في أول بلدة سجلت مرض كورونا في إيطاليا، لا يبدو الناس متعجلين لعودة حياتهم الطبيعية رغم تراجع المرض وغياب أي حالات إصابة جديدة.
في كودوغنو، تلك البلدة الصغيرة في شمال غرب منطقة لودي بإيطاليا، يلازم الناس منازلهم منذ أكثر من ستة أسابيع. لكن كثيراً منهم قلقون من عودة الحياة إلى طبيعتها، على الأقل ليس في تلك الآونة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Politico الأمريكية.
قبل الضربة التي وجهتها جائحة فيروس كورونا للبلدة، كانت كودوغنو مثلها مثل أي بلدة أخرى في المنطقة، منطقة منخفضة ذات منازل باهتة اللون تحيط بها الحقول.
لكن كل هذا تغير بنهاية فبراير/شباط الماضي، عندما تصدرت البلدة الصغيرة البالغ تعدادها 16 ألف نسمة الصفحات الأولى لكل صحيفة في أوروبا باعتبارها نقطة الصفر للتفشي سريع الانتشار في إيطاليا، وواحدة من أولى البلدات في القارة التي تُعزل كلياً.
من هنا بدأت قصة الوباء الكبير الذي اجتاح إيطاليا
حدث التحول من الحياة الطبيعية إلى العزل والإغلاق بين ليلة وضحاها تقريباً. في يوم 21 فبراير/شباط، ظهر رجل محلي في الثامنة والثلاثين من العمر في مستشفى يعاني من أعراض شديدة وكانت نتيجة إصابته بفيروس كورونا إيجابية. اليوم التالي، كان هناك 40 حالة إصابة جديدة وتوفي شخصان. وفي يوم 23 فبراير/شباط، أُغلقَت كودوغنو وعشر بلديات قريبة منها وكانت جزءاً من منطقة عُرفت باسم “المنطقة الحمراء”.
تتذكر سارة بوشليرولي، وهي طبيبة نفسية في كودوغنو أطلقت خطاً ساخناً لدعم سكان البلدة، ذلك الوقت قائلة عنه: “كان السكان في حالة صدمة”.
أول بلدة سجلت مرض كورونا في إيطاليا تقدم درساً للجميع
مع انتشار العدوى إلى مناطق أخرى، سرعان ما أضحت إيطاليا دراسة حالة للباحثين في بقية أوروبا والولايات المتحدة الساعين للتنبؤ بطريقة تأثير الفيروس على بلدانهم.
وفي إيطاليا، تدرس السلطات مسار الفيروس في كودونغو بحثاً عن أفكار لطريقة تكييف استجابتهم في مناطق أخرى، وهي مناطق متأخرة عن كودونغو بنحو 15 يوماً: كيف أثرت تدابير الإغلاق في انتشار الفيروس؟ وكيف يتفاعل الناس مع القيود الصارمة؟.
كانت إجابة السؤال الأول أسهل قليلاً من الثاني.
فقد أصبحت الإصابات الجديدة صفراً
يبدو أن الإغلاق السريع كان له تأثير إيجابي. قاربت أعداد الإصابات الجديدة الصفر وخَف الضغط على المستشفيات، خلافاً لما حدث في بعض البلديات في مقاطعة بيرغامو، التي شهدت أيضاً حالة تفش خطيرة لكن في محاولة حماية الاقتصاد من التداعي لم تتحول إلى مناطق حمراء خلال المراحل الأولى من الجائحة.
قال ستيفانو باغليا، مدير خدمات الطوارئ في لودي وكودونغو، أثناء مقابلة مع صحيفة “Il Giorno”: “حالياً، لم نعد في حالة طوارئ كاملة”، مضيفاً: “على مدار الأيام الثلاثة الماضية، جاء 30 شخصاً فقط إلى حجرة الطوارئ لأن لديهم أعراضاً تُعزى إلى مرض كوفيد-19. قبل ثلاثة أسابيع فقط كان هناك ما بين 100 إلى 120 شخصاً يومياً”.
لكنهم مازالوا خائفين
وعلى الرغم من بداية تراجع التفشي في البلدة، يخشى كثير من سكانها في الوقت الحالي ما هو قادم.
قالت مونيكا مورتي، وهي أم لطفلين سُرحت من عملها في مكتب محاماة في بداية الأزمة: “كنا في الإغلاق لمدة 44 يوماً، نحن منهكون وقبل كل شيء لا نعرف متى سينتهي”.
غير أن الدخل لا يمثل أكبر مخاوف مونيكا، التي قالت: “بالطبع نحتاج المال، لكن هذه مثابرة واعية لحماية حياة الآخرين وحياتي. لكن أكبر مخاوفي هو حدوث تفش آخر وأن تذهب تضحياتنا سدى”.
يشعر كثيرون في كودونغو، مثلهم مثل مورتي، بالقلق من أن رفع القيود سيسبب حالة تفش أخرى.
الجيران يبلغون عن بعضهم البعض
تمتلئ الصفحة الرسمية للبلدة على موقع فيسبوك بمنشورات من السكان تدعو حتى إلى تدابير أشد.
وكثيراً ما ينتقد الأشخاص بحدةٍ جيرانهم على مواقع التواصل الاجتماعي لخروجهم للركض أو اصطحاب أطفالهم إلى المتنزه، وهي نشاطات محظورة في ظل تدابير الإغلاق. لدرجة أن البعض يُبلغ الشرطة عن هذا النوع من الانتهاكات.
ووفقاً للطبيبة النفسية بوشليرولي، فالهيستريا والقلق هما الشعوران السائدان في البلدة،. وحتى الآن، يغالب الخوف من أن منحنى المرض تسطح مؤقتاً فقط الرغبة في التحرر من القيود.
قالت الطبيبة بوشليرولي: “مرضاي قلقون ويشعرون بأن حياتهم مُعلقة”، لكنهم “يخشون من أن الآخرين سينقلون لهم العدوى”.
وأضافت: “اعتدتَ أن تكون بمعزل.. والآن أصبح الحفاظ على مسافة من الآخرين (أمراً) طبيعياً. تفكر تلقائياً في أن الآخرين يمكنهم نقل العدوى لك، أصبحت لا تثق بأحد بعد الآن”.
هل يمكن العودة للحياة الطبيعية؟
يخشى البعض من أن العودة إلى الحياة “الطبيعية” لن تكون ممكنة أبداً.
قال واحد من سكان كودونغو يدعى ستيفانو أولتوليني، يعمل بمنظمة “Soleterre” غير الربحية: “في فبراير، كنا نعتقد أنه في غضون شهر سينتهي كل شيء، لكن كلما مرت أيام إضافية، أدركت أكثر أن الطريق سيكون طويلاً”، مضيفاً: “أشعر أن الحياة لن تعود لسابق عهدها الذي عرفناه”.
اعتاد أوتوليني أن يجوب مع عائلته كل أوروبا بواسطة رحلات طيران منخفضة التكلفة، وقال: “أعرف أنه ليس أمراً ضرورياً، لكن فكرة عجزي عن فعله تشعرني بالحزن -عدم السفر يعني عدم توسيع حدودك الذهنية”، مضيفاً أن الإغلاق يبدو “بلا نهاية”.
لم يقتصر الأمر على السكان فقط، إذ تشعر الأعمال التجارية بالقلق أيضاً بشأن موعد تخفيف القيود وطريقة تنفيذه. يتحمل رواد الأعمال في كثير من الحالات العبء الأكبر لتدابير الطوارئ ويخشون على مستقبل مشروعاتهم.
والبلدة تعتمد على نفسها، وعمدتها يقول إن الحكومة تركتهم وحدهم
قالت لورا جوزيني، وهي صحفية كانت تغطي مرض “كوفيد-19” لصالح صحيفة “Il Cittadino” المحلية: “عندما يكون في مقدورهم، يحاولون تدبر الأمر بأنفسهم، مثل بعض المتاجر المحلية التي أصبحت تنظم خدمة توصيل الطلبات للمنازل”، مضيفة: “وكثيرون آخرون ليس في استطاعتهم فعل أي شيء، البعض لديهم سلع مكدسة، والبعض أوقف الإنتاج لشهر ونصف الشهر”.
وأضافت أنه بالنسبة لهم جميعاً فالإعانة البالغة “600 يورو شهرياً التي رصدتها الحكومة هي أمر سخيف. لكن رغم الصعوبات، هناك شعور رائع بالمسؤولية”.
قال عمدة كودونغو فرانشيسكو باسيريني (35 عاماً)، في مقابلة صحفية عبر الهاتف، إن الحكومة تخلت عن بلدته.
وأضاف باسيريني، وهو عضو في حزب “الرابطة” اليميني المتطرف، الذي يعارض الائتلاف الحاكم في إيطاليا: “لدينا متطلبات، مثل (توفير) أدوات وقائية، لكنهم لا يستمعون إلينا”، مضيفاً: “علينا تدبر الأمر بقدر استطاعتنا، وحالياً ننتج المطهرات، ونوزع الوجبات على كبار السن ونتسوق لمن لا يستطيعون تحمل تكلفة التسوق”.
ومع ذلك، قال إنه فخور بطريقة استجابة السكان المحليين، مضيفاً: “أظهروا احتراماً للقواعد السارية”.
وباسيريني، الذي قال إنه لا يزال يجوب شوارع بلدته الخالية من المارة بمكبر صوت لتذكير الناس بالبقاء في المنزل، تلقى مكالمات من مسؤولين آملين في التعلم من طريقة تعامل إدارته مع الوضع، بما في ذلك اتصال الأسبوع الماضي من طوكيو.
تُظهر مناطق أخرى في إيطالياً مؤشرات مُشجعة مماثلة على أن ذروة التفشي إما تشارف على الانتهاء أو انتهت بالفعل. تتراجع أعداد من يوضعون على أجهزة التنفس الاصطناعي أو يأتون إلى الطوارئ، وتنخفض الوفيات أيضاً، حتى وإن ظل المعدل مرتفعاً.
لكن المستقبل لا يزال غامضاً، فحتى أولئك الذين ظلوا في الحظر لأطول فترة غير مستعدين للمضي قدماً في حياتهم بسرعة كبيرة.
خسرنا الرجال الذين صنعوا تاريخنا، ولا يمكننا حتى الصلاة عليهم
والآن، مع انقضاء حالة الصدمة كلياً تقريباً، يُقيم سكان كودونغو الخسائر التي مُني بها مجتمعهم من جراء الفيروس.
وقالت الصحفية جوزيني: “في الوقت الحالي نحن بلدة ملكومة ترثي موتاها”، مضيفة: “فقدنا جيلاً من كبار السن الذي صنعوا تاريخنا -مثل جيوسيبي فيكيتي مؤسس هيئة الحماية المدينة المحلية، وجيوفاني غييسا القائد في قوات الدرك الوطني”.
سجلت كودونغو 124 حالة وفاة في الشهر الذي أعقب تأكد أول حالة إصابة بها بفيروس كورونا، وكان الكاهن المحلي إيغينو باسريني يعرفهم جميعاً تقريباً.
تعني إجراءات الحجر أن الكاهن لا يمكن أن يكون معهم وقت رحيلهم، ولا يمكنه أيضاً تنظيم جنازات. الخيار الوحيد هو الصلاة وحيداً أو في مجموعات صغيرة في المقبرة.
تذكر حين زار كنيسة في كودونغو حيث كان هناك ما بين 15 إلى 20 تابوتاً في انتظار الدفن قائلاً: “بكيت.. كان الأمر صادماً. أنا معتاد على رؤية الموت، لكن ليس بهذه الصورة”.
وقال إنه مع مرور الأسابيع لاحظ أن مجتمعه يبدو أكثر اطمئناناً وهدوءاً عما كان عليه في بداية التفشي.
وفي بثه الإذاعي اليومي عبر الراديو والبث المباشر الأسبوعي أيام الأحاد يبعث الكاهن بالرسالة نفسها: “لكل المؤمنين أقول لكم: كونوا واثقين بأن (الأزمة) ستنقضي”.
لكن السؤال الوحيد هو كيف ومتى.