الأصلاح الديني مابين الشيخ محمد عبده ,والدكتور أحمد منصور .
الإصلاح الديني . هو في الحقيقة أصلاح ما تم إفساده من فكر وممارسة عملية لدين الله الواحد ،وذلك من خلال الفهم التراثي البشري ،الذي تطاول على النص الإلهي ،ليطوعه حسب مصالحه السياسية والاقتصادية. الإصلاح الديني بناء على ما تقدم هو خلق حالة فكرية اجتماعية شاملة . ومن ثم إصلاح ثقافي مجتمعي ينطلق من الإيمان بنسبية المعارف. وبحقوق البشر في الحوار والمسائلة وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بوجود مفكرين مؤمنين لهم رؤ&iacucute;ة مختلفة للعالم ،لهم القدرة على إعادة قراءة النص الديني ،والتجربة التاريخية ،مستندين إلى مرجعية النفس والأفاق والسيرورة التاريخية للأحداث ،مع عدم إغفال التجربة والمعارف الإنسانية المختلفة. لهذا فأنني أعتبر أن الإصلاح الديني ،لا يتعلق لا من قريب ولا من بعيد بأزمة فكر أو تاريخ فقط . بل الأمر يكاد يُلخص بأزمة منهج العقل المسلم
لقد عرف العالم العربي الكثير من المصلحين الدينين ,منهم من تعامل مع موضوع الإصلاح بإعادة القديم واستهلاكه بأشكال جديدة ملوية العنق لتتناسب ومعطيات زمانها وعصرها. والبعض اقتصرت أفكارهم الإصلاحية على التحليل والترخيص والتسهيل .والقليل منهم من أخذ على عاتقه تقديم رؤيا جديدة نستطيع اعتبارها رؤية ثورية بكل معنى الكلمة.
من هؤلاء المصلحين:
الشيخ محمد عبده .
الشيخ محمد عبده لم يكن من الإصلاحيين التنويريين الثورين في رؤيتهم لمسائل الإصلاح ,لكنه كان فقيهاً إصلاحياً له فتاوى جريئة بمعاير العصر الذي عاش فيه.وأهم ما قدمه الشيخ محمد عبده من أصلاح هو في الحقيقة أفكار في أصلاح القضاء الشرعي ونظام الأوقاف والتعليم. أما تجديد الفكر الديني فقد أقتصر على الفتاوى ,وكانت هذه الفتاوى هي نوعاً من التيسير في مواجهة شيوخ الأزهر المتشددين. وحتى أن بعض النقاد اعتبروا أن دعوته للاجتهاد انحصرت في حدود المنقول. وقد أخذ عليه بعض النقاد أيضاً كونه كان أقل جرأة من غيره في انتقاد شيوخ الأزهر. ومع ذلك استطاع الشيخ محمد عبده أن يقدم بعض الفتاوى الجريئة مثل ,جواز ارتداء الملابس الأوربية واعتمار القبعة, جواز إيداع الأموال في البنوك والحصول على الفائدة.أباح إقامة التماثيل والتصوير الفوتوغرافي.أباح ألأكل من ذبائح المسيحيين واليهود.أجاز التأمين على الحياة والممتلكات. دعا الى إبطال تعدد الزوجات إلا إذا كانت الزوجة عقيماً.منح النساء حق الطلاق لشدة الظلم.أجاز تولي المرأة المناصب العليا.
رغم أن الشيخ محمد عبده كان أصلاحي في الدين إلا أنه يؤخذ عليه رجعيته في السياسة والحكم. فقد كان لا يؤمن بأن الشعوب قادرة على حكم نفسها .وربما أنه أنطلق من واقع المجتمع المصري أنذاك .وكان يردد"أما مصر بحاجة الى قرون تبث فيها العلوم وتهذي العقول ..حتى ينشأ في البلاد ما يسمى الرأي العمومي ,وبعد ذلك يمكن التفكير في تقليد أوربا أو الولايات المتحدة الأمريكية" لذلك دعا الى "المستبد المستنير العادل" ورفض التمثيل البرلماني ووصفه بالخرافة.
هذا وقد سلك مسلك المهادنة في السياسية .وقد نشرت مجلة ثمرات الفنون العدد 591 عام 1886. أن الشيخ محمد عبده كان لا يتردد في مهاجمة الأتراك وإظهار ظلمهم. لكنه عندما نفي الى بيروت .قال في إحدى خطبه في المدرسة السلطانية قوله" افتتح كلامي بالدعاء لمولانا أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العلمين السلطان عبد الحميد خان وإن من له قلب أهل الدين الإسلامي يرى المحافظة على الدولة العلية العثمانية ثالثة العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله ...وإني لا أجد من فرائض الله, بعد الإيمان بشرعه والعمل على أصوله,فرضاً أعظم من احترام مقام الخلافة والاستمساك بعصمته والخضوع لجلالته وشحذ ألهمة لنصرته بالفكر والقول والعمل.
من هنا نستنتج أن إصلاح الشيخ محمد عبده كان في إطار الفقه ولم يكن في مضمار الفكر بشكل عام . ومن كتبه التأسيسية كتاب رسالة التوحيد وكانت عبارة عن دروس ألقاها في بيروت ,وقد عالجت بمجملها رؤية أصلاحية لمفهوم التوحيد ,لكنها لم تؤسس لفكر أصلاحي ديني سياسي تستطيع الأجيال من بعده اعتماده كمنهجية لمتابعة طريق الإصلاح.
وهنا لابد لنا من التفريق مابين الفقيه الإصلاحي كمحمد عبده, والمفكر الإصلاحي كالدكتور أحمد منصور
الدكتور أحمد منصور .
يعتبر من المفكرين المصلحين المتنورين القلائل في هذا العصر إن لم يكن الوحيد في منهجه.فعلى العكس من منهج الشيخ محمد عبده ,فقد جمع الدكتور أحمد في رؤيته ما بين الإصلاح الديني والإصلاح السياسي ,رغم تركيزه على الإصلاح الديني بالدرجة الأولى, إلا أن منهج أصلاحه الديني أنطلق من خلال دراسة التراث الإسلامي ووضعه في تاريخيته ,وربطه بالعوامل السياسية والاقتصادية للفترة المعنية.ومن ثم اعتباره, أن مفهوم السنة النبوية ما جاء إلا لخدمة السلطان ورجال الدين, ورفض في منهجه الإصلاحي مفهوم السنة النبوية بشكل مطلق ,كما اعتبر أن كتب الأحاديث النبوية لا تعتبر أحد مصادر المعرفة الدينية ,بل هي فعل بشري غايته خدمة السلطان والمؤسسة الدينية ورجال الدين .لهذا فأنه أنطلق من منهجية القرآن وكفى .وكانت رؤيته القرآنية ,رؤية المتنور الذي اعتمد على تفسير القرآن بالقرآن.وكانت أبحاثه التي أستطيع أن اسميها بالرؤية الثورية حيث مهدت في الوصول الى مفاهيم جديدة أعطت تصوراً علمانياً في الكثير من المواضيع الدينية (علمانية إسلامية) ,وخاصة تقسيمه الإسلام الى إسلام سلوكي وإسلام إيماني عقدي.وأعتبر أن معنى الإسلام السلوكي هو السلم و السلام في الأرض , وفي العقيدة هو الاستسلام والانقياد لله تعالى وحده.ويرجع الحكم فيه لله تعالى يوم القيامة.وليس لمخلوق أن يحكم فيه وإلا كان مُدعياً الألوهية.وهنا وضح مفهوم الحرية الدينية بأروع صورها العلمانية الإسلامية,التي هي من هذا المنطلق قضية شخصية بين الفرد وخالقه,وحتى الإلحاد هو من هذا المنطلق موقف ديني لا دخل لمخلوق فيه.أما المسلم السلوكي هو كل إنسان مسالم لا يعتدي على أحد ولا يسفك دماء الناس ظلماً وعدواناً. وهذا هو المجال الذي نستطيع أن نحكم عليه .فكل إنسان مسالم مأمون الجانب هو مسلم بغض النظر عن عقيدته واتجاهه ومذهبه وفكره ودينه الرسمي.
وأجمل ما قرأت للدكتور احمد منصور قوله"طبقاً للسلوك وحده فكل دعاة السلام في الأمم المتحدة وخارجها هم أعظم المسلمين.وإن لم ينطقوا بشهادة الإسلام.غاندي ومارتين لوثر كينغ ومانديلا وكل دعاة حقوق الإنسان من الغربيين هم المسلمون الحقيقيون في مجال السلوك العملي" .ويتابع الدكتور أحمد "وطبقاً للسلوك وحده فأن مجرمي الحرب هم اشد الناس كفراً وظلماً وعدواناً,ليسوا هتلر وموسوليني وستالين بل يضاف إليهم الخلفاء الراشدين الذين اعتدوا وغزوا واستعبدوا الشعوب الأخرى واحتلوا أراضيهم.ثم من سار على نهجهم مثل ال سعود وطالبان وصدام وابن لادن والظواهري وبقية سفاكي الدماء الذين حولوا العراق والجزائر الى سلخانة".
هذه الرؤية الشجاعة ,هي التي ستمهد لفكرة العلمانية الإسلامية,التي تأخذ بعين الاعتبار حرية الفكر وحرية الكلمة , وإقامة دولة العدل والقسط للجميع .واعتبار أن الإسلام السلوكي هو السلم الاجتماعي والسلام,وبذلك فصل رجال الدين عن الدولة والحكم ,كونه أيضاً رفض فكرة المؤسسة الدينية الاحترافية .وجعل الدين مسألة شخصية ,وجعل القيم الأخلاقية الدينية الإسلامية والتي جاءت بها الكتب السماوية مصدر من مصادر التشريع للدولة لأنها لا تتناقض والطبع الإنساني والدولة العلمانية.
الحواشي :
محمد عبده الاعمال الكاملة.
محمد رشيد رضا "تاريخ الأمام"
الدكتور أحمد منصور "جذور الفكر الوهابي"
صقر أبو فخر. العرب واستعصاء الحداثة