المقارنات العبثية. العلمانية الغربية , والعلمانية الاستبدادية
زادت في الآونة الأخيرة محطات الفضائيات التلفزيونية المهتمة بالترويج لبضاعة الإسلام السياسي ,والإسلام التراثي . يتربع على عرش هذه الفضائيات السادة العلماء من أصحاب الفكر السلفي الوهابي الإخواني .الذين امتهنوا صنعة تجارة الدين الرابحة ,المروجين إلى إقامة الدولة الدينية الإسلامية التي تتناقض في شكلها مع الدولة العلمانية الإسلامية التي تضمن الحرية الكاملة للمواطنين وخاصة الحريةe; الدينية ,وتعمل على إقامة دولة القسط والعدل بين مواطنيها.(1).لو أمعنت النظر في وجوههم, لهالك الأمر, وجوه صارت بحكم المألوف ,تُذكر المتفرج عليها بحاخامات اليهود المتطرفين .الفرق بينهم فقط هو في لون القبعة أو العمامة .يشع منها روح الاستبداد وانفصام الشخصية .لا مكان للحب في نظراتهم ولا للرحمة, لأنهم أتقنوا فن الترهيب والإرهاب وتناسوا فن الترغيب والحب والرحمة.يتباهون بطول الذقون وتمشيطها بشكل ملفت للنظر ,كون الذقن الطويلة والممشطة هي من أهم أدوات الخداع الفكري لقطيع الأمة الذي لا يُعمل العقل فيما يسمع.اعتادوا النفاق , البعض منهم يتحدث عن الاكتشافات العلمية ويناقش تفاصيلها بدون منهجية حتى ليشعر المستمع وكأنه هو صاحب هذا الاكتشاف العلمي ,والبعض منهم يتحدث في علوم الاجتماع ,هذا العلم الواسع في مجاله ,يختزله صاحبنا بمقولة أو مقولتين قرأ عنها في مجلة ما أو جريدة محلية متناسياً أن علم الاجتماع هو بحر لا قرار له من الأبحاث والنظريات التي تتطور باستمرار , وعلمه في هذا المجال لا يتعدى التكرار والنقل . هؤلاء السادة اعتادوا على المقارنات العبثية .أحدهم وهو من سدنة هذه الفضائيات , كان يحدث مستمعيه عن سماحة المسلمين في البلاد الإسلامية ,كونهم يتسامحون مع الأخر , ويقصد من أصحاب الديانات الأخرى , ويسهب في حديثه عن الحقوق التي يتمتعون فيها في دار الإسلام (نفاق ما بعده نفاق). ثم ينتقل ليقارن ما يعانيه المسلمون في دار الكفر والشرك في ديار المسيحيين الأوربيين أو في الغرب عامة, وما يتعرضون له من مضايقات في سبيل نشر دينهم الدين الإسلامي. ولا يكتفي هذا المحدث القدير بذلك , لكنه يُعرّج على المقارنات الأخلاقية بين مواطني الغرب المسيحي والشرق المسلم ,وخاصة في مواضيع الأمانة والشرف والصدق والمعاملات.
هذه المقارنات العبثية إن دلت على شيء فأنها تدل على جهل هذا الشيخ المحدث وأمثاله. هؤلاء مع كل أسف يروجون لبضاعة انتهت مدة صلاحيتها. لكنهم على جهلهم لا يعلمون شيئاً. نسي هؤلاء أن في الغرب يعيش ملاين المسلمين الذين يؤكدون عكس ما ذهبوا إليه .المسلمون في الغرب يتمتعون بحرية لا مثيل لها حتى في بلاد المسلمين . لهم مساجدهم المتنوعة ,يمارسون فيها عباداتهم وشعائرهم , ينشرون صحفهم وكتبهم بلغة أهل البلد , لا رقابة عليهم طالما أنهم ملتزمون بقوانين البلد التي تسمح بحرية الكلمة. يقيمون نشاطاتهم من خلال الندوات والمحاضرات ,وينشرون مبادئهم الدينية بكل حرية. الشيخ المحدث بطل الفضائيات نسي هو وأمثاله أن الغرب الذي يتحدثون عنه ,صحيح أن مجتمعاته تدين بدين المسيحية في عمومهم ,لكن الأنظمة التي تحكم هذه الدول هي أنظمة علمانية .والعلمانية الغربية أتاحت للمسلمين وغير المسلمين أن ينشروا ما شاءوا من معتقداتهم في أوساط تلك المجتمعات ,بشرط أن لا يروجوا للإرهاب أو للمنظمات الإرهابية الإسلامية وغيرها.هذه العلمانية لم تتخلى عن القيم الأخلاقية الدينية ,لكنها حدت من تدخل رجال الدين في الحكم واعتبرت أن الدين قضية شخصية لا علاقة للدولة فيه . وأعتقد أنه لو كانت السلطة في الغرب بأيدي رجال الدين من خلال الدولة الدينية لما سُمح للمسلمين وغيرهم من ممارسة الدعوة لمعتقداتهم.أما مقارنته للأخلاق والشرف والأمانة .فأني في هذا المقام أعيده لما قاله الشيخ محمد عبده رحمه الله, عندما كان في أوربا وعاد للوطن وقال مقولته الشهيرة ( في أوربا رأيت أسلاماً ولم أر مسلمين ,وفي البلاد الإسلامية قال عنها رأيت مسلمين ولم أر إسلاماً).. هذه المقولة الصحيحة والتي تدل على أن الأنظمة الأوربية التي قام نظامها السياسي على تبني العلمانية ,هذه العلمانية منحت الإنسان الحرية ,و الحرية خلقت في هذا الإنسان الشعور بالمسؤولية التي تَولد عنها تبنيه القيّم الأخلاقية حتى الدينية بحرية من جهة , وتولدت لديه عادة المراقبة الذاتية لتصرفاته من جهة أخرى.فكان أبعد ما يكون عن النفاق والدجل ,لأنه حر .كون الدولة العلمانية الغربية قامت بالأساس من أجل رفاهية المواطن وذلك من خلال إقامة دولة العدل والقسط.
صحيح أن بعض الأنظمة في عالمنا العربي تعلن باستمرار وفي كل مناسبة عن علمانيتها في الحكم ,لكنها في الوقت نفسه تمارس فعل الاستبداد على شعوبها(علمانية استبدادية) .وتحد من حرية التعبير ,والتنظيم السياسي ,وتسيطر على الحكم بواسطة الأجهزة الأمنية المختلفة . الشفافية في حكمها معدومة , والفساد أصبح في مجتمعاتها تراث وفولكلور .ضاعت في علمانية هذه الأنظمة ,الحدود ما بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.لهذا ومن هذا المنطلق لا ألوم في الكثير من الأحيان هؤلاء المشايخ المحدثين الجهلة إن هاجموا العلمانية ,لأنهم في الحقيقة رأوا الوجه القبيح لأنظمة أدعت في ممارستها الاستبداد السياسي على أنها علمانية التوجه.
لا أدري لماذا يسكت قادة التنظيمات الإسلامية التراثية في الغرب على مثل هذه المقارنات العبثية من قبل علماء الإسلام التراثي ومشايخ الحسبة.لماذا لا يردّون عليها من خلال وسائلهم الإعلامية المتعددة. لماذا لا يقولون الحقيقة بشكل صريح بأنهم أحرار. أحرار بكل معنى الكلمة, أم أنهم يخافون على جماهير الأمة من معرفة الحقيقة التي ستظهر عاجلاً أم أجلاً .استغرب في عدم دعوة هؤلاء القادة إلى تطبيق العلمانية التي خبروها وتعايشوا معها في الغرب بقوة في بلادهم الأم.
أم أنهم ابتلوا بمرض الازدواجية .!!!!!! وصاروا أكثر نفاقاً من أبطال الفضائيات الإسلامية التراثية والسياسية.
1-( مصطلح الدولة الإسلامية العلمانية لا يعني احتكار السلطة من قبل رجال الدين ,ولكنه مصطلح للدلالة على قيام دولة , إحدى مرجعياتها الأساسية القيم الأخلاقية الدينية لكل الديانات إلى جانب القيم الأخلاقية البشرية التي تؤمن للمواطن دولة العدل والقسط , نظام الحكم فيها ديمقراطي حر .يعيش فيها بحرية المؤمن والملحد وغيرهم ولهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات)