في وصف المنافقين من أهل الكتاب يقول الله سبحانه وتعالى :
" ألم ترى إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون ، لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن ناصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون ، لأنتم اشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون ، لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون " ( من الآية 11 : 14 الحشر )
من الملاحظ أن هذه الآيات نفت عن هؤلاء القوم عمليتي التفقه والتعقل .
ولنقتطف من الآيات السابقة " بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ":
الآية الكريمة التي اقتطفناها قدمت وصفا وعللته ، وصفت بغي قوم فيما بينهم" بأسهم بينهم شديد " وفرقتهم " تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى " وبالتالي اختلافهم رغم ظاهر الترابط فيما بينهم ، والعلة " ذلك بأنهم قوم لا يعقلون "
ورغم أن هذا الوصف والعلة لأمة غيرنا وفي زمن غير زماننا إلا أن هذا ينطبق على حالنا في زماننا الذي نعيش ، وما قبله ، وما بعده إن سرنا على نفس المنوال .
وبما أن الوصف يطابق حالتنا فلابد وأن تكون العلة واحدة " قوم لا يعقلون ".
وعليه ألا يجب علينا أن نتعرف على معنى هذه الألفاظ "التفقه والتعقل " .وما الفارق بينهما ، أم سيظل الخلط قائما بين كل شيء وآخر دون تحديد ، ودون إدراك حقيقي لِكُنْه ( كيفية ) الشيء الذي نتعامل معه .
والعجيب أن لفظ " العقل " من أكثر الألفاظ شيوعا بيننا رغم أنه لم يذكر بتاتا في القرآن الكريم ، ولكن الذي ذكر هي عملية " التعقل " وخلطنا فيما بين عملية التفكير وعملية التعقل ، لذا فقد كتبت أكثر من مرة على هذا الموقع ما فحواه : في إطار عملية تحديد معاني ألفاظ القرآن الكريم يمكن القول بأن هذا اللفظ لم يذكر مطلقا في القرآن الكريم ، ولكن ذكرت عملية التعقل في 49 موضعا ، وذكر أننا نعقل بقلوبنا ، لذا لم يكن يوجد داعي لوجود هذا اللفظ .
علاوة على أن العلم الحديث لم يستطع أن يتعرف عليه أو مكان وجوده أو ماهيته أو طريقة عمله .
لذا فأنا أنصح إخواني الكرام أن يتغافلوا عن هذا اللفظ " العقل " ويمكن استبداله بكلمة التفكير إن كنا نقصد التفكير ، لفظ يعقل إن كنا نقصد الربط فيما بين جزئيات ( جوانب ) حياتنا من دينية وسياسية وعلمية واجتماعية واقتصادية فيما يعرف بتكامل المعرفة فتتلاشى الفواصل المعرفية ، وهذا ما يجب أن يكون ، حتى لا يتعامل الإنسان مع كل جانب على حدة فتصطدم معارفنا وتتشتت قوانا بدلا من تكاملها .
والتقدم البشري في أي مجال يرتبط بقوانين تربط بين أجزائه ، ويوجد من يربط بين كل تلك القوانين في كل المجالات فيما يعرف بالفلسفات ، ويوجد من يتطرق إلى معرفة الكون في وحدته وقانونه العام ....
فما هي عملية التعقل هذه التي إذا اتسمت بها أمة سينتفي عنها الوصف السيئ السابق ويتبدل بأن يكون بينهم مودة ورحمة بديلا عن البغي ، وتكون قلوبهم متحدة بديلا عن الفرقة والاختلاف
فإذا ما نظرنا في مقالي السابق تحت عنوان " التجريد " وتتبعنا المقال بعد نزع كلمة التجريد كلما وجدناها ، ووضعنا مكانها كلمة " التعقل " سيستقيم المعنى تماما ، مما يعنى أن التجريد هو التعقل .
والذي هو أول القدرات الأربعة التي يجب أن يتسم بها أي محلل رمزي مبتدئ ، والمحلل الرمزي هو المنوط به حل المشكلات الكبرى التي تقف كعقبة أمام عملية التقدم أمثال المتواجدين بوادي السليكون وغيره .
وهذا ما نحتاجه بشدة حتى نكون بدلا من أن لا نكون .
ولأن الصفة الأساسية للتجريد هي الربط بين الجزئيات ( الربط بين المعارف ) بالمنطق وليس بالتلفيق والترقيع ، ولأن الفكر الممنهج ( العلمي ) لا يختلف عليه أحد أيا كان .
فلابد أن نجد لنا منطقا نتفق عليه أو أسلوبا نسير به " منهج علمي " فيمتنع بيننا البغي ( بأسهم بينهم شديد ) .
وسيكون توجهنا واحدا فتمتنع علينا الفرقة والاختلاف ( قلوبهم شتى ) .
ورغما عن اعتقادي بأن هذه الأمور بديهيات إلا أن ما أثار دهشتي حقيقة بداية التعقيبات على موضوع التجريد وكانت " الاستهزاء " ليس من أحد الإخوة ولكن تعبيرا عن رأي مجموعة .
وليقيني بما يجب علينا بحثه في المقام الأول وهو كيفية الوصول لهذا المنطق ؟ .
لذا كان لزاما على أن أذكر بأول الموضوعات التي نشرتها على هذا الموقع وهى : موضوع " إشكالية الاختلاف " لأبين الأهمية القصوى لهذه القضية ، ووجوب العمل على حلها ، حيث بينت أن القرآن الكريم لم ينزل من عند الله في المقام الأول إلا لحل هذه القضية لكي نبين للناس الذي اختلفوا فيه ، ولا يمكن أن نفعل ذلك إلا إذا كنا نحن غير مختلفين أصلا، إذ كيف نكون مختلفين ونقدم للناس بيان ما اختلفوا فيه ( لا منطق ) ، كما يوجد تحذير شديد اللهجة من أن نكون كالمتفرقين المختلفين وأنهم بمثابة بل هم كفرة ، مع العلم بأن التنوع في إطار التكامل ظاهرة صحية لابد منها ، ولكن الثبات عند الرؤى المتعددة هو الاختلاف المنهي عنه ، وقد اعترض بعض الإخوة على ذلك دون دليل .
ولم أكتفي بهذا بل تبعته بمقال ثاني منشور أيضا على الموقع بعنوان " نسق معرفي جديد للفكر الإسلامي " وضعت من خلاله تصورا للقرآن الكريم كمنظومة " كل موحد " وافترضت أن اللفظ القرآني له معنى واحد محدد بدقة لا يختلف في أي سياق وكذلك الحروف المقطعة .
وأبرزت أيضا تجميع أوجه كل موضوع من خلال الآيات التي ورد فيها إلى منظور واحد ليعبر بدقة عن الموضوع .
وأيضا لفت النظر إلى عناصر الزمان والمكان والأعراف الواجب الأخذ بهم في الاعتبار .
وتبعت ذلك بتطبيق عملي على المنهج ( ليس نظريا هذه المرة ) ولكنه تطبيق عملي يتحقق ( تكنولوجيا ) من خلال " آية قرآنية واحدة " .
وكانت محصلة هذا الموضوع هي : الوصول إلى نتائج جديدة في الفكر الإسلامي تحتاج منكم الرأي والمشورة.
ومن الطريف في الموضوع أن هذه المقالات الثلاث لم تحظى بأي مناقشة .
سوى الموضوع الأخير والذي حظي باهتمام الأستاذ فوزي فراج واستفاض في مناقشته ، وتوقفنا عند نقطة هامة وهى مدى معرفة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بهذا الاكتشاف ، مما جعلني أتبعه بموضوع بعنوان " البلاغ " ولكن للأسف الشديد توقف الموضوع عند ذلك الحد .
وتبعت ذلك بالعديد من المقالات التي تتناول موضوعي الاختلاف والنسق من زوايا متعددة والتي وجدت استحسان البعض ورفض البعض آخر .
وما زلنا حتى الآن نفكر بمنهج التراثيين والذي نرفض نتائجه .
من هنا يمكنني القول بأننا نحتاج إلى وقفة جادة مع أنفسنا ومناهجنا وما بين أيدينا من نور في ظل الواقع المتردي المعاش ، والذي لابد من أن نخرج منه حتى يكون لنا وجود .
ولكن الواضح هو العناد والاعتداد بالذات " كل بما لدبهم فرحون " فهل سيستمر ذلك ، وإن كان فما جدوى عملنا نحن أهل القرآن ، إن ما يحدث بيننا هنا يراه العالم أجمع ، والذي منه العدو ومنه الصديق وما بينهما ، وهذا يؤثر فينا وفي أقوامنا سلبا في كل المجالات .
وفي إطار توارد الخواطر :
رغم أني لم أقرا أي من كتب التراث ، ولا كتب المحدثين في مجال الفكر الديني ، ولم يكن أصلا مجال اهتمامي .
ولكني بتلقائية نظرت في كتاب الله بالمنطق العلمي وفقط ، وذلك حين وجدت تضاربا في الفكر الإنساني بعامة حول قضايا لم أتوقع الاختلاف حولها .
إلا أني وجدت ما يحل إشكاليات عديدة في الفكر الإنساني من خلال القرآن الكريم وهذا ما جعلني أعتبره نبراسي والنور الذي أهتدي به .
وعلى مدى ثلاثين عاما وأنا أحاول عرض هذه الحلول رغم محاولات الرفض العديدة والمتنوعة والغير مبررة منطقيا مما زادني إصرارا وصبرا وتسامحا .
إلى أن أشار على أخي محمود دويكات مؤخرا بقراءة النيلي في كتاب " النظام القرآني " وذكر لي الروابط ، وحين قراءتي للخمسين صفحة الأولى وجدت تطابقا يكاد يكون تاما - من ناحية الفكرة - بين ما أقرأ وما كنت أدعوا إليه من أفكار طوال هذه السنوات الثلاثين رغم أني لم أسمع عن هذا الشخص أو أفكاره إلا من ذات المصدر .
وهذا ليس بغريب ففي الاكتشافات والبحوث العلمية كثيرا ما نجد أن أكثر من شخص في وقت قد يكون واحدا تم اكتشافهم لفكرة واحدة رغم بعد المسافات بينهم ( قبل عصر الاتصالات السريع ) وبعده ، وهذا ما نراه في جوائز نوبل .
والنتيجة التي أود إبرازها هى توارد الخواطر فيما بيني وبين النيلي ، وعليه ألا يدل ذلك على وجود التقارب الفكري الذي يصل إلى حد التطابق في نتائج إنتاج البشر البعيدين عن بعضهم تكوينا ، ولكن الذي يجمعهم هو المنهج العلمي وفقط .
والملاحظ تنوع الإنتاج فيما بيننا أنا والنيلي ، وهذا طبيعي لتنوع تكويناتنا مما يوجب التصويب الواجب لكل منا ومما يؤكد التكامل الموضوعي والجماعي فيما بيننا نحن المختلفين تكوينا وعلما وثقافة ، ولكن الأساس هو في المنطق ( المنهج ) وخاصة في وجود مرجعية واحدة .
ومن الملاحظ أيضا أنني أسهبت في هذه النقطة وذلك لأهميتها في الخروج من فوضى الاختلاف الذي نعيشه والذي يصر عليه البعض بالقول بأنه طبيعي فيما بيننا نحن أصاب المرجعية الواحدة كباقي الناس ، رغم تعارض هذا مع النصوص الواضحة في القرآن الكريم .
وفي الحقيقة أنا ألزم نفسي بالآتي :
تغاير كلام الله ( القرآن الكريم ) عن كلام المخلوقين ، قصور المتلقي مهما أوتي من علم ولكننا نجتهد للاقتراب من الحقيقة ، عدم وجود اختلاف في القرآن ، القرآن يفسر بعضه بعضا ، عدم وجود أكثر من معنى للفظ الواحد من ألفاظ القرآن ، عدم وجود مترادفات ولا مجاز في القرآن الكريم .
هذا ما أدعوا إليه ، وعلى الله قصد السبيل .
وما أود التأكيد عليه في هذه المقالة هو وجوب إعادة النظر في العديد من الألفاظ الشائعة بيننا ، حتى يستقيم معناها مع القرآن الكريم والواقع الذي نعيشه للخروج من دائرة التردي التي أبتلينا بها من فوضى فكرية نعيشها .
فيا أهل القرآن عليكم بإسداء النصح لتنمية القدرات وتوسيع الرؤى حتى يتم الربط بين معارفنا جميعا في رؤى كلية حتى نفهم القرآن الكريم فهما صحيحا .