هيئة الحقيقة والكرامة».. هل ضلت العدالة الانتقالية طريقها في تونس؟

في الجمعة ٠٤ - مايو - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

خلال الجلسة العامة المنعقدة يوم الاثنين 26 مارس (آذار) الماضي، صوت 68 نائبًا في مجلس نواب الشعب التونسي ضد قرار التمديد في مدة عمل هيئة الحقيقة والكرامة بسنة واحدة، رغم انسحاب نواب بعض الكتل وعدم اكتمال النصاب المقرر بـ109 نائب، وشهدت هذه الجلسة نقاشًا حادًا وتوترًا بين أعضاء المجلس دام ساعات وصل إلى حد التشابك بالأيدي والتجريح والتخوين.

وكانت رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين في وقت سابق، قد ذكرت أن مجلس الهيئة تناقش في مسألة التمديد من عدمه وماهية الجهة التي يحق لها اتخاذ القرار، أي الهيئة في ذاتها أو السلطة التشريعية الممثلة في البرلمان، واستقرّ الرأي في الأخير على أنّ هذه الصلاحية تعود إلى مجلس الهيئة الذي يكتفي بإعلام مجلس نواب الشعب مع تقديم تبريرات لهذا القرار.

ويجدر الإشارة إلى أن مجلس هيئة الحقيقة والكرامة، قرر خلال جلساته بتاريخ 15 و26 و27 فبراير (شباط) 2018 التمديد في مدة عمل الهيئة بسنة إضافية، حسب ما يخوّله لها الفصل 18 من القانون الأساسي للعدالة الانتقالية، على أن تنهي الهيئة أعمالها يوم 31 ديسمبر (كانون الأول) 2018 وفق رزنامة محدّدة في الغرض.

وينص الفصل 18 من القانون الأساسي المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها، على أن «مدة عمل الهيئة حددت بأربع سنوات بداية من تاريخ تسمية أعضائها، قابلة للتمديد مرة واحدة لمدة سنة بقرار معلل من الهيئة، يرفع إلى المجلس المكلف بالتشريع قبل ثلاثة أشهر من نهاية مدة عملها».

وتعود دواعي التمديد إلى عدم إتمام كتابة التقرير النهائي المطلوب من الهيئة واستخراج ما توصلت إليه في أعمال التقصي ورد الاعتبار للضحايا حسب ما أعلنت عنه رئيسة الهيئة.

مسار العدالة الانتقالية في تونس

تمثل هيئة الحقيقة والكرامة الهيئة الدستورية المشرفة على مسار العدالة الانتقالية بمختلف مراحلها في تونس، وهي هيئة مستقلة تتمتّع بالشخصية المعنوية والاستقلال الإداري والمالي. وأنشئت بمقتضى قانون عدد 53 لسنة 2013 مؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها.

تتولّى الهيئة، كشف الحقيقة عن مختلف الانتهاكات ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر الضرر ورد الاعتبار للضحايا لتحقيق المصالحة الوطنية. ويغطي عمل الهيئة الفترة الممتدّة من الأول من شهر يوليو (تموز) 1955 إلى حين صدور القانون المنشئ لها. وتقوم الهيئة بمهامها الآتية:

1- كشف الحقيقة ومعرفة طبيعة ما وقع من جرائم وانتهاكات لحقوق الإنسان خلال فترة الاستبداد، مع تحديد المسئول عنها.

2- مساءلة ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم التي ارتكبها البوليس السياسي التونسي في حق المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والسياسية، وفقًا لقواعد العدالة الانتقالية.

3- جبر الضرر والاعتذار لضحايا القمع، وإعادة تأهيلهم، وتخليد ذكراهم. والمقصود هنا بالضحايا ليس فقط المجني عليهم ممن قتلوا وأصيبوا خلال تلك الأحداث، بل إن الأمر يمتد لأسرهم وأهاليهم ممن فقدوا أبناءهم وذويهم.

4- إصلاح المؤسسات لضمان عدم تكرار ما حدث من انتهاكات عن طريق تلك المؤسسات، أو عن طريق القائمين عليها. ومن أهم المؤسسات التي يشملها الإصلاح المؤسسي، خلال المرحلة الانتقالية، الأجهزة الأمنية عبر إعادة تقييمها، ومراجعة أعمال القائمين عليها، والعاملين بها، فضلا عن مراجعة التشريعات واللوائح والقرارات المنظمة لعملها، وتعديلها، وإعادة هيكلة المؤسسة، مع إيلاء أهمية قصوى للتدريب، ورفع وعي العاملين بها بمبادئ حقوق الإنسان.

5- المصالحة الوطنية التي تهدف لتعزيز الوحدة الوطنية وتحقيق العدالة والسلم الاجتماعي وبناء دولة القانون وإعادة ثقة المواطن في مؤسسات الدولة. ولا تعني المصالحة الإفلات من العقاب وعدم محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.

وكانت  الهيئة قد قطعت شوطًا لا بأس به في عملية كشف الحقيقة وجبر الضرر والاعتذار للضحايا، حيث أدارت في البداية جلسات الاستماع السرية التي انطلقت في عام 2015 والتي شملت العديد من ضحايا الاستبداد، الذين بلغ عددهم حتى 15 يونيو (حزيران) 2016 أكثر من 65 ألف ضحية من مختلف التوجهات السياسية والنقابية والحزبية والمنظمات الوطنية لتنطلق في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 الجلسات العلنية عبر وسائل الإعلام السمعية البصرية في بث مباشر بحضور عدد من مسؤولي الدولة ورؤساء الأحزاب والمنظمات الحقوقية الدولية والوطنية.

وكانت هذه فرصة للعديد من الضحايا للحديث عما نالهم خلال فترة ما بعد الاستقلال (أي مرحلة حكم الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة)، وفترة حكم المخلوع زين العابدين بن علي وكذلك زمن حكم بعض حكومات ما بعد الثورة، من انتهاكات جسدية ومعنوية، وما تعرض له ذووهم الذين قتلوا تحت التعذيب أو هجروا من أوطانهم، أو اختفوا قسريًا.

الانتقادات الموجهة لهيئة الحقيقة والكرامة

بدأت الانتقادات الموجهة لهيئة الحقيقة والكرامة بعد الخلافات الداخلية التي انتشرت وذاع صيتها في وسائل الإعلام التونسية، تبعتها مباشرة مجموعة من الاستقالات والإعفاءات لتزيد من حدة الصراع.

وكان منتقدو الهيئة قد اتهموا رئيستها سهام بن سدرين بالفساد المالي وكثرة النفقات من دون أن تتقدم في أشغالها وتنظر في عدد كبير من الملفات المقدمة لها، بالإضافة إلى عدم حياديتها حيث رأوا أنها تتعمد عرض جانب من الحقيقة وتعتم على آخر دون أن توضح وجهة النظر المقابلة وتغليب النزعة الانتقامية على مسار العدالة الانتقالية، من خلال سعي بن سدرين إلى تصفية حساباتها الشخصية عبر الهيئة، وفق وصف هؤلاء.

ومن جهة أخرى، تعرضت هيئة الحقيقة والكرامة للعديد من العراقيل أبرزها محاولة تعطيل نقل الأرشيف من قصر قرطاج الرئاسي إلى مقرها بتونس العاصمة من قبل إحدى نقابات الأمن الرئاسي. ولا تزال الهيئة الحقيقة والكرامة تشتكي من عدم استجابة وزارة الداخلية لمطلب تزويدها بأرشيف البوليس السياسي بالإضافة إلى عدم امتثال المتهمين لدعوات المثول أمام المحاكم.

وأكدت رئيسة الهيئة سهام بن سدرين تبريرًا لقرار التمديد في أشغالها، أن العراقيل المتمثلة أساسًا في امتناع جزء كبير من أجهزة الدولة عن تطبيق ما جاء بالفصول 37 و40 و51 و52 و54 من القانون الأساسي وتتعلق أساسًا بالقضايا المنشورة أمام القطب القضائي المالي والمحكمة العسكرية، أفضت إلى زيادة قدرها ستة أشهر لاستكمال أعمالها.

كما لم تجد الهيئة تفاعلًا إيجابيًا إزاء هذه صعوبات رغم مراسلتها للبرلمان في عديد المناسبات طالبة منه استدعاء هذه الجهات المعرقلة كوزارة الداخلية والدفاع وأملاك الدولة لمساءلتها وحثها على تطبيق أحكام الدستور والقانون الأساسي للعدالة الانتقالية، لكنه لم يستجب.

وفي 13 سبتمبر (أيلول) 2017 تعثرت العدالة الانتقالية أكثر بموافقة مجلس نواب الشعب التصويت بقبول قانون المصالحة الإدارية المقدم من رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، ويشرع هذا القانون الإفلات العام من العقاب للموظفين الحكوميين الضالعين في أعمال فساد واختلاس لم يربحوا منه شخصيًّا. ويُنهي القانون بالتالي أية ملاحقات ومحاكمات جارية بحق هذه المجموعة ويحول دون فتح محاكمات في المستقبل.

وبحسب الكثيرين، فإن العدالة الانتقالية ليست مجرد سرد لمآسي الضحايا وانتهاكات السلطة، وإنما هي وسيلة لرد الحقوق لأصحابها وإنصاف المناضلين الذين ضحوا بالغالي والنفيس من أجل وطنهم وفكرتهم ويأتي دورها أيضًا في المحافظة على الذاكرة الوطنية للشعب التونسي التي تسعى بعض الأطراف السياسية لطمسها، وثم تكون المصالحة العادلة التي لن تؤسس سوى بالمحاسبة وليس بالإفلات من العقاب.

اجمالي القراءات 1787