، فنجينا من ضر الضلال وأكتب لنا خير الهداية يا غفور يا رحيم
أما عن ضلال السعي هو إرتكاب المحرمات يظن الضال ويحسب أنه يسير في الطريق الصحيح مصداقا لقوله تعالى "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)[سورة الكهف] ، وهذا الضلال منزه منه الرسل والآنبياء ، وهم الذين كان سعيهم مشكورا ضمن الشكر العام لسعي المؤمنين وهم منهم حصرا لقوله تعالى" ومن اراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فاولئك كان سعيهم مشكورا" الإسراء19 ، والأنبياء لاسيما حبيبنا ورسولنا محمد عليه أفضل صلاة وأتم تسليم هم أولى الناس بالايمان ، وكما نفى رب العزة سبحانه عن رسوله الضلال فقد نفى عنه أيضا الغواية ، والغواية هي الضلال عن علم ، فأرتباط العلم بالضلال غواية ، والغواية من الغي ، والغي هي إرادة الكفر والضلال ، والتي تتعدى فاعلها كالضلال ، لتغوي أفراد أخرى تتأثر بصاحب الغي ، لذلك قال الله عمن يغوي الناس "بئسما اشتروا به انفسهم ان يكفروا بما انزل الله بغيا ان ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين" البقرة90
فرسول الله محمد ما ضل بل هو يدعوا لله الحق سبحانه وتعالى ، وما غوى يطلب من الناس عبادته أو يدعي لهم العلم بالغيب أو النجاة من النار بدون عمل ، وما ضل وما غوى عن كتاب الله القرآن الكريم الوحي الذي تنزل به جبريل على قلبه ليكون من المرسلين فكان وما قصر وبلغ وما أخفى وأدى فأتم عليه صلاة الله وسلامه وله من الله الحب والرضوان وجنة النعيم مع المنزلة الرفيعة العالية.
والنكتة العالية والبرهان الساطع أن قال (صاحبكم) أي هو صاحبكم في الزمان والمكان فتعلمون حاله ، فلم يكن بينكم كذاب ولا نمام ، بل صادق أمين تعلمون أخلاقه وتعرفونها ، فكيف بكم تتصورون أنه أعتراه الضلال و الغواية فجأة ، بل هو يحدثكم بالحق ، والله يذكركم بصفة المصاحبة فهو صاحبكم ، وفي ذلك دليل من رب العالمين على أن المصاحبة تكون للبر والفاجر والمهتدي والضال ، وليس كل من قيل عنه صحابي عدل ، كما يقولون (الصحابة عدول) ومنهم بنص القرآن من كذب وأتهم ، ولكن نقول فيهم تلك أمة قد خلت ، لها ما كسبت ولا نسأل عما فعلت وأمرها لله
(وما ينطق عن الهوى) ، ما ينطق محمد عليه الصلاة والسلام بهذا القرآن عن الهوى ، وهنا ما النافية للنطق بجنس الهوى جعلتهم يقولون أن كل كلامه وحي ونقول لهم على أمرين لا ثالث لهما ، أما أنه أمر بحفظ كل كلامه حتى ما هو خارج عن القرآن أو لم يأمر ، فلو قالوا أمر بحفظه على ما فيه من ضعيف وموضوع ودرجات في الصحة ، وما أعتراه من ظن نقول لهم بئس الدين القائم على الظن والضعف ، ولو قالوا لم يأمر بحفظه نقول أنه حتى ولو سلمنا جدلا بأنه وحي فليس من قبيل الوحي الآمر ، وليس من قبيل الوحي المأمور رسول الله عليه أصلي وأسلم بتبليغه وإلا ما قصر ، ولكن نقول أنه رغم أن ما نافية لجنس النطق بالهوى ، فهي تخصص على القرآن لسياق الآيات في باب التعليم ، (علمه شديد القوى) على نحو ما سيأتي ، ولعتاب ربه له في مقام النبوة عندما حرم على نفسه الطعام من اجل زوجاته وعبس وتولى في وجه الأعمى ، فبتقدير الأدلة نخصص النص في قوله (وما ينطق عن الهوى) على القرآن .
ثم أنه رغم أن النطق مطلقا في ورود النفي عليه ،أي نفي أن ينطق الرسول بالهوى ، ولكن النص القرآني جاء خطابا للمشركين والكفار الذين رموه بالشعر والسحر والكهانة ، وذلك كله قرين الكذب فجاء النفي محمولا على النص المبلغ وهو القرآن ، خاصة أنه صاحبهم الذي عرفوه بالصدق منذ البداية ، والله تعالى أعلم
(إن هو إلا وحي يوحى) إن هو أسلوب قصر عائد على القرآن الكريم ، أي أن القرآن الكريم وحي يوحى ، والتكرار في قوله وحي يوحي ، دلالة على تكرار وحيه ، أوحى به الله لجبريل الذي أوحاه لمحمد مصداقا لقوله سبحانه وتعالى "وما كان لبشر ان يكلمه الله الا وحيا او من وراء حجاب او يرسل رسولا فيوحي باذنه ما يشاء انه علي حكيم" الشورى 51 ، كما أنها تفيد تكرار النزول أي أن القرآن نزل منجما على عمر الرسالة الإسلامية للدين الخاتم ، وحي يوحى تكرارا وتباعا ، تكرارا من الله لجبريل ومن جبريل لمحمد وتباعا ليس مرة واحدة بل مرات عديدة بحسب الأحداث والاحتياج ، كما أن الأسلوب في قوله (وحي يوحى) أسلوب تأكيد بنسبة الكلام إلي من أوحى به وهو الله سبحانه وتعالى.
(علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى) ، علمه الهاء تعود على محمد عليه الصلاة والسلام ، أي علم محمد شديد القوى القرآن ، وتعود على القرآن أي علم القرآن شديد القوى لمحمد ، وصحة حمل الضمير على الأثنين (القرآن) و(الرسول) تعني الاتحاد في الوصف على الحال ، فالقرآن (الرسالة) هو (الرسول) عند النطق بالوحي ، والرسول هو (القرآن) الرسالة عند نطقه بالوحي ، فتخصص كل أفعال طاعة الرسول على ما جاء به من الرسالة ، وسبحان من يفتح قلوب غلفى بنور القرآن العظيم وتدبر آياته ، وشديد القوى هو جبريل عليه السلام الذي مدحه ربه في غير ذي موضع فقال عز من قائل " انه لقول رسول كريم (19) ذي قوة عند ذي العرش مكين(20) [ التكوير] ، فهو ذي قوة وهو شديد القوى ، ولا عجب وهو وحي رب العالمين إلي أنبياءه ورسله ، يتلقى منه سبحانه مؤتمن على ما تلقى ثم ملقيه في قلب من يتلقى دون خطأ أو شطط أو إنحراف ، وهو رغم كونه شديد القوى فهو ذو مرة أي ذو عقل راجح ورأي حصيف ومرور دائم ، كما تحمل على الحسن في الشكل والهيئة ، فجبريل عليه السلام وإن كان شديد القوى فإن ذلك مرتبطا بمظهر حسن سوي وعقل راجح ورأي حصيف وهو دائم المرور على الرسول عليه الصلاة والسلام ، فاستوى خلقا وخلقة ، وتمكنا من الأمر وأستوى على شكله الذي خلقه عليه رب العزة سبحانه وتعالى وقد ظهر به لمحمد عليه الصلاة والسلام ، وكل ذلك في باب المدح لجبريل عليه السلام ، فلما كان الوحي هذا حالة فقد تعدى مدحه لمدح ما أوحي به ، فلو لم يكن القرآن رسالة السماء ، ولو لم يكن كلام الله وهدايته للبشر ورحمته للعالمين ، ما كان حامله ووحيه بهذه الصفات الحميدة.
(ثم دنى فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى) ، ودنى جبريل وتدلى ، ودنوه من الرسول عليه الصلاة تفيد القرب ، والقرب يفيد صحة التلقي وعدم الإبهام ، والتدلي يفيد الحضور من أعلى إلي أسفل ولم لا وهو قادم رسول رب العزة سبحانه إلي البشر الذي هبط أبوهم آدم من الجنة ، فكان كل وحي إلي البشر يفيد الحضور هبوطا ، فتدلى جبريل من عال إلي أسفل ، كما يحمل التدلي على التعلق ، فيكون المعنى دنو جبريل عليه السلام من الرسول ثم جائت (ف) السببية ، فتعلق بالرسول وتعلق به الرسول عليهما السلام ، والتدلي يحمل على شدة التعلق ، وكان قاب قوسين أو أدنى من ذلك ، وقاب القوس تطلقه العرب على شدة القرب كقرب الوتر من القوس على إتساع شدته ، فكان التلقي بوضوح ، كما يفيد النص منزلة كل منهما الرسول والمرسل إليه وهو بدوره رسول ، وهي منزلة عظيمة يدنوا أحدهما من الآخر والمسافة بينهما قاب قوسين ، فكان الوحي هو القرآن ولا شيء غير القرآن ، لإستحالة تخيل هذا الوضع في كل كلام النبي ، وهو الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج ويسافر ويحارب ويقضي بين الناس ويعلمهم على ما يحتاج ذلك من كثرة نطق فلو كان كل كلامه وحيا لافترضنا بقاء حاله مع جبريل على الدنو والتدلي والقرب قاب قوسين أو أدنى ، مع إستحالة تصور ذلك أو حمله على كل كلام النبي ، والله تعالى أعلم
(فأوحى إلي عبده ما أوحى) والوحي من الوحى (بفتح الواو والحاء والياء) والحى هو إلقاء الشيء بسرعة ، وقد أوحى (من) الذي أوحى ، على وجهين أوحى الله سبحانه وتعالى إلي عبده والضمير في الهاء عائد على رب العزة سبحانه وتعالى ، والوجه الثاني أوحى جبريل إلي عبد الله محمد عليهما السلام وحي الله على التسلسل بأن أوحى الله لجبريل والذي أوحى بدوره إلي محمد عليهما السلام ، والوجهين بإذن الله صحيحين لأن المصدر في كليهما الله سبحانه وتعالى ، وما يعضض المعنى الأول (الهاء) في عبده عائدة إلي الله سبحانه وتعالى فيكون ضمير الغائب في (أوحى) عائد إلي الله سبحانه وتعالى وهو المشهور من كلام العرب ، كأن أقول لك أرسلت لك كتابي مع أن كتابي أرسل إليك بيد رسول أخترته بنفسي ، أما ما يعضض الوجه الثاني أن سياق الكلام في الآيات السابقة بين جبريل ومحمد عليهما السلام ، ولا يوجد مايصرف المعنى عنهما فيظل الموحي جبريل بما أوحى الله له ، (ما أوحى) وما هنا أسم موصول بمعنى الذي فيكون أسم إشارة عائد على القرآن كله ، ويمكن اعتبارها ما المصدرية ، فمصدر الوحي من الله ، وقد حددها البعض بقوله ألم يجدك يتيما فأوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى ، وقوله ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وذرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك ، والأولى اعتبارها ما المصدرية وعائدة على كل القرآن من مصدره (بضم أوله وكسر ما قبل آخره) وهو الله سبحانه وتعالى ، والله تعالى أعلم
(ما كذب الفؤاد ما رأى) قالوا رأى ربه سبحانه وتعالى ، وقالوا رأه بفؤاده وليس بعينه ، لقوله سبحانه وتعالى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) ، ونقول أن رؤية الله سبحانه وتعالى مستحيلة لقوله سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام عندما قال رب أرني أنظر إليك ، قال لن تراني ولكن انظر الى الجبل فان استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما افاق قال سبحانك تبت اليك وانا اول المؤمنين ، فنفى سبحانه الرؤيا على الأطلاق بقوله (لن تراني) ، كما أن قوله سبحانه (لا تدركه الأبصار) ولم يقل سبحانه (لا تراه الأبصار) يحمل على معنى الإدراك بنفي إدراك جميع حواس الجسم بما فيها الفؤاد لرب العزة ، كما أن السياق القرآني يتحدث عن علاقة بين جبريل ومحمد عليهما السلام ، فيكون نفي كذب الفؤاد رؤية جبريل عليه السلام بهيئته الملائكية وهي آية كبرى ، لأنها هيئة عظيمة فجبريل مخلوق عظيم مقرب من رب العزة سبحانه وتعالى ، والله تعالى أعلم
(أفتمارونه على ما يرى) ، وهذا دليل على صدق ذهابنا أن الفؤاد رأى جبريل على صورته الملائكية ، لأن الكفار والمشركين ما فتئوا يكذبون الرسول في أمر الرسالة ويقولون ساحر مجنون ويقولون أفتراه ، وهذا هو المراء بعينه لأن أصله المجادلة ، وقت جادلوه في أمر الوحي كثيرا ، وجادلوه أيضا مكذبين في رؤيته للوحي والله تعالى أعلم
(ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى) رأى جبريل مرة ثانية عند سدرة المنتهى ، وهنا تكون الآية دليل على المعراج أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أعرج به للسماوات السبع وقد وصل لسدرة المنتهى عند جنة المأوى وهناك أيضا رأى جبريل عند سدرة المنتهى ، وهذا ما عليه الكثير من المفسرين منسوبا للصحابة بل وللرسول نفسه ، ولنا رأى يعلم الله مدى صحته ، أن الفعل الماضي هنا يحمل على المستقبل في قوله (ولقد رآه نزلة أخرى) على نحو قوله تعالى " وسيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة زمرا حتى اذا جاؤوها وفتحت ابوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين" الزمر 73 ، والمعلوم ضرورة أن الحساب لم يأتي بعد وأن أحدا لم يدخل الجنة أو النار بعد وسيكون هذا بعد الحساب ويوم القيامة الذي لم يأت بعد ، ومع ذلك جاء النص القرآني بصيغة الماضي أنهم سيقوا فعلا إلي الجنة وجاؤها بالفعل وفتحت لهم أبوابها وتكلمت معهم خزنتها ، وهذه لغة القرآن التوكيدية ، لأن رب العزة سبحانه لا يكذب وهو القادر على كل شيء وهذا الحوار سيحدث فعلا فكان في علم الله في الأزل كما هو في الأجل ، فجاء النص بالماضي ليؤكد قضاء الله حدوثه ، وقد نفهم هذه الآيات بنفس الطريقة فستكون الرؤية الثانية عند سدرة المنتهى والتي عندها جنة المأوى ، وهي المحطة الأخيرة لمن عبد الله وأتبع الرسول ، لقوله سبحانه وتعالى" اما الذين امنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات الماوى نزلا بما كانوا يعملون " السجدة 19 ، وعلى ذلك يجوز حمل الماضي على المستقبل لأن جنة المأوى لم يدخلها أحد بعد لكونها جنة ثواب بعد حساب لم يحدث بعد ، إذ يغشى السدرة ما يغشى من الملائكة الذين هم حافين من حول العرش ويسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا ، والشهداء الذين هم أحياء عند ربهم يرزقون بمشيئة الله سبحانه وتعالى ، وإذا حمل المعنى على أن الرؤيه مستقبلية ، فيكون يغشى السدرة أيضا الملائكة والشهداء ، والمؤمنين الذين غفر الله لهم ذنوبهم ، والله تعالى أعلم
(مازاغ البصر وما طغى) ما انحرف البصر يمينا ولا شمالا عن هذه اللوحة الإلاهية عند سدرة المنتهى والتي يغشاها ما يغشاها من خلق الله ، والزوغان من التشتت والتفرق لقوله سبحانه وتعالى "... فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين" الصف 5 ، أي فلما تشتتوا في الرد على موسى وتفرقوا فبعضهم رفضه وبعضهم قبله وبعضهم لم يبدي رأيا ، فزاغوا وتشتتوا ، فلما حدث منهم الاختلاف ، خالف الله بين قلوبهم وأزاغها فلم يصبحوا على قلب واحد ، والله تعالى يقول " اذ جاؤوكم من فوقكم ومن اسفل منكم واذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا" الأحزاب10 ، وقد جاء الأحزاب على المؤمنين من كل طريق من أعلى ومن أسفل فزاغت الأبصار وتفرقت وتشتتت ، وبلغت القلوب الحناجر ، وظنوا بالله الظنون أنه مهلكهم ومخلي بينهم وبين عدوهم ، أرسل الله على الأحزاب ريحا وجنودا لم يروها المؤمنون ، وزوغان البصر يكون في حالة الخوف والتفرق والتشتت ، ولكن رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام ، يكون في أهدى حالته وأفضلها وأطمئنها وأحبها إلي نفسه عندما يتلقى الوحي أو يكون في حضرة التنزيل ، فكيف يزيغ بصره؟ لا والله بل يطمئن ولا يزيغ البصر ولا يتشتت يمينا أو شمالا بل يبقى محافظا على اللوحة الجميلة التي يراها فلا يماريه أحد في رؤيته إلا ظالم لنفسه ، وهدوء الرسول وطمأنينته عمل رب العالمين الذي ندعوه فنقول (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) ، وهو سبحانه القائل " وما جعله الله الا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر الا من عند الله العزيز الحكيم" آل عمران 126 ، لذلك ظل الرسول هادءا مطمئنا لا يزيغ بصره.
وما طغى ، والطغيان العدوان ، لقوله تعالى" قالا ربنا اننا نخاف ان يفرط علينا او ان يطغى"طه45 ، وقد خاف موسى وأخيه هارون عليهما السلام من طغيان فرعون وتعديه عليهما ، وهنا تأدب الرسول مع ربه كعهده فلم يعتدي ببصره على ما ليس مسموح له رؤيته وبقى في حضرة الرؤية البهية للوحة الإلاهية عند سدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى ، وهذا من عمل الرسول عليه الصلاة والسلام وأدبه مع ربه فلم يطغى ببصره وهو الذي قال له ربه (وإنك لعلى خلق عظيم).
(لقد رأى من آيات ربه الكبرى) وهذا دليل على صحة ذهابنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم ير ربه سبحانه لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، فلو كانت رؤيته لرب العزة لأخبر بها ، ولكن رؤيته كانت لآيات ربه الكبرى ، وهذا في الإسراء لقوله " سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه من اياتنا انه هو السميع البصير" الإسراء1 ، والآيات هي للدلالة على صاحبها ، وقدرته وعظمته ، فالله سبحانه آراه دلائل قدرته وشواهد عظمته وعظيم نعمته ، فقد آخذه من دار ملكه إلي دار ملكوته وأشرفه على عرصات جبروته ، كل ذلك وقد ألقى في قلبه الطمأنينة والهدوء والسكينة فما زاغ بصره رحمة وما طغى أدبا ، وهو يرى الآية تلو الأخرى يزداد يقينا والحمد لله الذي أعطى عبده محمد أجرا غير ممنون ، فجبريل على صورته آية ، وسدرة المنتهى آية وما يغشاها آيات وكلها لرب العالمين وهي كبرى لم ير غيره مثلها ، فلله الحمد وله المنة.
ونقف بالشرح عند هذا الوضع ، وقد بان من التدبر في كتاب الله ، معنى ما ينطق عن الهوى ، وكيف أنه من الطغيان أن نصرف المعنى لكل كلام النبي بغير الوحي ، ومن الخطأ أن نعتبر كل كلامه وحيا على ما بينا.
فلو أصبنا فبتوفيق رب العالمين ، ولو زغنا فمن هوى الشيطان ومنا ، ونعوذ بالله من الشيطان الزيغ ، والله تعالى أعلم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شريف هادي