يعاني القطاع الصحي المصري من العديد من الأزمات التي تراكمت وتضخمت على مدار عقود من الزمن، وكان – ولا يزال – الجانب الاقتصادي جانبًا أساسيًا لمعظم هذه التحديات. تخصص مصر فقط 5.6 % من الموازنة للإنفاق الصحي (2014)، في حين أن النسبة المعتمدة عالميًا 15%، وتشكل نسبة 5.6% هذه، بجانب ما تتكفل به الجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني، 40% فقط من الإنفاق الصحي العام، في حين ينفق المواطنون مباشرًة، من أموالهم الخاصة، 60% من إجمالي الإنفاق على الصحة، وتعتبر هذه النسبة، مع معظم دول شرق المتوسط، من أعلى النسب العالمية.
وقد تعقدت الأمور أكثر بعد قرار تعويم العملة؛ حيث أصبح ما لا يقل عن 30 مليون مواطن تحت خط الفقر – وفقًا لأكثر الإحصاءات تفاؤلًا – ليست لديهم الرفاهية للتنازل عن «حقهم» الذي نص عليه الدستور في رعاية صحية شاملة.
وعلى الرغم من الإقرار بمحورية العامل الاقتصادي في أي حل ناجع لأزمات القطاع الصحي، إلا أننا نركز في هذا التقرير على بعض الاقتراحات القادرة على تحسين جودة الخدمة الصحية، وفي نفس الوقت لا تتجاوز تكلفتها إمكانات الدولة حاليًا، وبعضها ليست له تكلفة على الإطلاق، وذلك مع الأخذ في الاعتبار الخطة التي تنتهجها الحكومة في تطوير القطاع الصحي، من تطوير التعليم الطبي، أو قانون التأمين الصحي الجديد.
1- أسطورة «البلد كلها دكاترة».. نقص عدد الأطباء في مصر
تقول الأسطورة «البلد كلها دكاترة». وهذه الأسطورة لا يرددها المواطنون فقط، وإنما تتبناها السلطة عند الحاجة، أي عند رغبتها في تجاهل مطالبات الأطباء بحقوقهم، ولكن تخبرنا الأرقام أن مصر من أقل بلاد العالم من حيث معدل الأطباء بالنسبة لعدد السكان؛ حيث يوجد بمصر 0.814 طبيب لكل 1000 مواطن، أي طبيب لكل 1234 مواطنًا تقريبًا، وهي نسبة منخفضة جدًا، إذا ما قورنت بالمتوسط العالمي، وتبلغ تقريبًا عُشْر نسبة الأطباء بكوبا (7.52 طبيب لكل 1000 مواطن).
ويرجع هذا العجز في عدد الأطباء لأسباب كثيرة، من أهمها: الهجرة، وانخفاض عدد الطلبة المقبولين سنويًا بكليات الطب مقارنة بعدد السكان، وكذلك تهرب الأطباء من العمل في القطاع العام؛ نتيجة لظروفه غير الملائمة. وقد برز العجز في عدد الأطباء كأحد أكبر المعوقات لقانون التأمين الصحي الجديد. فوفقًا للطبيبة سحر حلمي، مدير عام الإدارة العامة للتكليف، فإن الوزارة في حاجة إلى ١٦ألف طبيب لتشغيل ٥٥٠٠ وحدة رعاية صحية موزعة على محافظات الجمهورية، تكون هي عماد النظام الصحي الجديد، حيث تقدم من 80 – 85% من الخدمات الصحية للمواطن، لافتة إلى وجود عجز كبير في الأطباء المكلفين، حيث جرى تكليف ٩٠٢٢ طبيبُا عام ٢٠١٥، تبقى منهم ١١٥٠ طبيبًا العام الحالي.
وكمحاولة لسد العجز في أعداد الأطباء، يمكن للدولة المصرية أن تتبع تلك الخطوات التي لن تكلفها الكثير.
1 – إعفاء نسبة من الأطباء من التجنيد الإجباري، خلال سنوات التشغيل الأولى، على الأقل للنظام الجديد. أو تقليل سنوات الخدمة، وقصْرها على سنة واحدة فقط؛ مما سيمكن عدة آلاف من الأطباء من الالتحاق بقوة العمل.
2 – التعاقد مع خريجي الطب السوريين، حيث يوجد بمصر عدة مئات من طلبة الطب السوريين، الممنوعين من مزاولة المهنة بمصر؛ بموجب قانون «المعاملة بالمثل» الصادر أثناء الوحدة المصرية السورية، والذي يحظر بموجبه على الأطباء المصريين العمل بسوريا، وكذلك يحظر على الأطباء السوريين العمل بمصر.
ونظرًا للأوضاع الحالية التي تمر بها سوريا، يرغب أغلب الخريجين في التمكن من مزاولة المهنة بمصر، ولكن يعوقهم هذا القانون – الذي انتفى مبرر وجوده من الأساس – وكذلك ارتفاع تكاليف تجديد الإقامة السنوية، و نظرًا لاحتياج الدولة لعدد كبير من الأطباء لتغطية وحدات الرعاية الصحية في النظام الجديد، ألا يمكن اعتبار ذلك دافعًا لتجاوز هذا القانون والسماح للسوريين بمزاولة المهنة.
3 – زيادة عدد الطلبة المقبولين بكليات الطب بالجمهورية.
2- السجل الصحي الإلكتروني
على الرغم من أن ارتفاع نسبة الخطأ في التشخيص، يرجع بشكل أساسي لضعف خبرة الطبيب الشاب، إلا أنه في بعض الحالات يرجع السبب إلى إغفال المريض ذكر بعض التفاصيل التي يظنها غير ذات صلة بحالته التي يعاني منها حاليًا؛ مما يتسبب في تشخيص خاطئ أو وصف علاج غير مناسب ربما يتسبب في مضاعفات خطيرة، ولذلك جاء التفكير في «السجل الصحي الإلكتروني»، والمقصود به قاعدة بيانات قومية، يسجل بها كافة التفاصيل الصحية للمواطن من ميلاده إلى اللحظة الحالية، بدءًا بالتطعيمات التي تلقاها في مرحلة الطفولة، وكل الأمراض التي عانى منها، والأدوية التي تعاطاها، ولأية فترة؛ مما يوفر سجلًا صحيًا كاملًا يتيح أقصى دقة ممكنة للتشخيص، وتكون إمكانية التعديل في السجل متاحة للطبيب المعالج.
اقتراح كهذا رغم الفارق الضخم الذي يُتَوقع أن يُحدثه، إلا أن تكلفته لن تتجاوز عدة ملايين من الجنيهات، تكلفة الأجهزة وإنشاء البرامج والتطبيقات اللازمة.
3- دروس من الخليج العربي.. التعليم الطبي المستمر (CME)
ناقشنا في تقرير آخر في هذا الملف بعنوان «دروس من كوبا.. ما لا يحكى عادًة عن مشاكل التعليم الصحي في مصر» بالتفصيل، أزمة التعليم الطبي، والنظام الجديد المزمع تطبيقه بدءًا من العام القادم، وسنركز هنا على ما يعرف عالميًا بـ«التعليم الطبي المستمر» كوسيلة لرفع جودة الخدمة الصحية.
مشهور على المستوى الأكاديمي عالميًا أن الطب يتغير راديكاليًا كل 10 سنوات، وعلى الرغم مما يعتري هذه المقولة في نظر البعض من مبالغة، إلا أنها لا تخلو من الصحة. ويعتبر التعليم الطبي المستمر، أحد أهم الوسائل التي تتبعها الدول لضمان التزام الأطباء بمتابعة الجديد في مجالات تخصصهم. ولضمان التزام الأطباء بذلك يمكن تنفيذ اقتراح بتجَديد ترخيص مزاولة المهنة كل خمس سنوات باجتياز امتحان تشرف عليه هيئة التدريب الإلزامي للأطباء.
قرار كهذا كفيل بإلزام الطبيب بمتابعة كل جديد في تخصصه؛ مما سينعكس بالضرورة على مستوى الخدمة الصحية. جدير بالذكر أن بعض الدول العربية، مثل قطر والسعودية والإمارات، تطبق بالفعل نظام التعليم الطبي المستمر.
4- صحة المواطن vs صحة الجنرال.. توحيد الخدمة الصحية
بدأ التدهور الحاد في قطاع الصحة، مع تدهور باقي قطاعات الخدمة العامة، بالتزامن مع سياسات الانفتاح الاقتصادي في مصر وارتفاع الدين؛ مما أدى بالحكومة إلى تخفيض الإنفاق العام، والبدء في الخصخصة كسياسة عامة، ومن العوامل التي ساعدت على ذلك استقلال الجهات السيادية – الجيش والشرطة والمخابرات تحديدًا – بنظامها الصحي تمامًا عن بقية الشعب؛ مما أدى إلى ازدياد إهمال القطاع الصحي بمرور الوقت، وعدم التعامل معه كمسألة أمن قومي، على الرغم من العلاقة الوثيقة بين التنمية وصحة المواطن.
ولذلك فإن إلغاء تبعيّة مستشفيات الجيش والشرطة والمخابرات والسكة الحديد… إلخ، لهذه الهيئات والمؤسسات، وجعلها تابعة لوزارة الصحة ماليًا وإداريًا، بحيث ينطبق عليها ما ينطبق على جميع مستشفيات الصحة، ويعالج المدني فيها بجانب العسكري، فإن ذلك سيعمل على توحيد مصير الفئات السيادية مع عموم الشعب، وهو ما يعتبر مفتاحًا سحريًا لإجبار صانع القرار على إدراك أن صحة المواطن مسألة أمن قومي، مثلها تمامًا مثل صحة الجنرال.