مصر التي أحبها

عمرو اسماعيل في الجمعة ٠٧ - نوفمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

رغم اغترابي وسفري لدول كثيرة بحثاً عن العلم و التدريب و لقمة العيش ؛ فأنا لا اطيق بعاداً طويلا عن مصر التي أحبها حبي لأمي و لأولادي بدون مبالغة .
ولطالما سألت نفسي ما الذي يعطي لمصر هذه النكهة التي لا تجدها في أي مكان في العالم و التي تجعل أبناءها يعشقونها كل هذه العشق ويجعلهم يضحون برغد العيش في بلاد أكثر جمالاً ؟..

ما الذي يجعل المصري دائم الارتباط بها مهما حمل من جنسيات أخرى فيحتفظ في مدينته أو قريته داخل مصر بمنزل و مدفن و علاقات أسرية وصداقات لا تستطيع المسافات ان تقطع أوصالها ؟

إن النكهة الخاصة بمصر والتي يقدرها المصري وقد لا يحس بطعمها غيره ينبع في رأيي من حقيقتين أساسيتين .. الأولى : هي دفء الشعب المصري و حبه للحياة و السهر و روح التسامح المتأصلة فيه ، و الثانية - وهي حقيقة غريبة وقد يختلف معي فيها الكثيرون- : هي مسحة الفوضى الموجودة بالشارع المصري والتي تعطي إحساساً جميلاً بالحرية لا تجده في أي مكان آخر في العالم !..
فالنظام الزائد عن اللزوم يولد إحساساً بالكآبة الذي يزداد مع الجو الغائم الذي ينتشر في أوروبا و انجلترا بصفة خاصة ، و ستة أشهر في أي مدينة بريطانية كفيلة بأن تصيبني بإكتئاب حاد بسبب النظام الزائد للشعب الإنجليزي وبرودته مثل المناخ تماماً ، ولعل لندن قد تحسنت كثيرا في السنين الأخيرة و تحولت الي مدينة متعددة الجنسيات و حولها القادمون من حوض البحر المتوسط إلى مدينة لا تنام . و هذا هو جمال القاهرة فهي مدينة لا تنام وهي مختلفة في الليل عنها في الصباح وهي في هذا يمكن تشبيهها بالمرأة عندما يرق مزاجها ليلاً .

إن الهواء في مصر مشحون بعبق التاريخ و عرق الشعب المصري الطيب و معاناته خلال قرون طويلة.. ذهب الحكام الظلمة و الغزاة بجميع أشكالهم و أنواعهم وبقي الشعب المصري .. ومن بقي من الأمم الأخرى في مصر أصبح مصرياً قلباً و قالباً ، وهذه عبقرية مصر ؛ قدرتها علي امتصاص الثقافات الأخرى و إضفاء النكهة المصرية عليها..
لقد ذاب البطالسة في مصر و أصبحت كليوباترا مصرية وحدث نفس الشيء مع المماليك و الأتراك و حي الأزبكية كان خير دليل علي ذلك.. حدث ذلك مع أولاد محمد علي ، والملك فاروق خرج من مصر و مات و هو مصرياً وبقت كل عائلته مصريون من هم داخل مصر أو خارجها .

هذه مصر التي أحبها .. مصر القاهرة الفاطمية و الحسين و خان الخليلي ؛ مصر مار جرجس و شبرا ؛ مصر التي يختلط فيها الفرعوني مع العربي ؛ المسلم مع القبطي ؛ الفاطمي مع الأيوبي .. ثم ينصهر الجميع في بوتقة واحدة فينتج المصري الأصيل القادر علي البقاء و الاستمرار..

من خلال بعض الصفات التي يعيبها علينا الآخرين - و أهمها القدرة علي التنكيت علي حكامه و شيوخه و قساوسته - أن المصري يتصف بصفات غريبة لا تفهمها الشعوب الأخري و خاصة الشعوب العربية ولم ألحظها ألا أثناء عملي في هذه الدول .. فالمصري قد ينتقد حكامه و رموزه و ينكت عليهم ولكنه يغضب أن انتقدهم الآخرون .. حدث هذا مع جمال عبد الناصر و السادات .. قد لا يحس بهذه الحقيقة المصريون داخل مصر ولكنه دائماً شعور المصري المغترب أو علي الأقل الغالبية .. و هو نوع من الولاء و الحب اللاشعوري لكل ماهو مصري .. ولعل هذا ما يفسر غضب المصريين عندما يهاجم البعض الحضارة الفرعونية و هذا ما جعلني أرد علي أحدهم بمقال غاضب عنوانه " أنا مصري و فخور بأصلي " .

إن مصر التي أحبها و شعبها العظيم قادران علي البقاء و المقاومة رغم أنف السياسات الخاطئة للحكومة الحالية- أو أي حكومة سابقة أو لاحقة - والشعب المصري سيظل شعباً متسامحاً محباً للحياة رغماً عن مظاهر التعصب الديني الذي يظهر علي السطح من آنِ لآخر .. فأنا لا أستطيع أن أتخيل مصر بدون شيخ الأزهر أو البابا شنودة ، لا أستطيع أن أتخيل مصر بدون الهلال أو الصليب ، لا أستطيع أن أتخيل مصر بدون التنكيت علي الصعايدة رغم حبنا لهم ، والتنكيت علي جمهورية المنوفية رغم سيطرة أبناءها علي المواقع الحساسة

إن مصر التي أحبها هي مصر العربية القبطية الفرعونية ؛ هي مصر الإسكندرية الإغريقية و الرومانية و القاهرة الفاطمية و قلعة صلاح الدين الأيوبي ؛ مصر الأهرامات و سانت كاترين و السد العالي ؛ مصر مار جرجس و السيدة زينب ؛ مصر عمرو موسي و بطرس غالي .

إن المصري قادر علي فعل الكثير - إن هو أراد - كما بنى الأهرامات و السد العالي و كما حطم خط بارليف .. كل ما ينقصه أن يكتشف الطاقات الجبارة الكامنة فيه ، و أن يحافظ علي روح مصر الأصيلة .. روح الحب و التسامح و الأقبال علي الحياة مع قليل من اللؤم الغير ضار و قليل من الفوضي الجميلة و ليست الكاملة و الأهم الحفاظ علي روح الدعابة الجميلة .. أهم ميزات المصري الأصيل . وكم كنت أود أن أنهي كلامي هذا بنكتة ولكن للأسف كل النكت التي أعرفها هي نكت حارة لا تصلح للنشر مثل شعر نجيب سرور ..
هل ينكر أي مصري أننا نحب شعره مثل حبنا لغناء الشيخ أمام ؟



اجمالي القراءات 11017