- من الطبيعي أن يكون لدى الباحث تصور مبدئي لتقسيم موضوعه إلى أبواب وفصول ـ أو ما يعرف بالخطة المبدئية ـ وهذه الخطة كما سبق قابلة للتعديل الجزئي أو الكلي حسب مقتضيات البحث .
2- ومن الطبيعي أن يسلم الباحث نفسه للموضوع والمصادر ويترك للمادة العلمية أن توجه عدد الفصول وترتيب الأبواب حسب الأهمية والكثرة والقلة ، فالباحث لا يفرض رأيه على حوادث التاريخ وإنما يمشى وراءها يرصدها ويجمعها .
وهنا يتجلى الفارق بين باحث التاريخ والروائى أو الكاتب القصصى ؛ فالروائى هو الذى يخلق الشخصيات و الأحداث ويعطيها الأسماء والمكان والزمان ويهيمن على مصائرها باعتبارها من بنات خياله ، أما الباحث التاريخى فهو مقيد بأحداث تمت كتابتها سلفا ، وعليه فحصها و تحليلها وسد الفجوات بينها بالتعليل و التحليل و التقييم . أى ان الباحث يدخل (حجرة) العصر العباسى مثلا وعليه أن يتعامل مع الموجود فيها وليس أن يختلق عصرا عباسيا من خياله.
3-وفى العادة ان توجد بعض المادة التاريخية فى الابحاث التى كتبها ـ أو نقلها ـ باحثون سبقوا الباحث فى تحليل وبحث نواح من العصر الذى اختاره باحثنا ميدانا لبحثه ، ثم هناك المادة والأحداث فى المصادر التاريخية الأصيلة التى كتبها المؤرخون القدماء فى ذلك العصر أو عن ذلك العصر.
وفى العادة يبدأ الطالب بجمع المادة التاريخية لموضوعه من الأبحاث وثيقة الصلة بموضوعه وبعصره، كنوع من الاسترشاد ولا بأس أن يحتفظ ببعض أراء الباحثين إذا أراد مناقشتها أو تأييدها حسبما يظهر له بعد أن يوغل في البحث ويكوّن له فيه رأيا.
وهذه هى البداية الأولى فى جمع المادة العلمية من خلال ما كتبه باحثون وأساتذة متخصصون فى نفس العصر . وميزة جمع المادة هنا أنها تاتى مشفوعة برأى الاستاذ الذى كتبها أو بتحليله ورأيه وتعكس خلفية علمية محترمة يستفيد منها الباحث المبتدىء . بل قد يأتى ذلك الاستاذ بروايات مجهولة لم يتيسر لغيره الحصول عليها ، او قد يعثر على مصادر تاريخية مجهولة أو مخطوطات يتعذر الوصول اليها .. وفى كل ذلك فائدة للباحث المبتدىء ، عليه أن يحسن الاستفادة منها حسب موضوعه.
وبعد فهم واستيعاب المادة العلمية التى يأخذها من أبحاث الأساتذة والباحثين السابقين يكون باحثنا أقدر على التعامل المباشر مع المصادر الأصلية للعصر التاريخى الذى اختاره ميدانا للبحث.
وهكذا يولي وجهه شطر المصادر الأصلية، وقد توفر لديه العلم الكافي بها من خلال دراساته عن العصر ومؤلفيه واتجاهاته .
4-ثم يجمع الطالب المادة التاريخية من المصادر الأصلية من خلال الخطة المبدئية التي يسير عليها،وذلك بأن يقرأ المصدر قراءة واعية متعمقة وإذا صادفته حادثة أو واقعة تختص بموضوعه أثبتها في كارت خاص فيه أسم المصدر وأسم المؤلف ورقم الجزء والصفحة وحال المصدر مخطوطا كان أم مطبوعا ورقم المخطوط أو تاريخ سنة الطبع وعنوان الفصل في بحثه الذي تنتمي إليه هذه الحادثة أو المعلومة ، وهكذا ...بحيث لا ينتهي من قراءة المصدر إلا وقد تجمعت لديه ذخيرة من المادة العلمية تغطي فصول الرسالة أو بعضها .. ويتعامل مع باقي المصادر بنفس الشكل .
5- ثم إذا تجمع لديه قدر لا بأس به من المادة التاريخية المأخوذة من عدد كاف من المصادر الأصلية فعليه أن يتوقف معها يعيد قراءتها وتنظيمها وفق المنهج الذي اتبعه في تقسيم البحث إلى فصول وأبواب ،... وهنا سيجد المادة العلمية قد تشكلت إلى قضايا علمية داخل الفصول وقد تنشىء فصولا جديدة أو تؤثر تأثيرا ملموسا على الخطة المبدئية للبحث فيعيد صياغتها حسبما توجهه المادة العلمية .
6- وبتكرار جمع المادة وبتكرار الاعتماد على المصادر يتوقف الباحث حينا بعد حين مع ما جمعه من مادة علمية ليقرأها متمعنا ليعيد التنظيم والترتيب ويخلق نقاطا جديدة فى البحث ، ويثير قضايا جديدة لم يكن لديه علم بها من قبل ، أو يكون قد اكتشف وتوصل بالتحليل العلمى التاريخى الى سد الفجوة بين بعض الروايات ، أو قام بتعليل وتفسير بعض الغوامض من الأحداث ، وكل هذا يمكن أن يتولد عنده بالفحص والتأمل .
ومن المهم تسجيلها مبكرا عند النظر فيها وتأملها ، ذلك أن هناك أفكارا تتولد لحظة التمعن فى قراءة المادة التى تم جمعها أو عند جمعها ، وإن لم يبادر الباحث بتسجيل خواطره و أفكاره المنبثقة عن معايشته للمادة التى يجمعها ويفحصها لأمكن بسهولة ضياع تلك الأفكار ونسيانها .
وفى النهاية فتلك التحليلات و الأفكار مجرد بداية ، وعادة ما تكون متفرقة مصاحبة لمرحلة الجمع ومتوقفة على أهمية بعض المادة العلمية وما فيها من جاذبية للبحث وما تثيره من تساؤلات لا بد من الاجابة عنها فى حينه قبل أن ينشغل الباحث عنها بقضية أخرى .
أما النظر العلمى الشامل والبحث الكامل فى مضمون المادة العلمية بالتفصيل فله وقت آخر بعد اكتمال هذه المرحلة ( جمع المادة التاريخية وتنظيمها ).
7 ـ وباستمرار الباحث فى القراءة والتمعن والتفكر وفحص ما يجمعه من مادة تاريخية يصل إلى ما قبل النقطة النهائية ، وقد اكتمل لديه جمع المادة من جميع المصادر التاريخية الأصلية والمصادر الأصلية غير التاريخية وأبحاث المحدثين ، مع بعض ملاحظاته واكتشافاته وتحليلاته المتفرقة على تلك المادة التاريخية المكتملة التى غطت مجال بحثه زمنيا ومكانيا وموضوعيا .
هنا ينظر الباحث إلى هذا الكم الهائل من المعلومات والآراء نظرة قبل الأخيرة في الترتيب، فيجد بعض الأبواب أو الفصول لا تزال تحتاج الى استكمال ، أو بعض الفجوات لا تزال تحتاج الى ملئها ،أو بعض الأحداث تحتاج الى تحليل أو تعليل لا بد منه ـ عندها يقوم بكل ذلك الاستكمال فى المادة وفى التحليل و التعليل .
هنا تأتى نظرة الباحث الأخيرة لما جمعه ، فيجد الأبواب قد اكتملت حوادثها والفصول داخل الأبواب قد تنوعت إلى أجزاء ، وكلها أو بعضها قد اكتمل طبقا لمحتوى المادة العلمية المجموعة ، والتى على اساسها تغيرت خطة البحث لتصبح نهائية .
هنا يتوقف الباحث مع المادة التي جمعها ورتبها وفق خطة بحثية جديدة تبلور ملامح المادة العلمية التى جمعها الباحث . بعدها يخطو خطوة أخرى ... هي النظر المتعمق المدقق في كل ما تم جمعه من مادة تاريخية وفى مراجعة تحليلاته الجزئية .
خامسا:النظر في المادة التاريخية
يقصد بالنظر هنا التدبر والتفكر وأعمال العقل فيما جمعه الباحث من مادة علمية تغطي شتى جوانب الموضوع ، وقد آن الأوان لكي يتوقف معها ناقدا متفحصا في ضوء الشكل الأخير الذي أصبح عليه التخطيط للبحث .
1- فالباحث قد يجد فجوات تاريخية بين الاحداث وعليه أن يملاء هذه الفجوات إما بالرجوع مرة ثانية للمصادر التي اعتمد عليها أو بمصادر أخرى يحاول استكشافها ، وإن لم يجد ركن للاستنتاج العلمي يسد به الفجوات معتمدا على فهمه لأرضية الحوادث وطبيعة العصر وأبنائه ، ولابد أن يثبت مبرراته في ذلك الاستنتاج في أدلة واضحة .
2- وقد يجد الباحث روايات متعارضة في حادث واحد ، وعليه أن يوازن بين الروايات ويصل إلى الرواية الصحيحة ، ويبين أسباب ترجيحه لها ويظهر الضعف في الروايات الأخرى وكل ذلك بأدلة واضحة .
3-وقد يجد الباحث اتفاقا في روايات .. إلا أن عقليته لا تستسيغ هذا الإجماع من المؤرخين على وقوع هذا الحدث وروايته بالشكل الذي تكرر في المصادر التاريخية ، فليس معنى الاتفاق في رواية معينة أنها حدثت فعلا ، إذ أن العادة في مؤرخي الحوليات أنهم ينقلون بعضهم عن بعض ، أى ينقل اللاحق عن السابق ، كما أن العقلية تختلف ؛فما كان يؤخذ بالتسليم في العصور السابقة قد لا تقبله عقولنا اليوم.
وهنا يجب علي الباحث أن يورد الرواية مثبتة في المصادر التي روتها بالترتيب الزمنى للمؤرخين الأقدم فالأقدم ، ثم يناقشها عقليا وعلميا فى ضوء فهمه لعقلية العصر الذى يبحثه وأيضا فى ضوء عصرنا وعقليته التى تعلو بالباحث على عقلية العصور الوسطى وتراثها وتاريخها .
من ذلك ما تكرر في حوليات العصر المملوكي عن (جمل) طاف بالكعبة ثم تحدث مع الناس ومات وحين مات لم تقترب الكلاب من جثته . والمؤرخون الذين كتبوا هذه الرواية كانوا بعيدين عن مكة ولكن نقلوها بالسماع طبقا لما شاع بين الناس ، وكانت عقلية العصر تستسيغ هذه المبالغات وتؤمن بها ضمن الايمان بالكرامات التى صارت بالتصوف عقيدة ثابتة لا بد من التسليم بها ، بل إن التصوف بعث ما يمكن تسميته بتقديس الحيوانات الذى سائدا فى العصر الفرعونى فأعاده التصوف فى صورة خرافات وكرامات عن القط والتمساح ثم الجمل .. وتكررت أساطير من هذا النوع اعتاد العصر تداولها فينقلها مؤرخ معاصر لهذه الإشاعة، ويأتى من بعده مؤرخ آخر ينقلها مصدقا للمؤرخ وللإشاعة، حتى إذا قرأناها اليوم وجدنا إجماعا على حدوثها في نفس الزمان والمكان ، ولو أهملنا العقل لصدقناها ..
4-ولا ريب أن المؤرخ يستعين في نظره للمادة العلمية على معايشة للعصر وفهمه ولرجاله ومؤرخيه ، ولا بأس هنا من الرجوع لما كان يكتبه عن كل مصدر ومؤلفه من تعليقات تنم عن اتجاه المؤرخ وعقليته،إذ أن هذه المعلومات هامة جدا في الحكم على ما يورده المؤرخ من أحداث. فالمؤرخ كما هو معلوم إنسان يلون الإحداث التاريخية بوجهة نظره ويطبعها بطابعه ، وأكثر من هذا قد يكون للمؤرخ مذهب سياسي أو ديني يؤثر عليه في روايته للأحداث ويجعله يبالغ في الهجوم على خصومه في الرأي إذا كانوا له معاصرين أو سابقين .
مثال ذلك ابن خلدون كان يميل للفاطميين فدافع عن نسبهم وتبعه فى ذلك المقريزي ،وجاء السيوطي وكان يميل للعباسيين فملأ كتبه بالطعن في الفاطميين وحلفائهم وأعمالهم ، والسخاوي كان حاد الطبع عنيفا على معاصريه من العلماء المحدثين فرماهم بالضعف والانتحال ، بهذا رمى السيوطي ورد عليه السيوطي ، وكل منهما أرخ للآخر؛ فالسخاوي لمز السيوطي في كتابه (الضوء اللامع ) والسيوطي ألف في السخاوي (الكاوي في الرد على السخاوي ) وتجاهل السيوطى غريمه السخاوى كلية في كتابه (حسن المحاضرة ) فلم يذكره من بين المؤرخين أو المحدثين ، مع أنه ذكر من هم أقل منه معرفة بالحديث والتاريخ .
فالخصومات المذهبية والشخصية بين المؤرخين لها أثرها في أيراد الحقائق التاريخية لهذا ننوه بأن يكون لدى الباحث في عصره إلمام كاف برجال العصر وعقلياتهم ويخص المؤرخين بالذات حتى لا ينزلق إلى تصديق بعض الروايات أو تكذيبها وهو لا يعلم بحقيقة الأمر فيها.
5-وقد يمعن الباحث النظر في المادة العلمية المكتملة لديه فيسنح له خاطر بمناقشة قضية علمية وجد معه بعض أدلتها أو تفتح له موضوعا جديدا لم يكن في حسبانه – وإنما يخدم البحث، وقد يطرأ له تفكير في ترتيب الفصول أو تعديلها ، وهذا الترتيب وذلك التعديل يستلزم الرجوع ثانيا إلى المصادر ليستقي منها المزيد مما يحتاج إليه، بل ربما يتذكر حوادث بعينها كان يقرؤها في قراءته الأولى ورأى أنها غير هامة ولم يهتم بإثباتها وجمعها . وبعد أن تعمق في البحث رأى أنها ضرورية ، وفي ذلك كله يتعين عليه الرجوع ثانية إلى المصادر لاستكمال النقص ، وهذه أمانة العلم التي ينبغي أن يتحلى بها الباحث ولا يعفيه من المسئولية التكاسل أو ضيق الوقت أو التسرع أو الانتهاء من البحث . وذلك أن الباحث طالما اختار البحث العلمي طريقا لحياته فعليه أن يكون مخلصا لهذا الطريق أمينا عليه يخشى الله وحده ، والعلماء أحق الناس بخشية الله .
6- ومن الطبيعي أن النظر في المادة العلمية ينتج عنه ترتيب للأحداث حسب اهميتها للبحث ، فهناك أحداث أساس فى البحث ، وهناك أحداث فى الدرجة الثانية ، وهناك إهمال لبعض المعلومات على اعتبار أنها أقل أهمية وتخدم البحث والباحث في إعطاء الخلفية التاريخية للحدث أو يمكن بها كتابة حواشي وهوامش تلقي أضواء على المكتوب في المتن .
والواقع أن الباحث عليه أن يضع في اعتباره منذ بداية جمع المادة أن يجمع بعض المعلومات ذات الصلة بالبحث وإن لم تكن داخلة في صلب الموضوع .. إذ أنه ربما يحتاج لهذه ـ المعلومات فيما بعد ـ وقد يتراءى له بعد أن يتعمق في البحث أن بعض تلك المعلومات أساس ويحتاج إليه في أساس البحث .. وبذلك يوفر على نفسه عبء الرجوع ثانيا إلى المصادر وقراءتها للمرة الثانية بحثا عن معلومة بعينها وسط ألاف الصفحات.
7- وبعد أن يستكمل الباحث النظر في مادته العلمية ويسد الفجوات فيها يجدها مرتبة منظمة يسلم بعضها إلى بعض ، الحوادث فيها مثل الشريط السينمائي الذي يقص حكاية متتابعة الحركات واللفتات ، وقد تم تقسيمها الى ابواب ، ثم كل باب الى فصول ، ثم كل فصل الى أبحاث جزئية تنتظم جميعا فى إطار فصل واحد يجمعها موضوعيا وزمنيا ، ثم كل بحث من تلك تلك البحوث الجزئية ينقسم الى نقاط أساس ، وكل نقطة أساس فيها تفصيلات فرعية ، وكل نقطة فرعية تفصيلية فيها رواياتها واحداثها وما يتبعها من تحليلات ...
ومن الأفضل له أن يجعل لها أرقاما مسلسلة يكتبها على ظهر (المظروف ) الذي يتناول حادثة معينة ، ثم يرتب خطوات الحادثة الواحدة في كل مظروف .ومن مجموع ترتيب ( المظروفات ) تتكون الأبحاث الجزئية في كل فصل ومن كل فصل تتكون الأبواب وهكذا ...
وكل ذلك خاضع لترتيب رقمي يسهل على الباحث مهمته ..
ويجعل لذلك كله خريطة بحثية تفصيلية تتضمن كل جزيئات البحث من أصغرها الى ان تصل الى الفصول وأبوابها ...
ويمكنه بعدها أن يصيغ المادة العلمية معتمدا على تلك الخريطةالبحثية ..
هذه المقالة تمت قرائتها 279 مرة