في العمارة، كما في النشاطات البشرية الأخرى، يكون هناك من الدورات ما هي في بدايتها، وأخرى قد اكتملت وأخرى في مرحلة النمو. وكلها توجد معًا في نفس الوقت وفي نفس المجتمع، وهناك أيضًا أوجه من التراث تعود لبداية المجتمع البشري؛ إلا أنها ما زالت حيّة وستظلّ موجودة ما وجد المجتمع البشري؛ مثل صنع الخبز وضرب الطوب. *حسن فتحي، كتاب «عمارة الفقراء»
رغم مرور العديد من السنوات، وعلى الرغم من التطور التكنولوجي الهائل الذي تعيشه الإنسانية، إلا أن بعض تجليات التراث لا تزال موجودة هنا؛ تقف عصيّة أمام التقدّم العلمي الهائل وتفرض نفسها، وهناك العديد من المؤشرات التي يمكن الاستعانة بها لمعرفة مدى استجابة البشر لتطورات الحياة، وتعدّ العمارة أحد تلك المؤشرات، وذلك لأنها فنّ يؤرخ لمدى وعي الشعوب وطرق تعاملهم مع البيئة.
والعمارة هي أكثر الفنون تعلقًا بالتراث؛ وحضارة العمارة الطينيّة هي المباني التي أقيمت باستخدام الطوب النيئ والقصبان والجص، وقد أقيمت تلك المباني بشكل كلي أو جزئي باستخدام الطين؛ إذ يبدأ البناء باستخدام الطوب النيئ بعد خلطه بالتبن ليعطيه قوة، أما النوافذ والأبواب ودعائم السقف فتصنع من خشب السنط، وبالنسبة لحوامل السقف فهي عبارة عن جذوع النخيل؛ إذ يتم فتل جريد النخيل بالحبال من أجل استخدامه إطارًا للأبواب والنوافذ، ويستخدم لياس الطين في أرضيات البيوت والمباني.
البيوت التي نسكنها
تعد العمارة أهم أداة لتنظيم المجتمع، وذلك عبر ترتيب عملية التفاعل في المكان؛ كيف يتشكل الحيز الفاصل بين الإنسان والحيوان والنبات، فتشكلت التجمعات السكنية الأولى بالسهول المتاخمة لضفاف الأنهار الكبرى كالنيل ودجلة والفرات، وقد تم اختيار الطين من قبل السكان الأوائل لأنه يجسد هوية ذاتية للمكان وباعتباره شكلًا من أشكال تحقيق الانسجام بين الإنسان ومحيطه الحيوي، وقد ساعد هذا الانسجام والتوافق في استمرار العمارة الطينية عبر العصور المختلفة.
صورة بانورامية لقلعة أرجي بام في إيران
نبتت العمارة الطينية من الأرض، وانبثقت البيوت الطينية من السهول والواحات، فتكونت القرى الطينية والبلدات التي لا زالت تحتفظ بأبنيتها القديمة حتى الآن في غالبية بلاد العالم؛ فكل شعب أنتج معمارًا في البداية أخذ يطوّر أشكاله التي يفضلها، والتي تخصّه هو وحده، مثل لغته وملبسه وفنونه الشعبية، وقد جسدت تلك البيوت لغة بصرية مفعمة بالألوان تعكس لغة وشخصية أوطانها؛ فانحناء القبّة الفارسية لا يطابق انحناء القبّة السورية أو المصريّة أو المغربيّة.
وعلى الرغم من تأثّر شكل المباني الطينية بالبيئة المحيطة من سهول وأنهار، إلا أن هناك بعض العناصر المشتركة التي تجمع تلك البنايات؛ إذ تتميز البيوت الطينية بتلاصق الأسطح وتجاورها حتى يسهل التواصل بين الجيران، يوجد في كل بيت منفذ صغير في الجدار يُدعى «الطاقة» تتواصل من خلالها الدروب، ويشكل الدرب بناءً واحدًا ينقسم إلى عدد من البيوت يفصل بينها جدران قليلة الارتفاع، وبداخل البيت الطيني يوجد مكان لمعالف الدواب، وحظيرة للحيوانات، ويجب أن يحتوي البيت الطيني على حوش كبير مفتوح تدخله الشمس، وتوجد فتحات متروكة لوضع الجرار، وتُزين الحيطان بنقوش مختلفة هدفها إخفاء عيوب البناء.
معالم ثقافية بارزة بُنيت بالطين
لم يقتصر البناء بالطين على البيوت الشعبية؛ فسور الصين العظيم شُيد معظمه من الطين والتراب الخام. وفي القرن السابع قبل الميلاد بُني برج بابل باعتباره أول ناطحة سماء في التاريخ باستخدام الطين، كما انتشر استعمال الطين في الحضارة الفرعونية القديمة وحضارات بلاد الرافدين وحضارة الهنود الحمر والمكسيك والحضارة الرومانية والهندية وحضارة بلاد ما وراء النهر، وهناك العديد من المعالم الثقافية التي بُنيت بالطين ولا زالت تحتفظ بجمالها حتى اليوم؛ نذكر خمسة من أبرز هذه المعالم في الأسطر القادمة:
1- مدينة هافانا القديمة
بنى الإسبان مدينة هافانا القديمة عام 1519 على الساحل الشمالي الغربي لجزيرة كوبا، وخلال القرن السابع عشر تحولت المدينة لمركز عملاق لبناء السفن في جزيرة الكاريبي، ويطغى على المدينة الطراز الكلاسيكي القديم متجسدًا في المنازل بقناطرها وشبابيكها وشرفاتها المبنية بالمعمار الباروني، ولذلك ففي عام 1982 أعلنت منظمة اليونسكو وسط هافانا التاريخي موقعًا للتراث العالمي وفقًا للمعيار الخامس.
وينص المعيار الخامس من معايير اختيار المواقع الأثرية والتاريخية لقائمة التراث العالمي على أن «الموقع يجب أن يكون مثالًا لممارسات الإنسان التقليدية في استخدام الأرض أو مياه البحر بما يمثل ثقافة أو تفاعلًا إنسانيًّا مع البيئة، وخصوصًا عندما تصبح عرضة لتأثيرات لا رجعة فيها».
وبالنسبة لمدينة هافانا القديمة؛ فقد حافظت على شخصيتها المعمارية التي تكوّنت عبر تعاقب الحقب التاريخية، والتي أنتجت نمط البنية التحتية للمدينة؛ فهناك العديد من المباني والبيوت السكنية المنشأة بالطين على الطراز الشعبي، مثل الكنائس والقصور والقلاع والأسواق.
2- أهرام الشمس والقمر في المكسيك
شُيدت أهرامات الشمس والقمر بالمكسيك أثناء حضارة «التيوتيهواكان» التي ازدهرت بين عامي 200 و750 ميلادية، ويعد هرم الشمس سابع أضخم أهرامات العالم؛ إذ يبلغ ارتفاعه حوالي 71 متر، ويقع بمدينة تيوتيهواكان القديمة القريبة من ميكسيكو سيتي عاصمة المكسيك. ويتألف هرم الشمس من خمس درجات تربطها سلسلة من الممرات شديدة الانحدار، وفوق قمة الهرم أُقيم معبد إله الشمس، ولا يوجد بهذا الهرم أية سراديب أو فجوات كتلك الموجودة في أهرامات مصر.
أما هرم القمر فيبلغ ارتفاعه 43 مترًا، وهو عبارة عن مجموعة ضخمة رباعية الشكل تضم 15 معبدًا عُثر بداخلها على تماثيل من الحجر.
3- قصر آيت بن حدو في المغرب
يقع قصر آيت بن حدو في قرية آيت بن حدو بالمغرب على بعد 30 كيلو مترًا من مدينة ورزازات، والقصر عبارة عن قلعة من الرمال بُنيت بالطين وسط حقل مليء بأشجار اللوز، ولا يزال قصر آيت بن حدو محتفظًا بخصائصه المعمارية القيمة التي بُني عليها، وذلك على الرغم من تعرضه للكثير من عوامل التعرية عبر العصور المختلفة، ولذلك أعلنت منظمة اليونسكو ضمّ القصر لقائمة التراث العالمي خلال عام 1987.
شُيد قصر آيت بن حدو خلال القرن الثامن عشر الميلادي، ويطل القصر على وادي أونيلا حيث يجري هناك نهر صغير يُدعى بالوادي المالح، وتبلغ مساحته الإجمالية حوالي 1300 متر مربع، وقد تعرّض القصر للإهمال نتيجة هجرة السكان المتواصلة من القرية، إذ لم يتبق حاليًا من أهالي القرية سوى 800 شخص فقط.
4- قلعة بم الإيرانية
تحتوي مدينة بم الإيرانية على الكثير من المباني الشعبية الطينيّة، كما تضم المدينة أيضًا قلعة بم التاريخية، وقد بُنيت قلعة بم على الحافة الجنوبية من الهضبة الإيرانية؛ وتحديدًا بمحافظة كرمان جنوب شرق إيران، ويبلغ ارتفاعها حوالي 1060 مترًا فوق سطح البحر، ويعود تاريخ نشأة القلعة إلى الفترة الأخمينية التي تقع من القرن السادس إلى القرن الرابع قبل الميلاد. وقد كان أوج ازدهار القلعة في الفترة ما بين القرن السابع إلى القرن الحادي عشر.
اختارت «المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة» (إيسيسكو) في عام 2010 مدينة تريم اليمنية الواقعة بمحافظة حضرموت عاصمةً للثقافة الإسلامية، وذلك بسبب تميّز عمارتها الفريدة وتقديرًا لدورها التاريخي في نشر الإسلام بآسيا وأفريقيا.
الطراز العمراني في تريم يرتكز بالأساس على المباني الطينية؛ وقد شهدت المدينة تطوّرًا عمرانيًا منذ القرن الثاني عشر الميلادي وحتى القرن الرابع عشر الميلادي، وكان للعمال المهاجرين القادمين من سنغافورة والهند وإندونيسيا دورًا كبيرًا في تطور الحركة العمرانية في تريم.
البيوت في تريم لها طابع فريد يمتاز بالحميمية؛ فبداية تتكون البيوت من ثلاثة أو أربعة طوابق، ومساحة البيت عادة ما تكون واسعة وتتزين الجدران بالألوان والنقوش على هيئة خطوط أو دوائر منسقة، ويُكتب على الجدران بالألوان الزاهية آيات من القرآن الكريم أو أبيات من الشعر، وتعد تريم التجسيد الحي لروعة الهندسة المعمارية الطينية.
تُبنى البيوت في تريم عبر إحضار الطين وجمعه في أكوام وبعدها يُصب عليه الماء، ويُخلط بمادة التبن وهي مادة من مخلفات القمح والتي تساعد بشكل كبير في تماسك الطين، ومن ذلك المزيج يتحول الطين إلى حالة أخرى يسهل تشكيلها، فتُصنع منه قطع منظمة بأعداد هائلة، ويُترك في الشمس لعدة أيام حتى يجف ويصبح صالحًا لبناء المنازل.
بعد بناء البيت تُكسى الجدران من الداخل والخارج بالنورة، وهي مادة بيضاء تُصنع من الحجر الجيري، وأحيانًا يُكسى البيت من الداخل والخارج بالنورة، إلا أن المستخدمة داخل البيت ليست كالمستخدمة في الخارج؛ فالأولى تتميز بزيادة اللمعان، وتساعد النورة في حماية جدران البيوت من الأمطار والمياه كما تُظهر البيوت في صورة جميلة.
فضلًا عن البيوت الطينية الفريدة تضمّ تريم الكثير من المعالم التاريخية، ومن أهم معالم المدينة الطينية قصر القبة وقصر دار السلام وقصر التواهي، هذا وتضم المدينة 360 مسجدًا بعدد أيام السنة، بُنيت أغلبها على الطراز الطيني ولهذا تسمى تريم بمدينة صلاة الجماعة.
5- مدينة تريم اليمنية.. حضارة الحضارمة الطينية
كيف تبدو البيوت الطينية في تريم؟