فالسادات والملك حسين، ضحيا بشعبيتهما وجماهيرهما في سبيل إنقاذ الوطن من كوارث وأهوال حروب قادمة، في حين أن عرفات اكتفى بأوسلو، التي رفضتها كل الفصائل الفلسطينية، وقسم من "فتح" نفسها، وعطّلت تطبيقها. كما استطاعت إسرائيل بعد مقتل اسحق رابين 1995، أن تستفيد من هذا الرفض الفلسطيني، وتقوم هي أيضاً بتجميد العمل بهذه الاتفاقية، وارتكاب مخالفات لها.
ومن يقرأ كتابي (قطار التسوية والبحث عن المحطة الأخيرة) الذي صدر عام 1986، سوف يدرك الفرص الكثيرة والذهبية التي فوّتتها القيادات الفلسطينية لتحقيق قيام الدولة الفلسطينية. فقد كانت القيادات الفلسطينية، تراهن على الحرب الباردة بين القطبين الكبيرين: أمريكا والاتحاد السوفيتي. ولم تحسب حساب سقوط الكتلة الشرقية المفاجيء. فارتهنت إلى أمريكا في التسعينات، وما بعدها. وكانت أمريكا في ذلك الحين، قد ارتبطت مع إسرائيل بعدة اتفاقيات إستراتيجية منذ 1967، واعتُبرت إسرائيل من خلالها الولاية الأمريكية الحادية والخمسون.
هناك عدة أسباب منها:
1- أن إسرائيل أيقنت بعد اتفاقيات ثلاث، مع أطراف عربية مختلفة (مصر والأردن وفلسطين) بأن السلام العربي في ظل رفض الشارع العربي، لا يساوي شيئاً، مقابل الأرض الثمينة والعزيزة. وراحت إسرائيل في كل سنة، تُقيّم نتائج هذه الاتفاقيات، التي تمّت مقابل الأرض الغالية والعزيزة، وخاصة اتفاقية أوسلو، التي راحت إسرائيل تعضُّ على أصابعها ندماً، واغتالت في 1995 لأول مرة في تاريخها الحديث رئيس وزرائها اسحق رابين، تكفيراً عن هذه المعاهدة، التي جلبت لها المصائب، وعلى رأسها الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، وانتقال هذه المنظمة من الشتات في لبنان واليمن وتونس، إلى الضفة الغربية وغزة.
2- إن إسرائيل أدركت أنه بانتشار أنظمة الحكم الديكتاتورية في العالم العربي، لم يعد الحاكم هو الطرف الشرعي لتوقيع معاهدة السلام معه، بعيداً عن رغبة جماهيرية عربية في ذلك البلد. كما أن المجالس التشريعية التي تُعرض عليها مثل هذه الاتفاقيات المصيرية التاريخية، مجالس مزوَّرة، جاءت عبر الرشا، والوعود النفعية للناخبين، وفرضتها أنظمة الحكم على الشعوب. فأصبحت هناك قناعة إسرائيلية، بأن إسرائيل تريد السلام مع شعوب ذات أنظمة ديمقراطية، تحكمها المؤسسات الدستورية والشرعية، ولا تحكمها عائلات تتوارث الحكم. ولعل تجاربها السابقة في مصر والأردن وفلسطين، أثبتت لها مجموعة من الحقائق.
3- كان حصاد ومكاسب العرب من هذه الاتفاقيات الثلاث، أكثر بكثير من حصاد ومكاسب إسرائيل. فالعرب استرجعوا الأرض، ووفروا مئات الملايين من الدولارات، التي كانوا ينفقونها سنوياً على تسليح الجيوش. ووجهوا أفراد الجيش إلى الأعمال المدنية. واستفادوا من المعونة السنوية الأمريكية. كما استفادوا من تنشيط تجارتهم مع أمريكا، وإعفاء منتجاتهم من الضرائب الأمريكية حسب اتفاقية "الكويز" المعروفة. في حين أن إسرائيل لم تستفد من كامب ديفيد غير المعونة السنوية التي تدفعها لها أمريكا - وكان يمكن أن تحصل عليها بدون كامب ديفيد - و شقة تستعملها كسفارة، وكذلك الحال في الأردن. وتشكّلت في كل من مصر والأردن لجان شعبية ضد التطبيع مع إسرائيل، وحُرمت إسرائيل من الاشتراك في الأنشطة العربية في مصر والأردن، وحتى من معارض الكتاب العربي. وظلت السفارتان الإسرائيليتان في القاهرة وعمان مهددتين يومياً بالنسف وباغتيال موظفيها.
4- تعلم إسرائيل جيداً، بأن محطة قطار السلام القادمة هي سوريا. وتعلم بأن السلام مع سوريا مقابل ردِّ الجولان إلى أصحابه صفقة خاسرة. وعندما قرأت إسرائيل تاريخ المنطقة، والذئاب الذين نهشوا أطرافاً من العالم العربي، دون حساب أو عقاب، وجدوا أن الاستيلاء والاحتفاظ بالأرض العربية من أسهل العمليات، وأن مقايضة الأرض بالسلام الآن، لم يعد مجدياً. وقال مؤرخوها لسياسييها: أنظروا لقد التهمنا كل فلسطين تقريباً، وقضمت إيران من العراق إقليم الأحواز (يسكنه خمسة ملايين عربي) منذ 1925، وقضمت من الأمارات العربية الجزر الثلاث (طمب الصغرى وطمب الكبرى وأبو موسى) 1971، وقضمت تركيا لواء الإسكندرون من سوريا 1939، وقضمت اسبانيا مدينتي سبته ومليلة من المغرب 1668 وإلى الآن. والعالم العربي - وكأنه وكالة بلا بواب – لا يتحرك، فما لجرح بميت إيلام كما يقول الشاعر. فلماذا تُرغَم إسرائيل على إعادة الجولان، الذي يفوق بأهميته الإستراتيجية والجغرافية والزراعية والعسكرية صحراء سيناء. إضافة إلى أكثر من 40 مليار دولار استُثمرت في هذه المرتفعات. ورغم تعهد أمريكا بدفع هذا المبلغ، كما فعلت بالنسبة لصحراء سيناء، إلا أن إسرائيل، لا تريد أن تبيع، لأنها تعلم أن الجولان لا يقدر بثمن بالنسبة لها، مقابل سفارة إسرائيلية معزولة، من أربع غرف، في منطقة نائية بدمشق، كما هو الحال في القاهرة وعمان.
-5-فهل يبدو أن أصحاب القرار الإسرائيليين مجانين، أم عقلاء لرفضهم السلام العربي؟
إنهم مغتصبون وسارقون للأرض، دون شك.
ولكن هل هم اللصوص الوحيدون في الشرق الأوسط الذين يجب معاقبتهم، واسترداد ما سرقوه؟
وهل كانت أسبانيا وتركيا وإيران، هم ملائكة الرحمة، التي يحق لها اغتصاب الأرض العربية، دون حساب أو عقاب، واليهود الكفرة، هم وحدهم من يستحقون الحساب والعقاب؟
هذا ليس دفاعاً عن اللصوص الذين سرقوا فلسطين، ولكنه إشارة للعرب بأن الوطن العربي مسروق من أطرافه.
إن المثل العربي يقول: (المال السايب يُعلّم الحرامي السرقة). وإسرائيل أصبحت الحرامي الرابع في المنطقة، وما زالت القائمة مرشحة لمزيد من الحرامية، ما دامت سرقة العالم العربي بهذه السهولة، وما دام العالم العربي سائباً هكذا بلا حراس، ولا بوابين.
السلام عليكم.