إن كان أوباما عسلاً فلا تلعقوه كُلّه

سعد الدين ابراهيم في السبت ٠٧ - فبراير - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

خصّ الرئيس الأمريكى الجديد، باراك حسين أوباما، المسلمين والعرب بالحديث مرتين فى أسبوع واحد، فى بداية عهده بالسُلطة، فى أقوى وأغنى دولة فى التاريخ.

كانت المرة الأولى فى خطاب تنصيبه (٢٠/١/٢٠٠٩)، وهو ما تحدثنا عنه فى مقال سابق (٣١/١/٢٠٠٩)، حيث توجّه للعالم الإسلامى، مُناشداً البدء بصفحة جديدة من الاحترام والتعاون المُتبادلين. والمرة الثانية فى حديث له مع قناة العربية الفضائية فى مُقابلة مع الصحفى اللامع هشام مُلحم فى البيت الأبيض (٢٨/١/٢٠٠٩)، &a; والتى هى موضوع هذا المقال.

وجدير بالتنويه أن هذه سابقة، فى تاريخ العلاقات العربية الأمريكية. فلم يُخاطب أى رئيس أمريكى المسلمين مُباشرة، ولا بهذا التكرار فى حيّز زمنى قصير. كما لم يُخاطب أوباما أى منطقة جُغرافية، أو كتلة إنسانية حضارية أخرى، مثلما فعل مع العرب والمسلمين. من ذلك أنه لم يتوجه بخطاب خاص "للأفارقة"، أو "الآسيويين"، أو أمريكا اللاتينية، أو حتى للأقطاب الأخرى فى العالم مثل روسيا، أو الصين، أواليابان، أو الاتحاد الأوروبى. كما أنه توجه للشعوب مباشرة، وليس للحكّام.

هذا معناه أن هناك فرصة تاريخية حقيقية للتعامل مع مُشكلات منطقتنا بجدية و"إنصاف"، وهو ما لم يحدث منذ رئاسة جيمى كارتر (١٩٧٧ـ١٩٨١). الإنصاف فى هذا السياق يعنى "العدالة النسبية"، وليس "العدالة المُطلقة". فلا أوباما، ولا أبو أوباما سيُعيد "فلسطين عربية من البحر إلى النهر"، ولا سيحرر لنا كل القدس، أو يستعيد لنا الأندلس. ولكنه سيتعاطف مع مطالبنا "المشروعة"، التى تستند إلى الواقعية والشرعية الدولية.

نقول هذا، لأن لدينا فى مصر قولًا شعبيا مأثورا، منطوقه "إذا كان حبيبك (أو صديقك) عسل، ما تلحسوش كُله". ومعناه، ألا يُبالغ الإنسان فى الاندفاع نحو من يُحب، أو يُسرف فى توقعاته منه. فقد يؤدى ذلك إلى النفور أو الاختناق. وهو نفس المعنى الذى يُعبّر عنه قول مأثور آخر، هو "من الحب ما قتل"!

فماذا قال أوباما فى مُقابلته مع قناة العربية مع هشام مُلحم ويستحق التأمل والمُبادرة المتبادلة منا كعرب ومسلمين؟.

بداية، أعاد أوباما تأكيد ما كان قد قاله فى خطاب تنصيبه، من أن الأمريكيين لا يُضمرون عداوة للمسلمين، وأنه يريد بدء صفحة جديدة من الاحترام والتعاون المتبادل. ولكنه ذهب أبعد من ذلك فى مُقابلته مع قناة العربية، وهو تهيّؤه لأن يقوم بدور المُفسّر للأمريكيين (وهم شعبه)، أن المسلمين "ليسوا إرهابيين"، وأن الذين ينطبق عليهم هذا الوصف، هم قلة ضئيلة للغاية. فإنه بنفس الروح يتوجّه إلى العالم الإسلامى برسالة فحواها أن الأمريكيين لا يكرهون المسلمين.

إن هذا العرض من الرئيس الأمريكى يعنى بصراحة أنه سيقوم بما أخفق فيه العرب والمسلمون، إلى تاريخه، فى تبليغ رسالتهم، وتنقية سيرتهم، وترميم صورتهم أمام الرأى العام الأمريكى. من ذلك إحدى رسائله إلى شعبه "أن العالم الإسلامى زاخر بالشخصيات المُتميزة"، وأنها لخسارة كبيرة ألا يتعامل الأمريكيون معهم.

كذلك كان أوباما واضحاً فى ترحيبه بمُبادرة الملك عبد الله، العاهل السعودى، للسلام مع إسرائيل. وهى المُبادرة التى أقرّتها القمة العربية فى بيروت منذ خمس سنوات، وتجاهلتها إسرائيل وإدارة جورج بوش.

وفى نفس الوقت، كان أوباما واضحاً أيضاً فى "أن الولايات المتحدة حليفة لإسرائيل، وأنها ستظل كذلك خلال إدارته. وأنه يُدرك تماماً أن هناك قوى عديدة مُحبة للسلام فى إسرائيل، وأنه ينوى التفاعل معها، كما مع القوى المُماثلة على الجانب العربى...".

كذلك أدرك أوباما، وذكر ذلك صراحة أن "الصراع الفلسطيني الإسرائيلى لا يمكن التعامل معه دون أخذ أطراف شرق أوسطية أخرى فى الحُسبان فى مقدمتها سورية ولبنان والأردن ومصر بل حتى العراق وأفغانستان وباكستان وإيران. وبالتالى، فلا بد من نظرة شاملة لكل مشكلات المنطقة، والتى تتداخل مع بعضها البعض".

ولم يفت أوباما أن توقعات الناس منه كثيرة ومُلحة. لذلك فقد كرر أكثر من مرة، أنه مع نيته الصادقة فى البدء مُبكراً مع قضايا الشرق الأوسط، وليس كما فعل سابقاه، اللذان انتظرا إلى العام الأخير من إدارتهما، إلا أنه لا يعد بنتائج سريعة. فهو لا يملك عصا سحرية. وكان أوباما قد تحدث بخطاب ولهجة مماثلتين فيما يتعلق بمُشكلات أمريكا الداخلية، وفى مُقدمتها الأزمة المالية الأخيرة. أى أنه من الواضح فى منهج وأسلوب الرجل أنه لا يعد مُستمعيه فى الداخل والخارج بما هو برّاق أو خارق لنواميس الطبيعة والمنطق. ولكنه يعد بأنه سيبذل كل جهده، وأنه سيستعين "بأهل الذكر"، ممن عُرف عنهم العلم والمُثابرة.

وهذا تحديداً ما فعله فى قضايا الشرق الأوسط الكبير. فقد استدعى من التقاعد اثنين من أكفأ الوسطاء الأمريكيين يشهد سجلهما بإنجازات مُبهرة. أولهما، جورج ميتشيل، عضو مجلس الشيوخ السابق، وهو من أصل لبنانى سورى، والذى كان قد نجح فى التوسط لإبرام مُصالحة تاريخية بين الطائفتين البروتستانتية والكاثوليكية فى أيرلندا الشمالية، بعد مئات السنين من الشقاق، وعشرات السنين من الصراع المُسلح. وثانيهما دبلوماسى لامع هو السفير تشارلز هولبروك، الذى توسط بنجاح لتسوية الصراع الدامى فى البوسنة والهرسك. وقد عهد إليه أوباما بملف "أفغانستان باكستان الهند".

ومرة أخرى، يرى أوباما أن التورّط الأمريكى فى أفغانستان، لا يمكن إنهاؤه إلا بمشاركة متبادلة مع كلتا الجارتين الكبيرتين (الهند وباكستان). وقد تأكد هذا التداخل، بعد الهجمات الإرهابية على حى الفنادق فى مُمباى الهندية، منذ شهور قليلة، والتى تؤكد مُعظم الشواهد أن المُهاجمين ينتمون إلى جماعة باكستانية مُتشددة دينياً، وحليفة لتنظيم القاعدة، الذى يتزعمه السعودى أسامة بن لادن، ونائبه المصرى أيمن الظواهرى. وهكذا، فإن أوباما على حق فى رؤيته المُتكاملة لمُشكلات منطقتنا، التى يتداخل فيها، كما يقول المثل الشعبى، "الشامى والمغربى".

تبقى قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان. وهنا يبدأ أوباما، أستاذ القانون الدستورى السابق، بداية مُغايرة لجورج بوش. فقبل أن يعظ الآخرين خارج بلاده، فإنه يبدأ بأمريكا نفسها. من ذلك أنه يُشدد على حُكم القانون (Rule of Law) واستقلال القضاء. ومرة أخرى لكى يُثبت أنه يعنى ما يقول،

فقد أصدر أوامر رئاسية فى اليوم الأول لرئاسته بإغلاق سجن قاعدة جوانتانامو، الذى تم اعتقال مئات الإسلاميين فيه، المُشتبه فيهم بالإرهاب، منذ تفجيرات برجى التجارة (نيويورك) ومقر وزارة الدفاع (البنتاجون) فى ١١ سبتمبر ٢٠٠١، دون مُحاكمة.

كما أصدر أمراً رئاسياً بمنع أى أجهزة أو مسؤولين فى الحكومة الأمريكية من مُمارسة التعذيب أو الضلوع فيه. لذلك فإن أغلب الظن هو أن إدارة باراك أوباما، ستعمل على تشجيع، (وليس الفرض، على الآخرين) بناء البنية الأساسية للديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وهى حكم القانون، واستقلال القضاء وحُرية الإعلام ومنظمات المجتمع المدنى.

وهكذا يعدنا أوباما بما هو ممكن ومرغوب.. وبهذا المعنى فهو أقرب رئيس أمريكى إلى أن يكون "عسلاً" بالنسبة لنا. فهل نتجاوب معه شعوباً وحُكاماً، بألا نلحسه كُله؟!

اجمالي القراءات 11213