أمر الله جل وعلا المسلمين أن يقولوا (لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ) ..فقال المحمديون ( سمعنا وعصينا )
مقدمة
1 ـ دارت مناقشات حامية فى موقعنا (اهل القرآن ) بعد نشر مقال (التقوى جوهر الاسلام ). النقاش انصب حول مقدمة المقال وعنوانها (التقوى نقطة الفصل بين الاسلام والمحمديين) وخاصة قولى فيها :( فشهادة الاسلام واحدة وليست إثنتين ، فهى شهادة أنه لا اله الا الله فقط. ومن شهد بهذا فقد آمن بكل الأنبياء دون أن يفرق بينهم ، أو أن يرفع واحدا من بينهم فوق الآخرين. حين يض&Cاف الشهادة بمحمد رسولا فهنا تفضيل له على غيره من الأنبياء وتمييز له عنهم ، وهذا كفر بالاسلام وفقا لما أكده الله تعالى فى القرآن ( البقرة 136 ، 285 ) ( آل عمران 84 ) ( النساء 150 : 152 ) ( الأحقاف 9 ). ولكن العقيدة الأساسية لديهم إنهم أمة محمد،وأن محمدا هو سيد المرسلين ، وهذا تأليه للنبى محمد يؤكده قيامهم بالحج الى قبره و الصلاة اليه بزعم الصلاة عليه ووضع اسمه الى جانب اسم الله تعالى فى المساجد وفى الأذان للصلاة قبل الصلاة و فى التحيات أثناء الصلاة ،وفى صلاة ركعات السنة له بعد الصلاة، وفى قراءة الفاتحة له ، وفى الاعتقاد الجازم فى شفاعته كأنه المالك ليوم الدين . وكل ذلك كفر عقيدى بالاسلام.)
اعترض بعض الأحبة واتهمنى بتكفير أغلبية المسلمين ، متخذا من وجود أكثرية حجة على كلام الله جل وعلا ، مع أن الله تعالى يؤكد أن الأكثرية دائما ضد الحق ، وأن النبى محمدا عليه السلام لو أطاعها فستضله عن سبيل الله.( الأنعام 112 : 116 ) .
2 ـ ولقد قلت إنه ( كفر عقيدى ) وليس بالكفر السلوكى الذى يعنى الاعتداء .وقد سبق توضيح أن الاسلام فى العقيدة هو التسليم والاعتقاد فى الله تعالى وحده الاها لا شريك له ، وفى معناه السلوكى هو السلام و المسالمة ، فكل من كان مسالما فهو مسلم حسب سلوكه ، ينطبق هذا على الأغلبية الساحقة من البشر غير الارهابيين سواء كانوا من المسلمين أوالمسيحيين أو البوذيين أو الاسرائيليين لأن الارهابى كافر بسلوكه مهما كان انتماؤه وشعاراته ، ولا دخل لنا بمعتقده لأن حساب العقائد عند رب العزة يوم القيامة ، فمن مات مشركا استحق الخلود فى النار مهما كان الشعار الذى يرفعه فى الدنيا، يقول جل وعلا (إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) ( المائدة 72 ) .
ورغبة فى اصلاح عقائد المسلمين بالقرآن الكريم ،وخوفا عليهم من الخلود فى النار وتضييع أعمالهم الصالحة فلا بد من عرض تلك العقائد على القرآن الكريم .
وأعلم ان الدخول فى هذا المجال سيجلب غضب الكثيرين من الأحبة ، وسيجلب المزيد من الاضطهاد لى ولأسرتى التى يؤاخذها المجرمون بماليس لهم فيه دخل ، ولكن كتم الحق يعنى لعنة الله والملائكة و الناس اجمعين( البقرة 159 ـ ) . ولهذا أقول الحق القرآنى ولا أفرضه على أحد ، وبعدها فلكل إنسان حرية الاختيار .. وسنلتقى أمام الواحد القهار يوم القيامة ليحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون .
3 ـ إن الكفر العقيدى أوالشرك فى العقيدة يبدأ عند البشر بتمييز نبى على غيره من الأنبياء ورفعه فوقهم توطئة لتأليهه ،ثم يتلوه تقديس وتأليه أصحاب ذلك النبى وحوارييه، ثم تتسع دائرة التقديس والتأليه (للصالحين ) لتصل الى التبرك بالمتخلفين عقليا كالمجاذيب . ويتجسد التقديس القلبى أوالشرك القلبى أوالكفر القلبى فى عبادات عملية تتمثل فى التبرك والتوسل بأحجار القبور المنسوبة لأولئك الأشخاص و بالحج اليهم وتقديم القرابين لسدنة تلك المعابد .
وهذا المرض لم ينج منه المسلمون مع وجود القرآن الكريم معهم ، فمع تكرار قولهم شفهيا ( لا اله إلا الله ) إلا إن حياتهم الدينية متخمة بتقديس وعبادة القبور ، وأهمها القبر المنسوب للنبى محمد عليه السلام.
ويبدأ تناقضهم مع الاسلام باضافة اسم النبى محمد الى الله تعالى فى الشهادة ، أى بتمييزه عن الرسل ، والتفريق بينه وبين الرسل ، وتحويل شهادة التوحيد من شهادة واحدة الى شهادتين ، ثم التوسع كيفا بجعل النبى محمد شريكا لله تعالى فى الأذان و الصلاة والحج ،مع التوسع فى (الكم ) بتقديس غير النبى من الصحابة والأئمة والأولياء ، وقيام عبادات عملية كالحج الى قبورهم وتقديم القرابين لهم.
ولأن الشرك يبدأ بتقديس النبى فلا بد من بدء العلاج بمواجهة أول خطوة فى عقائد الشرك وهى رفع النبى محمد عليه السلام فوق مستوى الرسل بالتفرقة بينه وبين الرسل . وقد أكّد رب العزة مقدما ـ ومرارا ـ على النهى عنها و التحذير منها ، وجعلها إختبارا حيا وعمليا لصحة العقيدة ، فالمؤمن الحق يقول ( سمعنا وأطعنا ) أما المحمدى فلسان حاله يقول ( سمعنا وعصينا ). وذلك المحمدى يجعل نفسه عدوا لمحمد ولعقيدته (لا اله إلا الله ) التى عاش من أجلها مجاهدا رسول الله عليه السلام .
4 ـ وجاء ضمن ردى عليهم : (أننى لا أكفّر أشخاصا وانما معتقدات تخالف القرآن الكريم ، وهذا بهدف الوعظ والتحذير وليس التكفير ، وكررت حتى مللت من التكرار حق كل انسان فى معتقده طالما لا يفرضه على الغير ، ) وهانذا أؤكد مجددا أنه ليس القصد فى كل ما أكتب تكفير أحد ، وانما توضيح حقائق الاسلام المنسية فى القرآن الكريم أملا فى هداية المسلمين من عذاب يوم الدين.
كما أننى أخاطب الأحياء وليس الأموات الذين تحددت مصائرهم حسب ما قدموه من ايمان وعمل ، وعلم ذلك عند الله تعالى وحده .أخاطب الأحياء ،ولديهم متسع من الوقت للتفكير ، وكل ما أطلبه أن يخلو كل انسان الى ضميره ويقرأ بموضوعية وتعقل ، ويختار ما يشاء لنفسه ، لأن كل انسان مسئول عن نفسه وعن مستقبله يوم الدين .
وأعترف أنها مشكلة حقيقية . فمن يعمل فى إصلاح المسلمين بالقرآن الكريم لا بد أن يستشهد بالقرآن الكريم الذى أوضح كل معالم الشرك وتناقضها مع حقائق الاسلام . ومشكلة الاصلاح فى أن كل ما حذر منه رب العزة فى تفصيلاته لعقائد المشركين قد وقع فيها (المسلمون )، وبالتالى فإن أمانة البحث تستوجب توضيح هذا التناقض بين حقائق الاسلام فى القرآن الكريم والمعتقدات السائدة لدى المسلمين بهدف الاصلاح والتذكير والتحذير وليس للتكفير والتحقير.
5 ـ وقد سبق معالجة هذا الموضوع فى كتابى ( الأنبياء فى القرآن الكريم ) الذى قررته ـ مع أربعة كتب أخرى ـ على طلبتى فى جامعة الأزهر عام 1985 ، وبسب تلك الكتب صدرت قرارات رئيس الجامعة فى 5/5 / 1985 بوقفى عن العمل ومصادرة مستحقاتى المالية ومنعى من الترقية لآستاذ مساعد ومنعنى من السفر وإحالتى للتحقيق الذى تولاه وقتها د. محمد سيد طنطاوى عميد كلية أصول الدين فى أسيوط. وبسبب تصميمى على ما كتبت صدر قرار الاتهام رسميا باحالتى لمجلس التأديب متهما بانكار شفاعة النبى محمد وانكار عصمته ( المطلقة ) وأنكار تفضيله على الأنبياء.
وكانت التهمة الأخيرة بسبب بحث (التفضيل بين الأنبياء )فى كتاب ( الأنبياء فى القرآن الكريم) والذى أثبت أن تفضيل المسلمين للنبى محمد على غيره من الرسل يتناقض مع الاسلام .
وبعد مرور 23 عاما أنشر ذلك البحث مع تفصيل استلزم أن أكتبه فى ثلاثة مقالات بحثية، أولها هذا المقال الذى يناقش قضية التفريق بين رسل الله ، ثم يناقش المقال الثانى قضية التفضيل بين الرسل ، ونختم بالمقال الثالث عن شهادة الاسلام :هل هى واحدة أم أكثر.
والله جل وعلا هو المستعان..
المقال الأول :
قضية التفريق بين الرسل:
أولا: (لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ)(البقرة 285)
1 ـ الايمان بالرسول هو الايمان بما أنزل الله تعالى عليه وعلى كل الرسل ، أى ليس ايمانا بشخص الرسول واسمه ولكن بما أنزله الله تعالى على ذلك الرسول أى الرسالة أو الكتاب السماوى.
ولأن ما أنزله الله تعالى على أى رسول هو نفس الجوهر الذى نزل على كل رسول مع اختلاف اللغات والزمان والمكان، فان الايمان الحقيقى بالرسل يعنى أن تؤمن بهم جميعا دون ان تفرق بين احد منهم.
ولأن الخروج عن ذلك مدخل للشرك فان الله تعالى ألزم المؤمنين ان يقولوا: سمعنا وأطعنا فى عدم التفريق بين الرسل ،ومن لم يقلها باقتناع يكون كافرا عاصيا. وهو إختبار يعرف به كل مسلم حقيقة عقيدته ،وهو بصير على نفسه (بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)(القيامة 14: 15). قد يعترف فى نفسه بأنه فعلا يفرّق بين الرسل ويتمسك بذلك ، وقد يعترف بالخطأ ويصلح عقيدته ، وهذا فى إطار الممكن الذى يقدر عليه ، وقد يتمسك بعقيدة التفريق بين الرسل ويحاول ان يتعسف لها تأويلا فى القرآن الكريم ليضل الآخرين. وكل إنسان وما يختاره لنفسه ، وهو على نفسه بصيره مهما تحجج بالأعذار .
2 ـ ولمزيد من التوضيح نتوقف بالتدبر مع قوله تعالى : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ . لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ )( البقرة 285 ـ ).
(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ) أى أن الرسول نفسه آمن ـ ليس بشخصه ونفسه ولكن ـ بما أنزله الله تعالى عليه فى الكتاب السماوى. وبنفس الايمان ونوعيته آمن المؤمنون :(وَالْمُؤْمِنُونَ ) أى آمن المؤمنون بما أنزله الله تعالى على الرسول ، وليس ايمانهم متعلقا بشخص الرسول واسمه وتاريخه . كان ممكنا الاكتفاء بهذا التوضيح فى معنى الايمان بالرسل يعنى الرسالة ،ولكن يأتى التأكيد والمزيد من التوضيح بأن الايمان بالرسل يتضمن الآتى :
(ا )( كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) أى الايمان بالله جل وعلا وملائكته وكتبه ورسله، وقوله تعالى (كُلٌّ ) تشمل كل الرسل وكل المؤمنين حق الايمان، أىكلهم آمنوا بالله جل وعلا وملائكته وكتبه ورسله.
وهنا سؤال : هل الايمان بالله جل وعلا وملائكته وكتبه ورسله هو ايمان متعدد ؟ أى هل هو ايمان بالله جل وعلا الاها وحده ؟أم ايمان متعدد بكيانات مستقلة مع الله تعالى؟ أى هل يكون الايمان بالملائكة والكتب السماوية والرسل منفصلا عن الايمان بالله جل وعلا؟
الاجابة واضحه فى أنه الايمان بالله تعالى وحده الاها نزلت به الملائكة فى الوحى الذى جاء كتابا سماويا على كل الرسل ، ولذلك جاء التعبير ينسب الملائكة والكتب السماوية والرسل لله تعالى كأدوات له جل وعلا فى توصيل الرسالة للبشر، فيقول جل وعلا (كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ) فالملائكة والكتب والرسل جاءت مضافة الى ضمير يرجع الى رب العزة باعتبار أنه جل وعلا يملكهم جميعا فى أنهم أدواته فى تبليغ رسالة (لا اله إلا الله ) للبشر.
وحتى لا يقع أحد فى تفضيل أداة على أخرى وبالتالى رفعها الى مستوى الله تعالى المالك لكل هذه الأدوات قال تعالى أن من ضرورات الايمان قول الرسول والمؤمنين معه:(لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) وكلمة رسله بالعموم وبرجوع الضمير (رسله ) الى الله تعالى مما يؤكد تحريم التفريق بينهم ، فكلهم داخل فى كلمة (رسله ) دون تمييز لأحد منهم بالاسم أو الشخص .
وحتى يؤكد رب العزة أنها قضية ايمان أو كفر أوجب فيها اعلان السمع والطاعة فقال بعدها " (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) والسمع والطاعة ليس مجرد كلمة تقال ، بل هو عهد وموقف ، على أساسه سيتحدد موقفك أنت يوم القيامة بين الجنة أو النار.
فالايمان بالله تعالى هو الأصل وهو الذى يتبعه ويدخل فيه الايمان بملائكته وكتبه ورسله ، وهو شرح لمعنى الايمان بالرسالة ،أو ايمان الرسول بما أنزل اليه من ربه ، فذلك الذى (أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ) نزلت به الملائكة وتحدث فيه رب العزة عن الملائكة ، وهذا الذى (أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) هو الكتاب السماوى، أى إن الايمان هنا فى حقيقته ايمان بالواحد الأحد كما جاء فى كل رسالة سماوية.
وحتى لا يكون هناك أدنى شك فأن التعبير بالايجاب والاثبات فى (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ) لا بد أن يتبعه تأكيد آخر بالنفى وهو قوله تعالى (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ )،وهو اسلوب القصر المتبع فى عقيدة الاسلام ،أى الايمان بالله تعالى وحده والكفر بما عداه ، وشهادة الاسلام ( لا اله إلا الله ) تبدأ بنفى أى اله والكفر بأى اله ( لا اله ) وتنتهى بالاستثناء ( إلا الله ) . ونفس الحال هنا فى الآية الكريمة ؛ تبدأ باثبات حقيقة الايمان بالرسل وهو انه ايمان بالرسالة وما تحتويه وجوهرها (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) ثم تؤكد هذا الاثبات بالنفى الذى لا بد ان يعلنه المؤمنون ، وهو أن يقولوا (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ )
(ب ) (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ): إذن عدم التفريق بين الرسل هنا هو الوجه الآخر للعملة فى عقيدة الاسلام ،فيجب أن يكون الايمان بكل الرسل جميعا بلا تفرقة وبلا تمييز لرسول على آخر وبدون ذكر لاسم رسول دون الآخر لأن الايمان هو بالرسالة وما أنزل الله جل وعلا ،وليس بشخص الرسول . ولأنها قضية ايمان وكفر فقد جاءت فى مفتتح سورة (محمد ) : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ) فلم يقل ( آمنوا بمحمد ) ولكن قال (وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ). ولأنها أساس العقيدة وتعنى الايمان أو الكفر فلا بد فيها من الاقرار وإعلان الشهادة والتسليم بها سمعا وطاعة ، نطقا باللسان و إذعانا بالجنان ، لذا تأتى المرحلة التالية :
(ج ) (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أى إعلان الطاعة والالتزام بعدم التفريق بأن يقول المؤمن (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) وأن يستغفر الله جل وعلا عما كان يقع فيه من قبل من تفريق بين الرسل بأن يقول (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).
(د ) (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) هذا التكليف العقيدى بعدم التفريق بين رسل الله عليهم السلام يقع فى نطاق الممكن المستطاع، وكل انسان يستطيع بعقله المجرد أن يرفض وضع أى إنسان مخلوق الى جانب الخالق .
وكل مؤمن قارىء للقرآن يعرف أن الله جل وعلا قد أمر خاتم الأنبياء أن يعلن أنه بشر مثلنا مع أنه يوحى اليه ، وأن من كان يرجو النجاة يوم القيامة فعليه أن يعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ( الكهف 110 ) فهل يصح أن نجعله هو عليه السلام شريكا مع الله جل وعلا؟. والمؤمن القارىء للقرآن يعلم أن الله جل وعلا قد أمر رسوله محمدا عليه السلام بأن يعلن أنه متبع لملة ابراهيم حنيفا , وإنه أول المسلمين بمعنى إنه أول الناس خضوعا للرحمن فقد أسلم لله رب العالمين صلاته ونسكه وحياه ومماته ، وأنه لا رب له سوى رب العالمين ( الأنعام 161 ـ ) فهل يصح بعدها أن نتجاهل عبوديته لله تعالى وأن نعتقد العكس فنجعله قرينا لله تعالى فى شهادة الاسلام وفى الصلاة و الحج والذكر و الأذان ؟.
العقل السليم يرفض جعل محمد عليه السلام الذى كان متبعا لملة ابراهيم متميزا على ابراهيم وكل من سبق من الأنبياء، ليس فقط لأن الله تعالى هو الذى نهى عن ذلك ، ولكن أيضا لأن العقل السليم يقرّ بجهله بالغيب ، ويدخل ضمن الغيب أحوال الأنبياء السابقين ـ بل وعددهم ـ وما حققوه من منزلة عند الله. وبالتالى فالعقل السليم لا يخوض فيما لا يعرف ، ثم إذا اهتدى هذا العقل بالقرآن فلا بد أن يقول سمعنا وأطعنا ، ولا يمكن أن يقول سمعنا وعصينا.
وبالتالى فان الأمر بعدم التفريق بين الرسل هو فى وسع النفس البشرية ، فلم يكلفها الله جل وعلا فوق طاقتها ، ، وعليه فلو التزم المؤمن بهذا الذى يستطيع فعله فإن من حقه أن يدعو الله جل وعلا بألا يؤاخذه على ما سلف من خطأ أو نسيان:(لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ).
3 ـ ونتساءل : إذا كان تنفيذالأمر فى قوله تعالى (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) فى مقدور الانسان فلماذا تقع أغلبية البشر فى تقديس وعبادة الأنبياء ؟ الجواب فى كلمة واحدة هى ( الهوى ). الهوى نقيض العقل ، وهو الذى يغيب العقل ،بل هو الذى يجعل العالم بالدين يستخدم ذكاءه المعرفى فى تأويل وتغييب الحق الذى أنزله الله تعالى ليضل الناس بما أوتى من علم ، وفيه يقول رب العزة (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(الجاثية 23 ). فذلك شخص أوتى العلم والمعرفة ولكن اتبع هواه فاستخدم علمه فى الاضلال فزاده الله تعالى ضلالا على ضلال .. ويسألنا ربنا جل وعلا (أَفَلا تَذَكَّرُونَ ؟ ) وهو تساؤل يجرى مع كل زمان ومكان وفوق الزمان والمكان لأن أولئك ( العلماء ) هم فى كل زمان ومكان سدنة الديانات الأرضية التى تنشأ على أنقاض الدين السماوى، وقام ويقوم أولئك ( العلماء ) بتحريف وتشويه وتأويل الحق الالهى اتباعا للهوى ،والهوى ( يهوى )المال والجاه ، ولا (يهوى) الاضطهاد الذى يصاحب من يعلن الحق ويتمسك به فى وجه الأغلبية التى تتبع الباطل المتوارث مما وجدت عليه آباءها . ولمزيد من التأكيد ندعو لتدبر قوله تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ ) ( الأعراف 175 ـ )
ثانيا :( لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ( البقرة 136 )
التفريق بين الرسل هو بداية التأليه للرسول الذى يميزه الناس على غيره من الرسل ،وهو أيضا هدم للدين الالهى الواحد الذى نزلت به كل الرسالات السماوية بمختلف اللغات، والذى يعنى باللغة العربية (الاسلام ) أى الاستسلام لله تعالى وحده الاها لا شريك له فى العقيدة والعبادة والسلام مع الناس فى السلوك والأخلاق.التفريق بين الرسل يعنى الخروج من هذا الدين العالمى الالهى الواحد والدخول فى أديان أرضية متفرقة مختلفة متنازعة تحت أسماء مختلفة .وهذا ما حدث فى الرسالات السماوية التى حملت الاسلام قبل نزول القرآن الكريم.
وحين نزل القرآن الكريم على محمد خاتم الأنبياء الذى ينتمى الى ذرية اسماعيل بن ابراهيم عليهم جميعا السلام ، كان أهل الكتاب وقتها قد أهملوا اسم الاسلام ،واتبعوا أسماء جديدة، وثار الجدل بين المسلمين وأهل الكتاب حول إسم الاسلام وحول الأنبياء السابقين من ابراهيم واسحاق ويعقوب هل كانوا مسلمين أم كانوا هودا أو نصارى طبقا للمسميات المستحدثة عند أهل الكتاب بعد إهمال وتضييع اسم الاسلام ؟. وفى الرد عليهم أكّد رب العزة أن ابراهيم أسلم لرب العالمين ، وأن ابراهيم ثم يعقوب أوصى كل منهما بنيه بالتمسك بدين الاسلام ، ثم ذكر رب العزة قول اليهود والنصارى للمسلمين فى عهد نزول القرآن وردّ عليهم : (وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ( البقرة 135 ).
بعدها قال جل وعلا ::(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(البقرة 136 ).كلمة (قُولُوا ) مأموربها المسلمون ، ومقصود بها أهل الكتاب أيضا .
(قُولُوا ) بالنسبة لأهل الكتاب هى توجيه نفس الدعوة لهم بالايمان بكل ما أنزل الله جل وعلا فى الكتب السماوية السابقة التى نزلت على ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى وكل الأنبياء ، مع عدم التفريق بين أحد من الرسل ، وأن يسلموا لله جل وعلا وحده قلوبهم وعقيدتهم وعبادتهم. ليس هنا إيمان بشخص أى نبى و لكن بما نزل عليه ، فكل مسلم مأمور بالايمان بكل الكتب السماوية ومنهى عن التفرقة بين الرسل ،
(قُولُوا) بالنسبة للمسلمين تعنى أن الله جل وعلا أمرهم بأن يعلنوا لأهل الكتاب أنهم يؤمنون بكل ما أنزل على الأنبياء السابقين دون تفرقة بينهم ، وأنهم لله جل وعلا مسلمون ، وبالتالى يجب أن نكون دعاة لأهل الكتاب نأمرهم بعدم التفريق بين الله والرسل ، وننصحهم ـ مثلا ـ ألا يرفعوا عيسى فوق الأنبياء، وألاّ يفاضلوا بينهم . والملاحظ ختم الاية بأن يقول المسلمون وأهل الكتاب: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فالاسلام من معانيه ومستلزماته عدم التفريق بين رسل الله ليسلم المسلم نفسه لله تعالى وحده، وهذا ما كان عليه المسلمون فى عهد النبى محمد عليه السلام .
ولكن من دخل فى الاسلام من أبناء أهل الكتاب تابعوا أسلافهم فى موضوع التفريق بين الرسل ، بأن ميّزوا خاتم النبيين على من سبقه من الرسل ،أى إن أولئك المسلمين ـ بدلا من اصلاح معاصريهم من أهل الكتاب ـ تابعوهم فى نفس الخطأ ورفعوا محمدا فوق الأنبياء، وبعد أن كانوا مسلمين لله وحده أصبحوا ( محمديين ) فى مواجهة (المسيحيين )،إذ أضاف المحمديون لمحمد نفس ما أضافه المسيحيون للمسيح ، مع بعض اختلافات شكلية لفظية لا محل للتوسع فيها الآن.
وإذا كان المسيحيون قد اختلفوا فى طبيعة المسيح الى أديان أرضية مختلفة فان المحمديين بعد اتفاقهم على رفع محمد فوق السابقين من الأنبياء مالبث أن أختلفوا حول أصحاب محمد الى سنة وشيعة ، وكان ممكنا أن يظل هذا الاختلاف محصورا داخل دائرة الفكر والفلسفة ،أى مجرد فكر بشرى منسوب لأصحابه ، ولكن المسلمين نسبوا أفكارهم للنبى محمد ولله تعالى فى شكل أحاديث بزعم أنها وحى الاهى ، وبذلك أقاموا أديانا أرضية بوحى مزور يخالف القرآن الكريم ، ويزعم أن النبى محمدا قال ( أنا خير ولد آدم ولا فخر ) و ( فضّلت على الأنبياء بسبع ..) ( كنت نبيا وآدم بين الماء و الطين ) و( كنت نبيا وآدم لا ماء ولا طين ) ( أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر) ...الخ ..وأصبح من افتتاحيات الخطب و المقالات إفراد محمد وحده بالشهادة مع الله و بالصلاة عليه والتسليم ، ووصفه بأنه (اشرف المرسلين ) و( سيد الأنبياء والمرسلين ).و( سيد الكونين ).الخ .
إنقسم المسلمون كما انقسم أهل الكتاب ، وهم يتنافسون حتى الآن فيما بينهم ،أى يتنافس المحمديون مع المسيحيين ، وفى كل ذلك جعلوا الأنبياء لعبة للتنافس والتعصب ، كل فريق يوالى نبيا ويرفعه فوق الآخرين ـ أى يفرق بين الله تعالى ورسله.
ونعود الى السياق القرآنى فى قوله تعالى (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)( البقرة 136 ) فقد أمر الله جل وعلا المسلمين هنا بأن يدعو أهل الكتاب الى الايمان بكل ما أنزله على كل الرسل ونهاهم عن التفريق بين الرسل ، وأن يسلموا لله جل وعلا قلوبهم .
وغريب أن يقع المسلمون بعدها فى نفس الخطأ ،وهم المأمورون بنصح أهل الكتاب حين فرقوا بين رسل الله، ولكن الأغرب أن الآية التالية تجعل من موضوع "عدم التفريق بين الرسل" قضية ايمانية فارقة يتبين فيها موقع كل انسان ؛إما أن يكون مهتديا أو يكون مشركا فى عقيدته ، وما يتبع الاشراك بالله تعالى من تفرق فى الدين وانقسامات مذهبية وطائفية ، وقع فيها أهل الكتاب ، ووقع فيها المسلمون بعدهم بمجرد أن رفعوا محمدا فوق الأنبياء عليهم جميعا سلام الله تعالى . إقرأ الآية التالية بتمعن وتحسر على تفرق المسلمين منذ أن خالفوا الاسلام ورفعوا محمدا فوق الأنبياء والرسل : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (البقرة 137 ). نحن الآن فى شقاق عقيدى بين السّنة والشيعة والصوفية ، ثم تشعب الشقاق الى انقسامات مذهبية داخل كل طائفة؛ فهناك مذاهب فقهية سنية ، وهناك طوائف مختلفة داخل التشيع ، وهناك طرق متكاثرة داخل التصوف، وفى كل عصرتتزايد الانقسامات , ولكن يبقى أصل الشقاق باقيا لا خلاف حوله لأنه سبب المصائب ، وهو أن الجميع يقدس محمدا ويصلى عليه أو له ـ صلات تقديس ، ويحج الى قبره فى ابتداع فى الدين لم يعرفه النبى محمد فى حياته، بل لم يعرفه عصر الخلفاء الراشدين . لو عاملنا محمدا عليه السلام فى عقائدنا وفقا لأوامر الله تعالى ما وقعنا فى شقاق وخلاف، لأننا سنؤمن بالرسل كلهم سواءا بسواء دون تفريق لأن الايمان سيكون فقط بما أنزل الله جل وعلا عليهم ، بأنه لا اله إلا الله تعالى الواحد القهّار.
ثالثا :( لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)
الجدل بين المسلمين وأهل الكتاب المشار اليه آنفا فى سورة البقرة ( 130 : 141 ) فى تأكيد أن الاسلام هو دين ابراهيم قد تكرر في سورة آل عمران ،وفيه يقول تعالى لأهل الكتاب (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِين )( آل عمران 65 ـ ) ويستمر الى ان يقول جل وعلا لهم ليبرىء الأنبياء من أكاذيب التأليه التى ألصقها بهم من جاء بعدهم :(مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ )( آل عمران 79 ) أى لا يصح ولا يجوز ولا ينبغى لرسول من رسل الله أن يدعو الناس الى جعله الاها مع الله ،وهو الذى تتمحور رسالته حول ( لا اله إلا الله) . وبالتالى فليس فى الاسلام تأليه للملائكة و الأنبياء لأن ذلك هو الكفر و الخروج عن الاسلام الذى هو دين الله جل وعلا (وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) ( آل عمران 80 )ثم يقول جل وعلا يؤكد على ان الاسلام ليس فقط دين الله جل وعلا للبشر جميعا بل هو أمره جل وعلا لكل ما خلق من الكائنات التى تخضع لنواميسه فى الكون و الحياة والحركة طوعا أو كرها:(أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)( آل عمران 83 ) .
وإذا كان هذا الدين الاسلامى هو الدين لكل الكون من جمادات و كائنات و مخلوقات وبشر فكيف يبدأ الانحراف عنه وكيف يبدأ الناس بإقامة أديان أرضية على أطلاله ؟
البداية فى جريمة التفريق بين الرسل فيتبعها تقسيم الدين الواحد الى ملل ونحل ، كل ملة ترتفع بالنبى الذى تتبعه فوق الأنبياء الآخرين . ولهذا فان الحل هو الايمان بالرسالات السماوية كلها بلا تفريق بين الرسل ، وهذا ما أمر الله تعالى محمدا رسوله الخاتم لكى يقوله ويعلنه لأهل الكتاب فى سياق هذا الحوار معهم : (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(آل عمران 84 ) هنا يأتى الأمر للنبى محمد نفسه أن يقول نفس ما أمر الله تعالى المسلمين واهل الكتاب بقوله ، وأن ينهاهم عن التفريق بين الرسل :(قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.)(آل عمران 84 ) ونلاحظ هنا تكرار لنفس آية سورة البقرة (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)( البقرة 136 ) وهو تكرار يكاد تتطابق فيه الكلمات ، وهذا التكرار ليس مجرد التاكيد فقط ، ولكن فيه ردا مسبقا على من سيأتى فيما بعد ليرفع محمدا نفسه فوق الأنبياء والرسل ، وهو تأكيد مسبق بأنه اذا كان النبى محمدا مأمورا بهذا فانه يكون عدوا لكل من يخالف هذا الأمر .
ويلاحظ أيضا تكرار قوله تعالى (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) للتأكيد على أن الاسلام من مستلزماته عدم التفريق بين الرسل .
ولمزيد من التأكيد على أن عقيدة الاسلام تأبى التفريق بين الرسل، وأن من يفرق بين الرسل لا يمكن أن يكون عند الله تعالى مسلما قالت الآية التالية : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (آل عمران 84 : 85 ) لأن المسلم الحق عند الله تعالى هو الذى لا يفرق بين الله تعالى ورسله . لماذا ؟
فالايمان بجميع الرسل والأنبياء بلا استثناء وعدم تفضيل بعضهم على بعض هو جوهر الاسلام. لأن الاسلام هو أن تسلم وجهك وقلبك لله تعالى وحده بدون شريك، فاذا جعلت رسولا مميزا فوق بقية الرسل والأنبياء فلا بد أن تأخذ مساحة من التقديس القلبى الواجب لله تعالى وحده وتعطيه للنبى المفضل لديك ، أى تجعل التقديس شركة بينه وبين الله تعالى ، وهذا هو الشرك. ثم لا تلبث ان تعطيه فى قلبك وعقيدتك شيئا من قدرة الله تعالى ، فتجعله حيا بعد موته فى الدنيا و شفيعا فى الآخرة ، ومن ثم تلوذ به وتتمسح بالجاه المزعزم الذى أضفته اليه، وهذا ما تدور عليه حياتنا الدينية ، نعتقد فى " جاه النبى" وأنه "حىّ فى قبره " تعرض عليه أعمالنا ليراجعها ويتشفع فيها مقدما ، ثم له الشفاعة يوم القيامة حيث يكون هو مالك يوم الدين ، اذا أمر الله تعالى بدخول احدهم الى النار فان شفاعته تردّ أمر الله تعالى كما لوكان رب العزة يبدل القول ويتراجع فيه !! ولذلك لا بد أن تصلى للنبى محمد وأن تحج الى قبره حتى تضمن شفاعته لأنه شريك لله تعالى فى الملك، بل اننا حين نقول كلمة " النبى " فلا تعنى عندنا الا محمدا فقط ، وبقية الأنبياء لا وجود لهم فى بؤرة الشعور لدينا. بهذا يضيع الاسلام ، اى اسلام الانسان قلبه وعقله وجوارحه ووجهه لله تعالى وحده ، وهذا ما يؤكده واقع الحياة الدينية لمعظم المسلمين الذين أسلموا عقولهم وقلوبهم الى محمد وليس لله تعالى، ويتوسلون (بجاه النبى) وليس فى بؤرة الشعور عندهم فى معنى النبى و الرسول سوى محمد ، لذلك فقد صدق الغرب حين سماهم ( محمديون ).
العادة فى الشرك أن يتكاثر ؛يبدأ بتأليه النبى ، ثم يمتد الى أهله ، واصحابه ، وهنا يقع الاختلاف بين من نؤثره من الأهل والأصحاب والأصدقاء، وهنا يختلفون كما فعل السّنة والشيعة ، ويبرز فى كل طائفة علماء وكهنة وأحبار يدعمون الخلافات بأحاديث كاذبة وافتراءات منسوبة لله تعالى ورسوله عليه السلام ، وتقوم كل طائفة بتقديس أحبارها ورهبانه وأئمتها وشيوخها الى درجة أن يرفعوهم فوق رب العزة جل وعلا ، ويصبح كلامهم متحكما فى كلام الله تعالى فى القرآن الكريم ،وعلى سبيل المثال فاننا حين نناقش أحاديث البخارى التى تؤله النبى محمدا وحتى تلك التى تطعن فيه تجد الأغلبية تدافع عن البخارى بالسليقة مع وضوح الطعن فى الاسلام ونبى الاسلام عليه السلام، أى تتكاثر الآلهة، فلا يصبح من تقديس باق لله تعالى الا اقل القليل
إن التقديس كله يجب أن يكون لله تعالى وحده فى كل قلب مؤمن مسلم ، فاذا أخذت جزءا من هذا التقديس وجعلته لبشر فأنت لم تقدر الله جل وعلا حق قدره ، بل جعلت ذلك البشر شريكا مع الله تعالى فى التقديس والعبادة، ولا يستطيع كل البشر المقدسين أن يخلقوا ذبابة واحدة ، ولو اجتمعوا لذلك (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ( الحج 74 ).
وكل التفصيلات السابقة أوجزها رب العزة فى الآيات التالية من سورة النساء .
رابعا : تكفير من يفرق بين الرسل :(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) النساء 150 : 152 ):
بالتدبر فى الآيات الكريمة يتضح الآتى :
1 ـ هنا قسمة قاطعة بين الايمان والكفر فى موضوع التفريق بين الرسل .فالمؤمنون هم (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) ويقابلهم الكافرون وهم (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا )
2 ـ أى أن التفريق بين الرسل يعنى التفريق بين الله ورسله ، ولهذا جاء وصف المؤمنين بأنهم (وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ) يعنى عكس ما يرتكبه (الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ).
وسبق أن قلنا ( الايمان بالله تعالى وحده الاها نزلت به الملائكة فى الوحى الذى جاء كتابا سماويا على كل الرسل ، ولذلك جاء التعبير ينسب الملائكة والكتب السماوية والرسل لله تعالى كأدوات له جل وعلا فى توصيل الرسالة للبشر، فيقول جل وعلا (كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ) فالملائكة والكتب والرسل جاءت مضافة الى ضمير يرجع الى رب العزة باعتبار أنه جل وعلا يملكهم جميعا فى أنهم أدواته فى تبليغ رسالة (لا اله إلا الله ) للبشر.
وحتى لا يقع أحد فى تفضيل أداة على أخرى وبالتالى رفعها الى مستوى الله تعالى المالك لكل هذه الأدوات قال تعالى أن من ضرورات الايمان قول الرسول والمؤمنين معه:(لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) وكلمة رسله بالعموم وبرجوع الضمير (رسله ) الى الله تعالى مما يؤكد تحريم التفريق بينهم ، فكلهم داخل فى كلمة (رسله ) دون تمييز لأحد منهم بالاسم أو الشخص )
3 ـ وقد تكرر من قبل وصف المؤمنين المسلمين الحقيقيين (....... لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)( البقرة 285 ) أى أمرهم الله تعالى بعدم التفريق فقالوا (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا). و(سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) تعنى التسليم والطاعة أى الاسلام لله تعالى وحده دليلا على عدم التفريق بين الرسل لذا قالوا فى الآية الأخرى (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) لتساوى (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) ، كما جاء فى ( لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) ( البقرة 136 ) و: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) ( آل عمران 84 ).
وعليه فان عدم التفريق بين الرسل هو الاسلام ، وعكسه التفريق بينهم الذى يكون كفرا ، كما جاء فى سورة النساء (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ)( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ )
4 ـ بل إن الكافرين هنا هم كافرون حقا ، وهذا وصف الله تعالى لهم (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا) وينتظرهم عذاب هائل يوم القيامة (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ). ويلاحظ أنها المرة الوحيدة فى القرآن الكريم كله أن يوصف ملمح من ملامح الكفر بأن أصحابه من الكافرين حقا (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ) .
5 ـ من معانى التفريق بين الرسل : الكفر بالله ورسله،والقول بالايمان ببعض الرسل والكفر ببعض ، والبحث عن تأويل فاسد يحقق لهم مرادهم ، وهذا ما جاء فى قوله تعالى :(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا) .والخطاب هنا للمستقبل ،اى بعد نزول القرآن الكريم الى قيام الساعة ، وهو مختلف عن الخطاب فى الآيات السابقة التى جاء الخطاب فيها بالماضى فى آية (285 ) فى البقرة إخبارا عن ايمان الرسول و المؤمنين وقولهم بعدم التفريق بين الرسل وأنهم سمعوا وأطاعوا ، وهو أيضا مختلف عن أيتى سورة البقرة (136 ) وآل عمران ( 84 ) حيث أمر الله تعالى الرسول و المؤمنين بأن يقولوا لأهل الكتاب (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) .
جاءت آيات سورة النساء ( 150 : 152 ) لتتكلم بالمضارع توجه الخطاب لمن سيأتى بعد نزول القرآن الكريم ،فلا تقول (الذين كفروا ) عن الماضين والسابقين بل (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ) أى تجعلها حكما عاما مؤكدا ( بإن )وساريا فوق ما سيأتى من الزمان على كل من (يكفر ). بل أكثر من هذا تجعل من الارادة القلبية جريمة ، وهى جريمة عند الله تعالى لأنها تتعلق بالشرك العقيدى و الكفر العقيدى ، فالآية الكريمة تجعل من الجرائم العقيدية أنهم (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ ) فهنا عقاب على مجرد (الارادة) ، لأن تلك الارادة هى التى تحرك صاحبها لأن يقول ولأن يفعل ، أى لأن يقول صراحة أو ضمنا (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ) ويفعل أى يقوم بتأويل الآيات ليتخذ منها سبيلا لاقناع الناس بأن فلانا من الرسل أفضل من غيره.( وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا).
إن الايمان الحق هو كما قال رب العزة (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) فالايمان بالله تعالى هو الأصل وهو الذى يتبعه ويدخل فيه الايمان بملائكته وكتبه ورسله بدون تفريق بين الرسل. حين يحدث التفريق بين الرسل يتبدل الوضع ، فالتقديس الذى يجب أن يكون لله تعالى وحده يتم إقتطاع جزء منه ليضاف للرسول المميز ، ويصبح الايمان بذلك الرسول المميز إيمان تأليه وتقديس ومختلفا عن الايمان العادى ببقية الرسل ، أى يتحول الى كفر بالله جل وعلا حيث جعل ذلك الرسول شريكا مع الله فى التقديس ، بينما يحرم بقية الرسل من تلك الميزة ، وبالتالى فانه لا يكفر فقط بالله ، ولكن يؤمن بالأوهية رسول ويكفر بالوهية الرسل الآخرين ، وفى كل الأحوال يقوم بالتفريق بين الله ورسله ، فبعد أن كانوا جميعا رسلا لله بدون تمييز لأحدهم على الآخر أصبح أحدهم مذكورا بالاسم الى جانب الله جل وعلا. ولأنهم سيفعلون هذا بعد انتهاء القرآن الكريم نزولا فلا بد أن يقوموا بتأويل الآيات واختراع الأكاذيب ليؤسسوا سندا لمزاعمهم التى تخالف القرآن الكريم . ولأنه لا حجة لهم ولا عذر بعد وضوح القرآن الكريم فان الله جل وعلا اعتبرهم كفرة حقا واعدّ لهم عذابا عظيما . كل هذا أوجزه رب العزة فقال (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ). ثم جاء الالتفات الى المؤمنين (حقا ) فقال تعالى فيهم بصيغة المضارع ايضا يخاطبهم فوق الزمان (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) .
إنها آية من آيات القرآن الكريم وإحدى إعجازاته حين ينبىء بما سيحدث مقدما ويحذر منه .
ومع ذلك فسيظل بعضهم متمسكا بما وجد عليه آباءه راضيا بأن ينطبق عليه قوله تعالى (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا)
أخيرا :
ويبقى أن نتساءل :
1 ـ إن تصحيح عقائدنا ممكن لو أردنا الهداية بصدق . وتصحيح عقائدنا يدخل فى دائرة الاستطاعة فلماذا لا نفعل ما هو ممكن ، وقبل فوات الأوان ؟
2 ـ هب إننى أتعسف القول وأبالغ .. فلماذا لا تتدبر الآيات وتخلو بنفسك متفكرا طالبا الهداية ؟
3 ـ فى النهاية فهذا أمر يخص الآخرة , ولا شأن له بمطامع الدنيا وصراعاتها ..ومعظم المسلمين ضحايا للاستبداد والاستعباد و الفساد ، وقد خسروا الدنيا ، فهل يخسرون الآخرة أيضا ؟
4 ـ إذا كان النضال فى سبيل اصلاح هذه الحياة الدنيا تحول دونه جيوش المستبدين مما يجعل الاصلاح مستحيلا فى المدى المنظور ، اليس من الأفضل أن نصلح عقائدنا وهو فى إطار الممكن ؟ أم أنه مكتوب على المسلمين منذ قرون أن يخسروا الدنيا والآخرة معا؟
5 ـ على الأقل فان دخول الجنة أقل تكلفة من دخول النار ..
أليس كذلك ؟ أم هو كذلك ؟
المقال القادم (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ )