قال مارك هاي في تقرير له على موقع «أطلس أوبسكيورا»: إن السلطان مراد الرابع قمع ممارسة كان يعتقد أنها تثير انحطاطًا اجتماعيًّا وتشوشًا في عاصمته إسطنبول. وكان يعتقد أن خطر الفوضى الناتجة من هذه الممارسة كارثي للغاية، إلى الحد الذي دفعه إلى إعلان أن مرتكبيها يجب أن يقتلوا على الفور. وتقول بعض الروايات إن مراد الرابع تجول في شوارع إسطنبول متخفيًا، وبدد 100 ليرة عثمانية لقطع رأس أي شخص وجده متورطًا في هذا النشاط غير المشروع.
يتساءل هاي: «فما الذي اعتبره مراد الرابع جريمةً؟»، ليجيب بأنه تناول القهوة في الأماكن العامة.
على قدر غرابة الأمر، إلا أن مراد الرابع لم يكن أول أو آخر شخص يحارب شرب القهوة. لكنه كان الأكثر وحشية ونجاحًا في جهوده. فبين أوائل القرن السادس عشر وأواخر القرن الثامن عشر –يشير هاي– شنت مجموعة من القادة الدينيين والعلمانيين، ومعظمهم من العثمانيين، حربًا على شرب القهوة.
برر بعضهم ذلك بأن آثار القهوة على العقل تشبه تأثير المخدر «افتراض شائع». وبدا أن معظمهم، بما في ذلك مراد الرابع، يعتقدون أن المقاهي يمكن أن تؤدي إلى تآكل الأعراف الاجتماعية، أو تشجيع الأفكار الخطيرة؛ بل وحتى إثارة المؤامرات بشكل مباشر. أما في عالم اليوم، حيث ينتشر ستاربكس في كل مكان، لا يبدو هذا. لكن مراد الرابع كان لديه سبب للخوف من القهوة.
يضيف هاي: بدأت الحرب على القهوة في القرن السادس عشر؛ لأنها كانت قد انتشرت في معظم أنحاء العالم حينها. كانت حبوب البن معروفة وتستخدم منذ قرون في إثيوبيا، موطنها الأصلي. لكن أول دليل تاريخي واضح على طحن حبوب البن وتخميرها في كوب –مثلما أوضح المؤرخ رالف هاتوكس في" contenteditable="false">
ومع ذلك، اعتبرت المقاهي مقبولة بالنسبة للمسلمين؛ إذ كانت رخيصة ويرتادها الأغنياء والفقراء على حد سواء. وقد شجعت طريقة إعداد القهوة –بتحميصها 20 دقيقة تقريبًا، ثم ملء كوب ساخن لدرجة أنه لا يمكن شربها إلا في رشفات صغيرة– الزبائن على الجلوس، ومشاهدة أي شيء ترفيهي في انتظارها، والتحدث. لقد شكلت فضاءً اجتماعيًّا جديدًا شجّع على التواصل الاجتماعي والنقاش حول شئون البلاد.
يواصل هاي: لكن ذلك أفزع القائمين على شئون الدولة. لقد أوضح قادة الدولة العثمانية أنهم لا يحبون التجمعات العامة في المقاهي، أو اهتمام الفقراء المفاجئ بالفن، الذي كان حكرًا على الأغنياء فقط. فالمؤلفون مثل الباحث العثماني في القرن السابع عشر كيتلي جلبي، وهو بيروقراطي حكومي ينتمي لعائلة من الأثرياء، وصف المقاهي بأماكن «ألهت الناس عن أعمالهم، وأسقطتهم في الرذيلة. وعلاوة على ذلك، فإن الناس، من الأمير إلى المتسول، يسعدون أنفسهم بسباب بعضهم بعضًا».
سجل التاريخ أول حملة قمع للقهوة في مكة المكرمة عام 1511، وذلك عندما قام مسؤول علماني بارز في نظام ما قبل العثمانية بالقبض على الرجال الذين كانوا يشربون القهوة خارج المسجد، لظنه أن مظهرهم مريب. وعلى الرغم من تباين تفاصيل الرواية، لكنه استخدم التبريرات الدينية للقضاء على بيع القهوة، ثم تكررت حملات القمع في وقت لاحق في مكة، والقاهرة، وإسطنبول، وغيرها من المناطق العثمانية.
ويؤكد هاي أن السياسة أو الدين كانا هما الذريعة لحملة القمع في البداية، لكنها لم تدم طويلًا. على سبيل المثال، انتهت حملة مكة المكرمة في غضون أسابيع، عندما أمرت سلطة عليا بمواصلة قمع الاجتماعات المشكوك فيها، ولكن ترك الناس يحتسون القهوة. ولم يكن العثمانيون جادين في منعهم أيضًا؛ إذ كانت للقهوة شعبية كبيرة. وبحلول نهاية القرن السادس عشر، كان لدى البلاط العثماني صانع قهوة، وظهرت مئات من المقاهي في إسطنبول، وأعلنت الحكومة رسميًّا أن القهوة والمقاهي مشروعةً.
لكن مراد الرابع لديه سبب خاص لكره البن –يذكر هاي–؛ ففي طفولته كما يشرح المؤرخ السياسي العثماني، باكي تيزكان، أطيح شقيقه عثمان الثاني، وقتلته بوحشية الإنكشارية، وهي جماعة عسكرية نمت بشكل متزايد. وبعدها بعام، أطاحوا عمه. ونصبوا مراد الرابع حاكمًا وهو طفل. فعاش في خوف من التمردات الإنكشارية، وعانى من عدة انتفاضات صغيرة في عهده. يقول تيزكان: «في إحدى حالات التمرد، شنقوا الأشخاص المقربين منه. كان أحدهم رفيقه الشخصي المقرب، موسى. الذي اعتاد أن يشرب القهوة معه، ويقال إنهما كانا على علاقة جنسية مثلية».
ويضيف تيزكان: «غضب مراد الرابع بشدة. فبدأ يسيطر على زمام السلطة بطريقة شديدة القسوة. وقد دفعه ذلك إلى أن يصبح الشخص الذي يعرفه الجميع، وهو شخص مشهور بحب السلطة والقوة المطلقة، ويسارع إلى اللجوء إلى القوة المميتة».
عرف مراد أن الإنكشاريين المسرّحين أو العاطلين عن العمل يترددون على المقاهي ويستخدمونها في التخطيط للانقلابات –يضيف هاي–؛ بل إن بعض المقاهي علقت راية الإنكشارية. كان مراد الرابع على الأرجح مدركًا، كما يقول المؤرخ العثماني إمينغول كارابابا، أن حركة دينية محافظة –عارضت الصوفية والابتكارات الاجتماعية المرتبطة بها بما في ذلك المقاهي– كانت تنمو في إمبراطوريته. يقول كارابابا: «لم يرد أن يشهد حكمه اضطرابات»، كما كان يسعى إلى انتزاع السيطرة من الإنكشاريين؛ لذلك كان من مصلحته إغلاق المقاهي.
ويؤكد هاي: بيد أن قرار السلطان إنزال عقوبة الإعدام على شرب القهوة في الأماكن العامة كان يتماشى مع سلوكه الوحشي. كما فرض مراد الرابع عقوبة الإعدام على استهلاك التبغ والأفيون في الأماكن العامة، والحانات المغلقة، وغيرها من مصادر الرذيلة والاضطراب. لقد شاع عنه قتله الجنود لأسباب تافهة، ويقال إنه في إحدى نوبات الغضب الشديد، خرج يركض في الشوارع شبه عارٍ في منتصف الليل لقتل أي شخص يصادفه. ويرى تيزكان أن هذا يضفي المصداقية على رواية تجوله في إسطنبول متخفيًا وهو يحمل مطواة.
لم يمنع السلطان مراد البن بالكامل –يضيف هاي–، لكنه طارد بعض المقاهي في العاصمة، حيث يجري التخطيط لإطاحته. استمر مراد الرابع في شرب القهوة والخمر بنفسه، وتسامح مع استهلاكها طالما أنه حدث في أسر متجانسة اجتماعيًّا.
وقد سار خلفاء مراد على خطاه. فبحلول منتصف القرن السادس عشر، كتب جلبي أن مقاهي إسطنبول لا تزال «مهجورة كقلب الجاهل». وعلى الرغم من تفاوت عقوبات شرب القهوة بين التعرض للضرب أو الإعدام، لكن ثقافة القهوة بقيت في الخفاء، وبرزت مباشرة تحت حكم أكثر تراخيًا في وقت لاحق من هذا القرن.
ومع ذلك، فبعد رؤية تجذر ثقافة القهوة في المنزل –وعلمهم بفشل حظر المقاهي في القرن السابع عشر في أوروبا– ألغى السلاطين العثمانيون الحظر، ثم فرضوه مجددًا حتى القرن الثامن عشر. قد يبدو هذا أمرًا غير عملي، ولكن تشير مادلين زلفي إلى أن الهدف لم يكن حقًّا القضاء على القهوة أو المقاهي؛ بل كان الهدف هو التضييق على المعارضين والمتآمرين على الحكم.
ومع نهاية القرن الثامن عشر، برزت أماكن اجتماعية أكثر علمانية، كما يوضح هاي. ولم يعد إغلاق المقاهي ذا فائدة، لذا توقف الحظر، على الرغم من أن الحكام كانوا لا يزالون ينشرون جواسيس لهم لمراقبة الأحاديث المناهضة للنظام، وهي ممارسة يمارسها بعض الحكام الأوتوقراطيين حتى يومنا هذا.
ربما كان مراد الرابع رجلًا متوحشًا، لكنه لم يكن رجعيًّا؛ بل أدرك هو وأقرانه القوة التي يمكن أن توفرها سلعة جديدة، مثل القهوة أو التبغ: فشيء بسيط مثل إنشاء مكان جديد للطهي يمكن أن يمحي الأعراف القديمة، ويفتح مساحات جديدة للمشاركة والفكر.
ومع ذلك –يختتم هاي بالقول– انتصرت ثقافة القهوة ضد التيار الديني والسياسي المحافظ، والآن نحن نعيش في عالم ستاربكس.