هذه البلاد التي تشبهك».. مصر عام 48 كما يصوّرها كاتب يهودي في روايته

في الخميس ٠١ - مارس - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

كانت مصر تتأرجح في تلك الفترة بين أن تصبح «بلدًا أوروبيًّا كبيرًا» أو أحد بلدان «العالم الثالث»!

هكذا يصفها الدبلوماسي والكاتب طوبيا ناثان في روايته هذه البلاد التي تشبهك، وهو أيضًا أستاذ فخري في قسم علم النفس بجامعة باريس، ومتخصص في الطب النفسي الإثني الذي يدرس اضطرابات المرضى في إطار محيطهم المجتمعي والثقافي، باعتبار أن الصحة العقلية لا ترتبط بالفرد وحده، وإنما ترتبط بالمجتمع الذي يعيش فيه، وهو يحلل السلوك البشري وانحرافاته آخذًا بعين الاعتبار المعتقدات الفردية والبيئة الثقافية والاجتماعية التي تضغط على الأفراد والجماعات البشرية بأكملها وتؤثر فيهم.

فازت الرواية بجائزة «غونكور»، وهي إحدى أشهر جوائز الآداب المكتوبة باللغة الفرنسية، تمنحها أكاديمية غونكور سنويًّا لأفضل عمل نثري. تناولت الرواية عقودًا محورية في تاريخ مصر، من خلال قصّة حبٍ مستحيل عاشها شابٌ وفتاة، وصوّرت تعدد الثقافات فيها خلال تلك الفترة التي انتهت بطرد اليهود منها، والاستقلال بعد ذلك تحت قيادة جمال عبد الناصر.

فماذا كانت رواية الكاتب اليهودي الذي عاش في مصر في تلك الفترة؟

حبٌّ مستحيل!

تحكي الرواية عن «زُهار» الشابّ اليهودي الذي وُلد لأب ضرير هو «موتّي»، وأم تؤمن بالسحر والخرافات وتعاني من اضطراب نفسي واسمها «أستير». عاشوا في الحي اليهودي وانصهروا في المجتمع المصري، وقد رضع زُهار في صغره من جارتهم المسلمة. تمرّ الأيام ويلتقي زُهار بفتاةٍ ينجذب إليها وتُصبح حبّ حياته؛ الصبيّة مصرية، ليكتشف أنها أخته في الرضاعة، وهكذا يصبح الحبُّ مستحيلًا.

مع زُهار يظهر الشابان اليهوديان نينو وجو، ينشأ الثلاثة معًا ويتَّخذ كل منهم مسارًا مختلفًا، ينضم نينو إلى جماعة الإخوان المسلمين، ويشارك في أعمال «ثورية عنيفة»؛ بينما ينجذب جو للأفكار الصهيونية ويغادر ليستقر في الدولة الناشئة.

خلال تناوله لقصة الفتاة المصرية وزُهار يصوّر ناثان التاريخ المضطرب لمصر في تلك الفترة؛ مصر الملكية والحارات الشعبية، وبينها حارة اليهود وأهلها البسطاء الطيبون، والشحاذون والباعة المتجولون، كما ينشغل ناثان بحكم تخصصه بالفكر السحري والغيبي في الثقافة اليهودية والمسلمة وحتى الوثنية، فقبل مولده تلجأ أم زُهار إلى السحر لكي تعالج تأخُّر حملها.

منهما ولدت، في بلاد الفراعنة، من أم تسكنها الشياطين وأب ضرير. ماذا كان عليّ أن أفعل بينهما وهما اللذان يتحابّان بجنون؟ *من رواية هذه البلاد التي تشبهك

ويُلقي ناثان الضوء على شخصية الملك فاروق بتعقيداتها النفسية التي يراها ناثان كبيرة، ملكٌ لديه الشجاعة في بداية عهده ليحلم بالاستقلال، وتجرفه الأحداث والحرب لتفتنه سلطاته الخاصة ويصبح أسيرًا لملذَّاته، ويؤكد ناثان أن حادث السيارة الذي تعرض له الملك في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1943 كان نقطة تحوُّل في حياته، وأنها كانت بداية ظهور أعراض الإدمان والتعقيدات النفسية في شخصيته.

يتناول الكاتب حكم الملك فاورق في صعوده وانحداره، وثورة الضباط الأحرار، ووصول عبد الناصر إلى سدة الحكم، وجوّ الألفة الذي كان جمع بين اليهود والمسلمين في الأحياء والحارات، في الفترة بين عامي 1925 و1952 التي يرى أنها كانت جوهرية في تشكيل تاريخ مصر ومستقبلها، وهو الذي وُلد عام 1948 يحكي كيف أنَّه يحتفظ من فترة طفولته بصورةٍ لها حين كانت النساء يشبهن بطلات السينما الأمريكية في الخمسينات، والسينما تقريبًا مخصَّصة لقصص الحب فقط، هذا كله في بلد إقطاعي يُسخّر فيه قطاع كبير من الفلاحين في نظام اقتصادي رجعي.

مصر على أعتاب طريقين

يقول طوبيا ناثان إنه شهد جزءًا من الحكاية في مصر قبل أن يغادرها وهو في العاشرة من عمره، واستكمل بعضها من نسج خياله ليروي عن تلك الفترة التي تأرجحت فيها مصر بين أن تصبح إحدى دول العالم الثالث وبين أن تصير بلدًا أورويبًا كبيرًا، وكيف امتدت هذه الفترة لـ30 عامًا تقريبًا، متأمّلًا الأسباب التي تقود بلدًا ما في أحد هذين الطريقين.

إذا كنت قد هجرت مصر فهي لم تهجر روحي البتة. *طوبيا ناثان

يفرض السياق السياسي نفسه إذن على الأحداث والشخصيات، إذ كانت مصر على موعد مع وصول الملك فاروق إلى الحكم، ويتناول ناثان كيف شغل الملك الشاب -الذي لم يتجاوز عمره السادسة عشرة عند وفاة والده الملك فؤاد الأول- في البداية مصير بلاده في ظل الاحتلال البريطاني، ولتتعاقب الأحداث لاحقًا فتقوم الحرب العالمية الثانية، وتتحول مصر إلى قاعدة عسكرية لدول الحلفاء، بما يعقبه ذلك من تغييرات اجتماعية واقتصادية أعادت تشكيل الفئات الاجتماعية، ولتظهر بعد ذلك من بورسعيد جماعة الإخوان المسلمين «متأثرة بالشيوعية» ليشارك الإسلاميون أيضًا في النضال من أجل الوصول إلى السلطة.

التنوُّع الثقافي والديني

ويرى ناثان أن المجتمع الذي كان متعدد الأعراق والأديان تحوّل تدريجيًّا بسبب الطوارئ التي فرضتها الحرب إلى «التطهير العرقي» ليصبح إسلاميًّا تقريبًا، يخشى الغرباء، حتى أن الطائفة اليهودية التي كان عدد أفرادها حوالي 100 ألف لم يتبق منها الآن إلا تسعة أفراد، وفقد المجتمع هذا التنوع الذي ميّزه في الفترة الماضية.

في سؤالٍ له عما إذا كان يرى أن عودة المصريين إلى التراث الديني هي التي حالت دون الاستقلال، حين فضّلوا ذلك الطريق عن الرغبة في الحداثة، يقول ناثان إن بلدانًا عدة شهدت تحولًا ديمقراطيًّا مزج بين الحداثة وبين ماضيها مثل اليابان والهند وغانا، لكنه أشار إلى أن مصر كيان إقليمي قائم منذ 4 آلاف عام، ولم يحصل على الاستقلال الحقيقي منذ حوالي ألفي عام، منذ غزو الإسكندر الأكبر، وهو الأمر الذي يجب أخذه في الاعتبار عند الحديث عن تلك الفترة، وهو ما حرص ناثان على أن يوضحه في سرده للرواية.

يحتفظ ناثان بالكثير من الذكريات عن مصر التي تركها في عامه العاشر متجهًا نحو إيطاليا، ثم نحو فرنسا التي استقر بها، يتذكر بعض العادات وأنواع الطعام، ولا يزال يتحدث العربية بشكل جيد، ويقول على لسان بطل روايته زُهار متحدثًا عن بقاء القاهرة في قلبه بعدما غادرها: في أحيان يخيل إليّ أن ظلي هو الذي غادر القاهرة، بينما بقيت أنا هناك، وحيدًا، تائهًا كما في شبابي. *من رواية هذه البلاد التي تشبهك

موقفٌ ملتبس من إسرائيل

الهجرة صدمات متكررة، المرة الأولى لا تكون الأصعب بل الثانية والثالثة.

عمل ناثان مستشارًا ثقافيًّا للسفارة الفرنسية في تل أبيب، وبقي موقفه من إسرائيل ملتبسًا يقترب من موقف «الدبلوماسي»، فلم يدن يومًا مواقفها، كتب في روايته عن حاييم أرلوسوروف أبي اليسار الإسرائيلي الذي دعا إلى موطن للشعبين «الفلسطيني واليهودي» بعنوان «من قتل أرلوسوروف؟» إن تأسيس تل أبيب كان عقد تفاوض حر غير أنه لم يخل من جريمة قتل؛ إذ تأسست المدينة بعد صراعات سياسية قوية على «مقابر الأعداء» على حدّ تعبيره، وللكاتب مواقفه المناضلة، وهو يعمل منذ عام 1990 في مساعدة أسر اللاجئين، وأسّس عيادة للتحليل النفسي لأبناء المهاجرين الذين يصابون بصدمة تغيّر اللغة والعادات، وهو الأمر الذي واجهه بنفسه عند انتقاله إلى فرنسا.

وكما تقول صحيفة «لوموند» الفرنسية: «مصر كما يقدمها طوبيا ناثان هي مصر الملوك والجنود البريطانيون، المصريون والأجانب وعديمو الجنسية، العرب واليهود والأقباط، الخبز والكعك، الأهرامات والقصور، السحر والمآسي». لم يعد طوبيا ناثان إلى مصر أبدًا، فهو يعرف أنه سيرى واقعًا مختلفًا تمامًا ريما سيفسد عليه ذكرياته، ولأن جواز سفره أيضًا خُتم بعلامة «مغادرة دون عودة»، ومهما كانت أفكاره فقد ساقه الحنين ليقدم في روايته صورة رائعة عن مصر التي يحبها كما تحفظها ذاكرته.

اجمالي القراءات 6338