صفحات من كتاب ( العظات و العبر فى أخبار القرن التاسع عشر .. الهجرى .!!

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١٣ - فبراير - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً


(ملاحظة "نرجو ألا يأتي الوقت الذي يعيش أبناؤنا ذلك التاريخ..")

( ... وأشرف على الإنتهاء ذلك العام .. على خير ما يرام ، وجموع الشباب .. يقودهم الأمير حمزة دياب، يلاحقون فلول العسكر يقتلون ويأسرون ، وبعضهم استسلم لكي يفوز بالأمان .. فأصبح في خبر كان. وكانت مقتلة عظيمة.. وهزيمة للعسكر أليمة، لم تسمع بها الركبان ...في سالف الزمان، وهرب كثير من أعيان العسكر من الموت الزؤام ..إلى بلاد الشام. وبعضهم شد الرحال ... إلى بلاد الفرنجة في الشمال ، أما أصحاب المناصب والوزارات ...والمصالح والإدارات ...فقد إمتلأت بهم الطرقات ...في مباني المعسكرات...ويتحكم فيهم أصحاب الشارات ، من زعماء الشباب ...أصحاب اللحى والجلباب، والذين أصبحوا يسيرون الأمور في البلاد ...ويتحكمون في رقاب العباد ، أما الأولاد والبنات ...الذين عاشوا في تبات ونبات، في دولة العسكر، فقد هرب أباؤهم وتركوهم ...ومن هول الموقف نسوهم ، فعاش الأطفال المساكين ...بين عويل وأنين، يأكلون الفتات ...في الأزقة والحارات ... بعد أن إمتلأت الملاجيء والمستشفيات.. والمدارس والعيادات، بأطفال آخرين من الأيتام... لقى آباؤهم الموت الزؤام ، وقت الفر والكر ...بين الشباب ودولة العسكر .)
(...وجرت أمور شنيعة ..وحوادث فظيعة، في معسكرات الإعتقال، السكوت عنها أجمل ...والتغاضي عن ذكرها أفضل، واللبيب يعرف العبارة ...ويفهم بالإشارة، ويقرأ ما هو مستور ...بين السطور، نعوذ بالله سوء المآل...وسواد الحال، وقد انتشرت اشاعة... بين أكثر من جماعة وجماعة، بأن أحد الصالحين قد رأى الإمام الشافعي في المنام... يبكي حزناً على أحوال الأنام ...وما يحدث من قتل في الظلام ... حيث يتم قتل المساجين بلا فتوى وبلا أحكام، وانتشرت الأقاويل والهمسات ،عن فظاعة الشباب... ذوي اللحية والجلباب، في التعدي على عموم الناس...من المدير إلى الكناس ، بحجة أنهم مارقون عن الدين... قد تنكبوا الطريق المستقيم ، وقيل أن أحد مقدمي الشباب... وهو مشهور بالفصاحة في الخطاب، قد اشتدت نقمته على رجل من المستورين.. لأن الرجل المسكين، رفص أن يزوجه إبنته بلا مهر... فأقام عليه الشاب حد الردة في عز الظهر، بعد أن استحضر الشهود... من أبناء عمه في أبنود ، فشهدوا أن الرجل قد أساء للإسلام ...فاستحق الموت الزؤام.
وتناقل الناس ...بكل مرارة الإحساس، ما حدث للإستاذ الكاتب ، رأفت محيي الدين ... وهو من اعيان الأدباء المتحررين ...وليس من أتباع اليسار أواليمين ...ولكن الشباب كانوا عليه ناقمين، لأنه اعتزل السياسة في دولة العسكر ...ولم يأمر بمعروف ولم ينه عن منكر، فاتهمه الشباب بالإفساد في الأرض.. بالطول وبالعرض، فيما كتبه من روايات ... وأقاصيص ومقالات، تحث على الفجور... أو تضيق منها الصدور، وحوكم الأستاذ في الخفاء... في معسكر الجلاء... وفي ليلة ليلاء، أقاموا عليه حد الردة في الحال... بلا إرجاء أو إمهال، وانتشرت الإشاعة ... في أقل من ساعة، بأن الأستاذ محيي الدين ...قد انتحر بسكين ...واستحق بذلك الخلود في سجين...ولكن الناس المساكين ...خصوصا من يحب الأستاذ محيي الدين ... لم يصدقوا هذا الكلام... وصرح بعضهم بأنه يناقض العقول والإفهام... ولا يستقيم مع سماحة الإسلام ، ووصل الهمس إلى الخليفة العادل أمير المؤمنين ... وحامي حمى الإسلام والمسلمين ...حماه الله من كبير الكافرين ...ومع أنه رضىّ الله عنه كان في فترة الستر وعدم الظهور ولا يعرف شخصيته الحقيقية إلا النفر القليل ...ومع ذلك فإنه أمر قاضي القضاة على الدين خليل ،بأن يعين نائبا للقضاء ... في كل سجن وفناء، لمراقبة أحكام الشباب... وليقلل من تسلطهم على الرقاب.. ولكن إحتج الشيخ حمزة دياب ... أمير الشباب، على ذلك القرار ...لأنه يتيح الفرصة للكفاروالفجار، من المنافقين والعلمانيين ... في محاربة الدين، وانفض الإجتماع بين قاضي القضاة وأمير الشباب ...الشيخ حمزة دياب ...على توجيه بعض العتاب ...لمقدمي وقادة الشباب، القائمين على معسكر الجلاء ، لأنهم تركوا الأستاذ محيي الدين ... ينتحر بالسكين.. ويموت بلا توبة أو تلقين، وأصدر قاضي القضاء مرسوماً بأن يكون تعيين القضاة في المعسكرات والجهات... من بين الشباب الذين حصلوا على أرفع الدرجات.. في حفظ دلائل الخيرات، وأن يكون ذلك بترشيح من أمير الشباب.. الشيخ حمزة دياب، الذي سيتولى بنفسه عقد الاختبار... للصالحين من الشباب الأخيار ، كي يعم العدل والقسطاط ..سائر طبقات الناس ،وصدرت الصحف الصباحية...بهذه الأخبار الندية...فارتفعت الهتافات مدوية..,للخليفة أمير المؤمنين...بطول العمر ...والنصر...على الكفار والملحدين.
ومات في هذا العام شهيدا الحاج حسن عباس الأسمر... وكان في بدايته شيخ منسر، ثم رأى في المنام هاتفا يدعوه للتوبة والمشيخة.. فأطلق لحيته.. وأمسك سبحته.. وأرخى عذبته .. وترك مهنته، وأصبح شيخاً محترما مهاب الجانب ...وتكاثر أتباعه من كل جانب ..وتحول اللصوص على يديه إلى مريدين صالحين... فانضم بهم للدعوة الدينية وأصبح من فرسانها المعدودين.. وأحد القلائل الذين يعرفون أمير المؤمنين...في فترة الستر وبداية التكوين، وقد كان الشيخ حسن عباس الأسمر...قائد معركة الجبل الأصفر، فأصابته طعنة حادة ...أوقعته من على الدابة ، وقد عالجه أتباعه بأيديهم ... وهم يبكون بدموع مآقيهم ...فسقوه بعض الشيح والسفوف ... والتفوا حوله في صفوف، وهم يقرأون الأوراد ... فى أكثر من ندوة وميعاد ،ويقيمون الأذكار .. والدعاء بالليل و النهار .. ووقت الأصيل وفى الأسحار .. على نحو ما جاء فى كتب التفسير وفى حكايات الأبرار، ولكن الجرح انفتح فلم يعد ينفع الكي ...فصرخ رضى الله عنه صرخة أزعجت كل الحىّ ، وبعدها بقليل مات فانكب أصحابه على جثمانه يبكون .. ويذرفون دمع العيون ، ودفنوه فى سور مجرى العيون .. عليه سحائب الرحمة والرضوان .. وتعين بعده نائبه الشيخ منسى علوان.
وماتت في هذا العام الفنانة السابقة "ست الحسن الأكبر" ...نجمة الفن فى دولة العسكر، وكانت إحدى جميلات العالم.. وكان الشباب حولها بين هائم وحالم ، وقد أتتها الدنيا تسعى دائبة... في دولة العسكر البائدة ، فنالت الكثير من الجوائز والأوسمة والنياشين .. من الشمال الى اليمين ، واستمتعت بحب الجماهير ...من الوزير حتى الغفير ، ثم زالت دولة العسكر فزال معها مجد "ست الحسن الأكبر" ، فاعتكفت خلف الباب..وارتدت النقاب ...وأخذت تتحسر على الحظ الهباب .. وكانت لاتسكت عن الانتحاب .. إلى أن جاءها سرا الأمير دياب ..و تزوجها عرفا... وكتب عليها الكتاب.. ويقال أنه في ليلة الزفاف .. سقاها السم الزعاف ...ويقال أنه ذبحها فغطت دماؤها قميصها الشفاف ،وغير ذلك انتشرت روايات غير أمينة ... في مقتل تلك المسكينة ..التي قضى حظها الهباب ...ان تعيش آخر عمرها مع حمزة دياب.
وانتشر الغلاء... وعم البلاء، وتساوى في المعاناة الكبار ..والصغار ، عدا أولى الأمر والحظوة ...الذين أصبحوا من أصحاب الخطوة.. وتمنى كثير من الناس..وبكل إخلاص ... لو استمرت دولة العسكر.. مع أنها قضت على اليابس والأخضر ، وتفنن كثيرون فى الاختفاء و الهروب ، وتمنى آخرون لو انتهت حياتهم وقت الحروب.. وأصدر قاضي القضاة مرسوماً يحث الناس على الصبر والزهد والإبتعاد عن السيئات ..وألا يأملوا في التمتع بالحياة الدنيا والإغراق في الملذات .. وأنه بتقديم النذور للأولياء... سينقشع البلاء وسينجح الناس في الابتلاء. أ .هـ وذلك بلا شك كلام جميل قد يستحسنه اللسان .. ولكن ينكره البطن الجوعان.
ورأى بعض الصالحين في المنام ...رؤيا أذاعتها أجهزة الإعلام ، مفادها أن الشيخ فلان الفلاني ...كان يأكل الثريد مع الشيخ عبدالقادر الجيلاني، فسمع هاتفاً يقول أن الخير قادمً ..ولكن في العام القادم ، وأن البركة ستحل على عموم الوادي ....على كل رائح وغادي، وأن الأرز والقمح والفول ...وكل أنواع البقول ...ستتوافر بسعر معقول، وستكون في متناول كل جوعان ...من الاسكندرية إلى أسوان ، فكان استهلال العام الجديد ...بهذا الفال السعيد ، الذي اعتبرته أجهزة الإعلام ...أكبر نصر للإسلام .. وتكاثرت الأحلام والمنامات ...من السادة و السيدات ، وأوصلوها الى كبار رجال الدين ..وكلها تبشر بانفراج أزمة التموين ...واقتراب الفرج للفقراء والمساكين ....الذين أصبحوا الأغلبية العظمى من المصريين..
وحدثت في نهاية هذا العام كائنة غريبة..ونادرة عجيبة، إذا كانت دولة العسكر قبل سقوطها قد أقامت فى محافظة الشرقية ...مصانع الأدوات الهندسية، وعند تمام التأسيس ...اعتبرها الشباب من أدوات إبليس ،وعندما وصلوا للسلطة ..قاموا باصلاح تلك الغلطة، فحولوا المصنع لإنتاج المسابح والمساويك ، فاحتج مدير المصنع على القرار... بل وحاول الفرار... ولكن اعتقلوه عند طلوع النهار ، وأدخلوه غرفة التأديب ..حيث لقى أسوأ التعذيب، وبعدها أدخلوه مختلف السجون ...ثم خرج في النهاية بعد أصابه الجنون... وهام على وجهه في الشوارع والطرقات ... يتسول من الناس الفتات، ثم انتهى به الحال إلى أن أصبح يبيع المكاحل والمسابيح والمساويك على قارعة الطريق، وقد اعتبر أولو العلم ذلك كرامة لأمير المؤمنين.. خليفة المسلمين ، الذي لا تفارقه مكحلته ولا مسواكه ...ولا مشطه ولا مرآته، ومن اعترض على ذلك .. فهو هالك ، ينال فى الدنيا السجن والتحقير .. وينتظره فى الآخرة بئس المصير، والعاقل من اتعظ بحوادث الدهور .. وتقلب الأيام و العصور..فالشعور بالأمان ...فى هذا الزمان ، أصبح مثل العثور ...على لبن العصفور والعاقل من التزم طريق السلامة ..وابتعد عن سكة الندامة ، و السلطان ...من لا يعرفه السلطان ، وكم عانى الناس من الفتن ..وأيام الهلاك والمحن ، ما تشيب منه الولدان ..ويعجز عن وصفه اللسان ، ونكتفى بالاشارة و التلميح ... دون الكلام الصريح ، وأعقل الناس من كتم فى سرّه آه يانه .. دون الافصاح والإبانة ، وإلا فإذا سمعوا منه الآهة .. فهو آخر عهده بالساحة .. تاركا أهله بين متاهة أو مناحة ..فلا مناص من إرضائهم ..ولا مندوحة عن نفاقهم ، ولقد قال الشاعر الفصيح
دارهم ما دمت فى دارهم          وأرضهم ما دمت فى أرضهم )
انتهى ..
التعليق :
هذا المقاتل الساخر كان أول مقال نشرته لى جريدة الأهالي المصرية بتاريخ : 7 فبراير 1990م.
وقتها كانت فصائل الارهاب المسلح تضرب المدن المصرية فى القاهرة والصعيد ، وكان بعض أبواق الاعلام داخل السلطة يتأهب ليركب قطار الدولة القادمة ، يتقرب الى الاخوان المسلمين ليأمن السلامة لنفسه .
وقفنا بشجاعة مع بعض القادة التيار العلمانى و اليسارى ، وكتبنا ضد الارهابيين وشيوخهم من الاخوان المسلمين ، بل تكونت منا ( الجبهة الوطنية لمواجهة الارهاب ) حيث دخلنا معاقل الارهاب فى الصعيد نخطب ونهاجم الارهابيين ونقف مع ضحايا العمليات الارهابية من الأقباط .. وكان النظام العسكرى فى أشد الحاجة لنا فقدم لنا كل عون. فلما انتهت المشكلة عاد لاضطهادنا ..
هذا المقال يعبر عن هذه الفترة ويحذر من الدولة الدينية القادمة فى لغة ساخرة تتحلى بالسجع ، وتقلد أسلوب المؤرخين العرب فى العصور المملوكية و العثمانية .
ومن غباء النظام العسكرى حرصه على أن يحتكر السلطة حتى لو أدى ذلك الى إنفجار الوطن من الداخل..
وهذا ما نراه الآن بعد مضى 19 عاما بالتمام والكمال ...على نشر هذا المقال..
ولا عزاء ... للأغبياء...

اجمالي القراءات 17237