الباب الثاني
في كيفية نقل الناس للحديث
في هذا الباب نتناول اللبس والأخطاء التي يقع فيها مَن ينقلون الأحداث، اخطاء في النقل غير متعمدة، لكنها تقلب الحقائق وتغير المفاهيم، وهو أمر من الطبيعي ان يحدث ما دام الذي يُحدّث يعتريه النقص المتلبس بالبشر والمتمثل هنا بالنسيان من جهة وعدم فهم المسموع من القول من جهة اخرى. يضاف الى هذا، الجانب الأخطر من الأمر وهو ابتداع الروايات والأحاديث لدعم وتقوية موقف جهة دون أخرى، وهذا وذاك هو مصداق قوله تعالى عن القرآن الكريم: " ولو ; كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً "
وهنا نسوق بعض الروايات التي تبين هذا الاختلاف عندما ينقل امرء حادثة حدثت قبل سنوات قليلة، او ربما اشهر معدودة فيخلط في الرواية ولا ينقلها على وجهها الصحيح، فكيف بالروايات والأحاديث التي تم تدوينها بعد مئتي عام، سفك خلالها دماء مئات الآلاف من الناس في سبيل كرسي الحكم؟!
عن عائشة أنها قالت: " ألا يعجبك أبو فلان جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدث عن رسول الله (ص) يسمعني ذلك، وكنت أسبّح، فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه، إن رسول الله (ص) لم يكن يسرد الحديث كسردكم./ ج2 كتاب المناقب ص 396
[و] ذكر عند عائشة أن ابن عمر رفع إلى النبي (ص):{ إن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله}. فقالت: وَهِلَ ابن عمر رحمه الله، إنما قال رسول الله (ص):{ إنه ليعذب بخطيئته وذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن}/ ج3 ص 56، قالت: وذلك مثل قوله: إن رسول الله (ص) قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال: إنهم ليسمعون ما أقول، إنما قال: { إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق}. ثم قرأت: " إنك لا تسمع الموتى " . " وما أنت بمسمع من في القبور "/ ج3 كتاب المغازي ص 56
…[و] عن نافع قال: " إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر، وليس كذلك، ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار يأتي به ليقاتل عليه ـ ورسول الله (ص) يبايع عند الشجرة، وعمر لا يدري بذلك ـ فبايعه عبد الله، ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر وعمر يستلئم للقتال، فأخبره أن رسول الله (ص) يبايع تحت الشجرة قال: فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله (ص)، فهي التي يتحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر./ ج3 كتاب المغازي ص110
اقول: هذه الروايات على قلتها تبين الامكانية الكبيرة للخطأ في نقل الروايات حتى عند أولئك الذين لا يقصدون التحريف، وهذا جزء من النقص الذي يعتري عمل البشر عموماً، مما يحتم علينا عدم وضع ما ينقله البشر على قدم المساواة مع القرآن الكريم. فإن قيل ان هذا التشكيك في نقل الروايات والأحداث ينسحب على الروايات التاريخية التي يظهر فيها عدم عدالة عدد من رواة البخاري، قلت: ان اهل السنة الذين رووا الحديث ودونوه لا ينكرون تلك الأفعال لأولئك الرواة ولكنهم لا يرونها مخلة بشروط عدالتهم! وأهم ما يرتكزون عليه هو ان أولئك الرواة، هم من صحابة رسول الله، وكأن صحبة الرسول (ص) ضمان يضمن المرء به الجنة! وكأن الصحابة معصومون كعصمة " الأئمة " التي تدعيها الشيعة الامامية، علماً ان الصحابة الذين بايعوا الرسول (ص) بيعة الرضوان تحت الشجرة قد قال الله تعالى فيهم: " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه "، وهذا دليل واضح على انه لا عصمة لبشر من الخطأ، لذلك فانه ما من بشر فوق النقد الا الرسل والانبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
اما بالنسبة لنا فإنا نعتمد حقيقة وصلتنا متواترة عبر الأجيال المتعاقبة تفيد ان الأمويين بزعامة معاوية قد وثبوا على الخلافة وأجهزوا عليها دون ان يأبهوا بدماء عشرات الآلاف من المسلمين سقطوا خلال انقلابهم هذا وتاسيسهم مملكة عربية تسلطت على الناس باسم الاسلام، وبقي اركان هذه المملكة ثقاة عدولاً لدى الذين عملوا على جمع الحديث ليقدموه الى العالم على انه هو الفكر الاسلامي.
ان جمع الحديث في وقت متأخر، بالاضافة الى انه يزيد من امكانية الخطأ بازدياد المدة الفاصلة بين " قوله " وتدوينه، يدل على ان هذا التدوين قد استغل من قبل المتأخرين لدعم رأي وموقف كل طرف منهم، والا لماذا لم يجمعه الصحابة (ر) كما جمعوا القرآن؟ بل ان العكس هو ما كان، فقد حرص الصحابة الكرام كأبي بكر وعمر (ر) على عدم جمع الحديث ولا حتى نقله مشافهة، وذلك حرصاً على الفكر الاسلامي النقي من ان تشوبه شائبة، بسبب الخطأ في النقل المتعمد وغير المتعمد، وبسبب ما يؤدي ذلك الى هجر للقرآن يفضي الى اتخاذ مصادر للفكر الاسلامي غير القرآن الكريم الذي حفظه الله من الاختلاف والتحريف، فإن قيل إن جانباً من الحديث قد تم تدوينه زمن الرسول (ص)، قلنا ان ما يحكى عن هذا التدوين انما حصل بصورة فردية لم يُكلف مَن قام به من قبل الرسول (ص) او احد خلفائه، فلم يكن بذلك عملاً ممنهجاً كالذي حصل في كتابة القرآن وجمعه.
يقول الدكتور صبحي الصالح : (حتى اذا كان عهد الخلفاء الراشدين لم يتغير الحال كثيراً فقد كانت آراء هؤلاء الخلفاء في التشدد في الرواية والتورع عن الكتابة امتداداً لآراء اخوانهم الصحابة في عصر الرسول (ص) فهذا ابو بكر يجمع بعض الأحاديث ثم يحرقها، وهذا عمر بن الخطاب لا يلبث ان يعدل عن كتابة السنن بعد ان عزم على تدوينها: عن عروة بن الزبير ان عمر بن الخطاب اراد ان يكتب السنن فاستشار في ذلك اصحاب رسول الله (ص) فأشار عليه عامتهم بذلك، فلبث عمر شهراً يستخير الله في ذلك شاكّاً فيه، ثم اصبح يوماً وقد عزم الله له فقال: اني كنت قد ذكرت لكم من كتاب السنن ما قد علمتم ثم تذكرت فإذا اناس من اهل الكتاب قبلكم قد كتبوا مع كتاب الله كتباً فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبداً فترك كتاب السنن).
يتضح من هذه الرواية ان عمر (ر) قد اتخذ قراراً بعدم تدوين الحديث استناداً الى سبب وجيه قرأه في تاريخ الأمم السابقة، وقد حدث الذي خشي عمر (ر) حدوثه؛ فعلى سبيل المثال هذا هو القرآن الكريم يقول: " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى "، بينما الأحاديث المنسوبة للرسول (ص) تزعم ان هذه قاعدة يمكن الشذوذ عنها! كما في حديث الخثعمية المنسوب للرسول (ص) والذي يعطي للأبناء ان يحجوا عن آبائهم، كما سيجيء لاحقاً.
وفي المقام نفسه يقول الدكتور مصطفى السباعي : (وهذا عمر بن الخطاب يوصي احد الجيوش المتوجهة الى العراق بالقول: انكم تأتون اهل قرية لهم دويّ بالقرآن كدويّ النحل فلا تصدوهم بالحديث فتشغلوهم؛ جودوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله (ص) وامضوا وانا شريككم فلما قدم قائد الجيش قالوا حدثنا قال: نهانا عمر بن الخطاب).
وهنا اتوجه بالقول الى الذين يقولون بإجماع الصحابة كأحد مصادر التشريع في الاسلام، وهو قول الجمهور، اقول لهم: هذا عمر (ر) يمنع ويمتنع عن جمع الحديث ولا يعترضه الصحابة، فيكون هذا اجماعاً من الصحابة على عدم جمع الحديث. ولو اراد الرسول (ص) ـ الموصول بالله ـ جمع الحديث لفعل ذلك في حياته كما فعل بالقرآن قبل ان يصبح الحديث مادة اعلامية لكل من اراد الكذب على رسول الله لتدعيم موقفه وتثبيت ملكه.