لدى عودتى الى المنزل ذلك اليوم كنت أحس برضا عام عن نفسى, فها أنا بعد عدة أيام فقط, استطيع ان اتجول فى المنطقة بنفسى, أستطيع ان أتحاور مع الأخرين مثل مكتب التوظيف, استطيع ان اقرر بنفسى كما قررت ان أوقع على الإتفاق مع مكتب التوظيف, أستطيع ان أعرف طريقى الى فى البلدة التى أعيش فيها وكذلك فى بلد كبير مجاور مثل ( Newark) , أعرف اين طرق المواصلات وأستطيع أن أسأل حتى ولو كانت النتيجة ان اضل الطريق مرة فمن أخطائنا نتعلم, وهكذا, بإختصار كنت فى حالة نفسية طيبة تختلف كثيرا عن حالتى عندما حاولe;ت شراء علبة سجائر منذ ثلاثة أيام فقط. توقعت ان يشاركنى صديقى هذا الشعور عندما عاد من عمله وأن يكون راضيا عما فعلت وأن يشجعنى ان أستمر, غير انه لدى عودته, وما ان اخبرته بتفاصيل احداث اليوم, لم أرى على وجهه ما كنت اتوقعه وأرجوه من علامات الرضا, بل مط شفتيه وهز رأسه يمينا ويسارا وبدا انه يحاول ان يختار الكلمات المناسبة, الكلمات التى تعبر عن عدم اتفاقه معى وفى نفس الوقت لا تجرح شعورى, ثم قال , اعتقد انك قد تسرعت فى توقيع الإتفاق مع مكتب التوظيف, ثم قال, لا أدرى لماذا انت متعجل ان تجد وظيفة, لقد شرحت لك كما شرح لك الأخوة الأصدقاء ان الحصول على عمل قد يستغرق أسابيعا وربما شهورا لكى تحصل على العمل المناسب, وخلال ذلك يجب ان تتعود على المجتمع وعلى اللغة وعلى العادات وعلى ...وعلى....وسرد على الكثير من الاسباب التى من أجلها كان ينبغى ان لا أتسرع فى محاولة الحصول على عمل. أذكر انه من بين ماقال هل انت متأكد ان موظف مكتب التوظيف قد فهم كل كلمة قلتها, وانت أيضا هل فهمت كل ما قاله والشروط التى وقعت عليها فى الإتفاق, هل شرح لك الشروط الجزائية فى الإخلال بذلك الإتفاق. وقلت اعتقد انه فهم ما قلته واننى فهمت ما قاله, كذلك لدى صورة من الإتفاق الذى وقعت عليه, ويمكنك انت تطلع عليه. فتناول صورة الإتفاق ومرعليها بسرعة ثم قال انه إتفاق ( Standard) يشبة الغالبية العظمى من الإتفاقات المماثلة, ووضعه على المائدة, ثم ذهب الى غرفته.
فى الحقيقة لم أكن قد قرأت ذلك الإتفاق عند توقيعى عليه , وبدأت أقرأه, ولم أفهم الكثير مما هو مكتوب فيه, فقد إستخدم عباراتا وكلماتا قانونية لم اكن قد سمعتها من قبل, ولكن هدأ من روعى ما قاله صديقى انه إتفاق مشابة للغالبية العظمى من الإتفاقات المماثلة. اى ليس به شيئ مختلف بصفة خاصة, وبالتالى سواء فهمته ام لم أفهمه, فلم يكن امامى خيارا فى توقيعه. بعد فترة بسيطة جلسنا نشاهد أخبار الساعة السادسة والنصف مساء وهى الأخبار الرئيسية فى ذلك الوقت, ولم يكن هناك بالطبع ( CNN ) بل كانت قنوات التليفزيون محدودة جدا, فكان هناك أربعة شبكات تلفزيونية, وهم (CBS ,ABC , NBC , PBS ) وهى شبكات تليفزيونيه تنتشر فى أنحاء الولايات المتحده ولها برامج على مستوى الولايات المتحدة كما ان بها برامج محلية, بمعنى ان هناك فى أوقات محددة تذاع برامج يراها على نفس الشبكه كل مشاهدى الولايات المتحدة, ثم فى اوقات أخرى تذيع نفس القناه برامج محلية خاصة بالولاية او المقاطعة التى بها شبكة الإرسال, وكانت نشرة اخبار السادسة والنصف هى من البرامج العامة على مستوى جميع الولايات. وسألنى بعد أحد الأخبار وأثناء إذاعة بعض الإعلانات ان كنت قد فهمت ما جاء فى ذلك الخبر, وأفدته بأننى قد فهمت معظم ما قاله مقدم الخبر, فقال ان ذلك لا يكفى, "معظم ما قال" لا يكفى, يجب ان تفهم كل ما قال, وكأنك تسمع نشرة الأخبار بالعربية, قلت ان هناك الكثير من الكلمات التى ينطقها بسرعة فلا أفهم معناها ربما لسرعة النطق او لجهلى بالكلمة او التعبير, فقال جهلك بالتعبير مفهوم وسوف تتغلب علية بالوقت, ولكن مسألة سرعة النطق هى ما يجب ان تتغلب عليه بمعنى أصح يجب ان تعود أذنك على سرعة النطق فلسنا فى مدرسة بحيث سوف يتوقف المعلم عن الدرس لشرح كلمة ما, يجب ان تعود أذنك على ذلك, وكما قلت من قبل كنت قد بدأت تلك العملية من اليوم الأول فى مشاهدة التليفزيون ليس من أجل المشاهدة ولكن من أجل مقارنة نطق الكلمات التى أعرفها, لكى احاول ان أصلح من طريقة نطقى لها, وهى علمية ليس بالسهولة التى يمكن ان تتخيلها. سألته عن بعض الكلمات التى جاءت فى العقد, فأجاب عن بعضها وحاول ان ( يتظاهر) بمعرفته بعدد أخر من الكلمات ولكنى لأنى أعرفه تماما , فهمت انه فى الواقع لا يعرف معناها تماما, وداعبته بذلك, فقال ان هناك كلمات قانونية كثيرة لا يتعرض لها الشخص العادى وهى لا يعرفها سوى العاملون فى الشؤون القانونية, ومن ثم حاول ان (تستخلص) معناها من سياق الجملة. المهم ان ذلك الحوار بالذات جرنا الى نوع من المواجهة فأقترح ان لا نتحدث مع بعضنا خلال اليومين القادمين إلا بالإنجليزية, ومن ينطق كلمة عربية يدفع ربع دولار, ووضع كوبا كبيرا فى المطبخ لكى يكون مستودعا لتلك النقود, فقلت انك تريد ان تستنزف منى ما معى من نقود فأنت لا جدال تستطيع ان تتحدث ما شاء لك دون إستخدام اللغة العربية , فقال ان ذلك التحدى سوف يكون له نتيجة إيجابية لى من جهة اللغة, وإن ربما يكون له نتيجة سلبية من ناحية النقود, كل كلمة عربية بربع دولار, فقلت سيكون لدى الكثير من الأسئلة فلماذا لا نجعلها بدلا من كل كلمة , كل جملة , فوافق ووافقت.
مرت الليلة فى مداعبات متبادلة بيننا وهو يحاول ان يجرنى ان أقول شيئا بالعربية , وأنا مصمم ان يكون اول ربع دولار منه, وتعلمت ان لا أرد بل كنت دائما متيقظا لكل كلمة أقولها وكان بالطبع يصحح لى بعض او الكثير مما اقوله بالإنجليزية, وأحيانا حتى عندما اقولها بطريقة صحيحة يعطينى إقتراحا منه بطريقى أفضل او كلمات أفضل, عندما ذهبنا لننام, قال بدون ان يدرك , تصبح على خير, فكان ذلك هو اول ربع دولار فى الكوب. سألته هل يجب ان لا أتحرك من البيت حتى لا تضيع مكالمة مكتب التوظيف إن حاول الإتصال, فضحك وقال, من المؤكد انهم لن يتصلوا بك قبل أسبوعين اوشهرا على الأقل من الأن, وعادة ما تكون الوظائف المقترحه الأولى غير ذات قيمة.
مرا اليومين التاليين بدون شيئ يستحق الذكر, مجرد إنتظار مكالمة من مكتب التوظيف, مشاهدة التليفزيون ومحاولة متابعة الحوار ومقارنة نطق الكلمات بالطريقة الصحيحة, قراءة بعض الكتب والمجلات, وبالطبع كتابة بعض الخطابات الى الأسرة والأصدقاء فى مصر .....الخ, ثم كان يوم السبت, اليوم الأول فى العطلة الأسبوعية بعد مرور أسبوع كامل على وصولى الى الولايات المتحدة.
دق جرس التليفون فى الصباح المتأخر وتحدث صديقى مع من كان هناك على الطرف الأخر, وبعدها أفادنى أن بعض الأصدقاء سوف يحضرون لكى يرجبوا بى , وهم من كانوا فى إستقبالى فى المطار ومعهم اثنين اخرين لم ألتقى بهم من قبل, وفى عصر ذلك اليوم, كان هناك خمسة منهم, اثنين لم أقابلهم من قبل, وبعد ان تعارفنا وجلسنا جميعا, وبعد المقدمات الروتينيه والأحاديث المتوقعه تماما والأسئلة التى أجبت عليها من قبل, تفرع الحوار او لنقل الحوارت الى أشياء أخرى لا علاقة لى شخصيا بها, ولا علاقة لحضورى الى أمريكا بها, وجلست متمتعا بدور المستمع الوحيد, استمع الى المناقشات والى الأراء وأحاول ان أقيم الشخصيات من خلال أفكارهم وطريقة عرضها, ومن خلال التعبيرات او ما يقال بين السطور. كان حوارهم وكأنه على أحدى مقاهى الإسكندرية , بالعربية التى يتخللها بين حين وأخر بعض الكلمات الإنجليزية, وكأن كل منهم يخشى ان يتحدث بالإنجليزية حتى لا يتهمه أحد بأنه ( يستعظم او يتظاهر او كما يقال يتفذلك ) على الأخرين, وتناسى الجميع انهم يتعاملون مع المجتمع فى البقية الباقية من أوقاتهم بلغة هذا المجتمع, أو ربما كانوا فى شوق شديد الى التحدث بالعربية والله أعلم. لاحظت أيضا أن بعضهم - رغم ان احدث من جاء الى الولايات المتحدة فيهم كان له فيها سنتين على اقل تقدير- ينطق بعض ما قاله من الكلمات الإنجليزيه بطريقة خاطئة وبلكنة واضحة وكأنه لم يتعلم شيئا طوال الأعوام التى قضاها فى أمريكا, وكان ذلك الشخص اكثرهم كلاما وأعلاهم صوتا, وله رأى فى كل شيئ بل فى معظم الأحيان كان له رأيا مخالفا للجميع. لا زلت أذكر انه ( ليس فى ذلك اليوم ولكن فيما بعد فى لقاء أخر ) بينما كان هناك إعلانا تليفزيونيا عن الكوكاكولا, وكان الإعلان عبارة عن أغنية تقول فيما تقول ( It’s the real thing…….) ولأنها كانت تقال باللكنه والسرعه الأمريكية, فكان صاحبنا يقول ( شوف ولاد الكلب بيغنوا على إسرائيل ) , ولما سألته ماذا تعنى , قال بيقولوا إسرائيل , فلم يستطيع ان يفهم كلمة ( It’s the real) فظن انها اسرائيل......, وبالطبع لم يكن هناك داعى للإحراج فقلت له ( طبعا ولاد ستين كلب ) . المهم اننى لاحظت ان التجمعات العربية تتحدث فى لقاءاتها بالعربية, ونادرا ما لا حظت انهم يتطرقون الى المجتمع الأمريكى او الى احداث المجتمع الأمريكى , لم ألاحظ على اى منهم انه يتحدث عن أصدقاء من الأمريكيين, فكل القصص والحوادث تدور عن اخوة اخرين او أصدقاء عرب, احد من التقيت بهم فى ذلك اليوم قدموه الى أنه دكتور, فسألته عن تخصصه فقال انه دكتور أسنان, ولم أكن اعرف فى ذلك اليوم انه لكى يمارس طب الأسنان يجب عليه ان يتجاوز عددا من الإختبارات لمعادلة درجته من جامعة الإسكندريه بالدرجات العلمية من الجامعات الإمريكية , علاوة على الحصول على رخصة للعمل فى هذه الولاية , فكل ولايه لها رخصتها التى يجب الحصول عليها حتى ولو كان من خريجى الجامعات الأمريكية, وفهمت منه أنه يدرس طوال العامين الأخيرين لدخول ذلك الإمتحان, وأنه يعمل بحكم ما لدية من الخبرة فى أحد معامل الأسنان التى تقوم بإنتاج اطقم الإسنان الصناعية وخلافه.
لاحظت مما دار فى ذلك اليوم من حديث ونقاش, وأيضا مما رأيته وسمعته فيما بعد, بأن هناك منافسة مقنعة(بفتح القاف وتشديد وفتح النون) فى معظم الأحيان وظاهرة مباشرة فى بعض اخر من الأحيان بين هؤلاء ( الأصدقاء) بل هناك نوعا من الغيرة او الحسد , فيما كانوا يقولونه عن بعضهم البعض فى غياب الأخرين, سواء عن العمل او السكن او السيارة او حتى العائلة........ولم يعجبنى مطلقا ما لاحظته.
يقال ان الإنسان يبنى سورا لسببين, أحدهما ليمنع من فى الخارج من الدخول لكى يحافظ على ما لديه, أو ليمنع من فى داخل السور من الخروج الى الخارج أيضا لكى يحافظ على ما لديه, وشتان بين المثالين وإن بدت الأسباب متشابهه, ومما رأيت ان العرب ومنهم بالطبع المصريين بصفة عامة يبنون أسوارا حولهم, فى ظنهم انهم يحافظون بها على تقاليدهم وعلى أسرهم من الفساد الذى يسود المجتمع الأمريكى, فلا يتفاعلوا مع المجتمع الذى يعيشون فيه إلا بأقل ما يمكن, ولا يهتموا بأحداث المجتمع والبلاد إلا فيما يتعلق بهم شخصيا, وليس لأغلبيتهم آية صداقات حقيقية مع أهل البلد, ونادرا ما تجد بينهم من يتزاور مع الأمريكيين, أقول نادرا لأنى أعرف ان هناك نسبة صغيرة جدا منهم ممن يتأقلم وممن يتفاعل وممن يتزاور ويثق بهم ويفتح ابواب بيته لهم.......الخ, والأمريكان فى الحقيقة لا يهمهم ان يتسلقوا تلك الأسوار إذ ليس هناك من خلفها ما يرونه مستحقا المجهود او المغامرة فى تسلق او تحطيم تلك الأسوار. غير ان الأحداث التى تأخذ طابعها خارج تلك الأسوار عادة ما تكون أكبر وأقوى تأثرا على هؤلاء الذين يعيشون خلفها ويعتقدون انهم بمأمن من شرور ذلك المجتمع, والنتيجة تكون دائما ان تتحطم تلك الأسوار تدريجيا,ليس من قبل من هم خارجها, ولكن بواسطة من هم بالداخل, والذين يرون انهم سجناء خلف تلك الأسوار, ولا يرون الأسوار كرمز لحمايتهم بل كرمز لتقييد حريتهم. رأيت ذلك خلال معيشتى ورأيت الأطفال الذين ولدوا فى أمريكا خلف تلك الأسوار, وهم يعانون من تصرفات عائلاتهم فى منعهم دون أبداء الأسباب من مشاركة زملائهم الذين يقضون معهم اوقاتا طويلة فى المدرسة, ويقيمون معهم صداقات بحكم السن والقرب ومشاركة الهوايات.....الخ, ثم يسمعون من عائلاتهم أراء عنهم لا يجدونها صادقة, وينتهى الأمر بتمرد مضاعف, لأن فترة المراهقة بطبيعتها هى فترة التمرد فى كل أنحاء العالم, ولكن التمرد تحت تلك الظروف مقترنه بتلك الأسوار يصبح مضاعفا وعادة ما تكون النتائج لذلك التمرد سلبية للغاية.
فى اليوم التالى الأحد, تصفحت جريدة الأسبوع بحثا عن الوظائف المنشورة فى صفحتها, وعثرت على أكثر من إعلان عن وظائف اعتقدت انها تناسب خلفيتى , وكانت إحداها فى معمل تحاليل طبية فى مستشفى فى بلدة أخرى من البلاد المجاورة, وناقشتها مع صديقى الذى كان لا يزال مندهشا لإصرارى على العمل ولم ينقضى على حضورى سوى أسبوع واحد, فقال لكى ينهى المناقشة, حسنا إتصل بهم تلفونيا غدا الإثنين. وفى صباح اليوم التالى, بدأت أراجع مع نفسى ماذا سأقول وكيف سأستفسر عن الوظيفة, بل كتبت على ورقة صيغة الأسئلة وبعض الكلمات التى ربما لن تأتى على لسانى بسرعة, لأن الحوار وجها لوجه يختلف عنه على التليفون حيث ان حوار التليفون فى مثل هذه الحالة أصعب بكثير. رفعت سماعة التليفون وطلبت الرقم وكان مباشرا الى معمل المستشفى, وقلت لمن رد على التليفون اننى مهتم بالوظيفة المنشورة فى جريدة " ستار ليدجر", فقالت لى ان انتظر قليلا, وبعد عدة ثوانى تحدث معى رجل فهمت منه انه مدير المعمل, وسألنى بعض الأسئلة وكان يتحدث ببطء ملحوظ, فيبدو ان السيدة التى ردت على التليفون لاحظت من لهجتى اننى لست أمريكيا وربما نبهته الى ذلك, وأجبت على اسئلتة بقدر استطاعتى ومن الطبيعى اننى تعثرت عدة مرات فى بعض الكلمات, ولكنه لم يبدو من صوته انه كان فاقدا للصبر او متعجلا لإنهاء المكالمة, بل كان يعطينى الفرصة تلو الفرصة لشرح ما لم أستطيع أن أشرحه, المهم أستغرقت المكالمة حوالى خمس دقائق او أقل, وإن احسست انها كانت أطول من ذلك مرات, فهم اننى قد جئت الى الولايات المتحدة منذ أسبوع واحد, وطلب منى ان احضر ما لدى من اوراق وأن أقابلة فى اليوم التالى, وسألنى إن كنت امتلك سيارة بعد أو ان هناك من سوف يوصلنى الى المستشفى, فكانت الإجابة بالنفى من حانبى, سألنى عن عنوانى, ثم قال لى ان هناك أتوبيس سوف يوصلنى الى المستشفى من نووارك, بمعنى اننى يجب ان أذهب الى نووارك أولا, ومنها استقل ذلك الاتوبيس الى " راواى " وهى البلدة التى بها المستشفى, بل انه اعطانى موعدا متأخرا قليلا وليس فى الصباح المبكر, ربما لكى يعطينى الفرصة فى تدبير أمرى من ناحية المواصلات.
حدث ذلك فى صباح ذلك اليوم, حوالى العاشرة صباحا تقريبا, وبدأت اعد الأوراق المطلوبه وما الى ذلك, ثم كنت بالطبع انتظر صديقى لدى عودته ذلك المساء لكى اخبره عن ذلك, وحوالى الساعة الثالثة تقريبا, دق جرس التليفون, وكان هناك على الخط موظف مكتب التوظيف الذى قابلته منذ بضعة أيام, فقال لى انه قد وجد وظيفة لى وانه قد حدد لى موعدا للمقابلة, فى اليوم التالى اى الثلاثاء مع مدير المعمل, وطلب منى ان احضر ورقة وقلم لكى يعطينى المعلومات, وفكرت هل أخبره انى لدى مقابلة فى اليوم التالى, ام انتظر لأرى ماذا لديه, وقررت ان انتظر ثم أقول له ما لدى وربما اطلب منه تأجيل المقابلة, وبدأ فى إعطائى المعلومات, ان المقابلة قد حدد لها موعدا فى الساعة الثالثة من بعد ظهر اليوم التالى, وأنها مع السيد او( المستر) مارشال, وأنها فى مستشفى مدينة راواى. ولم ادرى ماذا أقول له, فبدأت بقولى اننى قد أتصلت فعلا بتلك المستشفى وأن لدى موعدا, وقبل ان أكمل ما قلته, قال لى ما معناه ان وظيفته ان يجد عملا لى, وأننى قد وقعت على ذلك الإتفاق, وهذه هى الوظيفة التى وجدها, واننى يجب ان التزم بما وقعت عليه, ومن الطبيعى اننى لم أستطيع ان اجادل فيما قاله, فقال أيضا, اننى لو حصلت على هذه الوظيفه, فيجب الإلتزام بشروط العقد, وإن لم أحصل عليها, فإما ان يواصل البحث عن وظيفة أخرى , أو يجب ان احضر الى مكتبه لإلغاء او إنهاء العقد, ولكن هذه الوظيفة بالذات تخضع لشروط العقد, وأنهى المكالمة , وبدأت أفهم لماذا قال لى صديقى اننى تسرعت فى توقيع ذلك العقد.
عند عودة صديقى ذلك المساء, قصصت عليه ما حدث, فكان يبدو على وجهه علامة المفاجأة, وظل صامتا لبضعة ثوانى, ثم قال انه فى الواقع متعجب ان مكتب التوظيف قد اتصل بى بتلك السرعة, اى بعد يومين او ثلاثة, ثم طلب منى العقد الذى وقعته, وراجعه قليلا ثم قال ان الرجل على حق وهذا ما وقعت عليه. وتناقشنا فى ذلك, فكانت نتيجة النقاش هو , إما ان لا أذهب الى المقابلة واتجاهل تلك الوظيفه تماما, وأنهى ذلك التعاقد , او أذهب الى المقابلة وأرى ان كنت سوف احصل على تلك الوظيفة, فإن لم أحصل عليها وهذا هو الأغلب إحتمالا, فسوف استفيد من خبرة المقابلة ما ينفعنى فى المقابلات التالية, وإن حصلت عليها, فأمامى أن أختار بين أن افى بإلتزام العقد وأدفع الرسوم, او اذهب الى محامى وأدفع رسومه لكى يتفاوض مع مكتب التوظيف, او أتجاهل الموضوع ونتركه لينتهى حيث ينتهى, وبالطبع لم يكن ذلك الإختيار الإخير مما أحبذه او اوافق عليه.
ذهبت فى اليوم التالى فى ميعاد المقابلة التى اتفقت أنا عليها وليس الموعد فى الثالثة عصرا التى اتفق عليها مكتب التوظيف, وكنت هناك قبل الموعد فأخذت اتجول حول المستشفى قليلا, وعند حلول الموعد او قبلة قليلا, دخلت الى المستشفى وسألت موظفة الإستقبال عن المعمل, وأشارت الى الطريق, وكنت بين شعورين, اولهما ان لا أهتم كثيرا بتلك المقابلة بل كان جزء منى يتمنى ان تضيع الفرصه حتى انهى ذلك العقد, وأبحث بنفسى من جديد عن وظيفة أخرى, والثانى ان اؤدى تلك المقابلة بجدية تامة وأن أتعامل مع مكتب التوظيف فيما بعد, وربما كانت تلك المشاعر سببا فى اننى كنت أكثر هدوءا مع نفسى ولم أكن فى حالة قلق او عصبية او ما يشبة ذلك.
عندما قابلت المستر " مارشال " وجدته رجلا ضخما أسودا, يدخن البايب, وأستقبلنى بإبتسامة كبيرة فى مكتبه, وسألنى أسئلة كثيرة عن خبرتى وهو يتصفح اوراقى, وقال انه لم يلتقى فى حياته بإنسان من مصر, بل انه يود ان يزور مصر, وسألنى عن مصر وعن الأهرام, , وبعد ان فرغ من أسئلته العلمية المتعلقة بخبرتى وخلافه أخذنى فى جولة الى المعمل الذى كان كخلية نحل, وكانت تلك هى المرة الأولى التى أرى فيها معملا من نوع اخر غير ما تعودت عليه فى مصر,وشرح لى اقسام المعمل وما يتم بها من تحاليل, والواقع اننى لم استطيع ان أميز اى جهاز من أجهزة المعمل, فكل ما كان لدينا فى مصر هى أجهزة "اقل من متخلفة", وما لم يكن متخلفا كان من صناعات الإتحاد السوفييتى, وهو أيضا يمكن ان يصنف بالمتخلف . لدى عودتنا الى مكتبه, قال ان هناك عددا من المتقدمين الى تلك الوظيفة , وانه سوف ينتهى من مقابلتهم جميعا غدا الأربعاء, ثم سوف يتخذ القرار فى من سوف يمنحه تلك الوظيفه, وقبل ان أغادر مكتبه, ذكرت له اننى لن احضر فى الساعة الثالثة لأننى قد انتهيت من المقابلة ولا أجد ان هناك لزوما لمقابلة أخرى, فتعجب قليلا مما قلت, ثم قال هل كان لديك مقابلتان اليوم, فقلت نعم, وشرحت له ما حدث, فنظر فى دفتر أمامه, ووجد أن إسمى مكتوبا بواسطة سكرتيرة المعمل التى تحدثت مع مكتب التوظيف وحددت لهم المقابلة, وهز رأسه ولم يقل شيئا سوى , لا اعتقد انك تريد ان تضيع وقتك معى مرة أخرى اليوم, وابتسم, ثم ودعنى عند باب المكتب.
ذكرتنى جولتى فى المعمل بجولة أخذها احد زملائنا فى مصر فى معمل فى روما, وكان أقدم منا جميعا, حيث كان فى الدرجة الخامسة على ما أذكر, وكان من ( المحاسيب) فى مصر فى وزارة الصحة, وعندما أقول المحاسيب فأعنى انه ممن كان له علاقة قرابة بوكيل الوزارة أو هذا ما كان يدعى, ومن يدرى إن كان ذلك حقا ام انه كان يستعمل ذلك لإغراض خاصة, المهم انه "اختير" ويعلم الله السبب فى إختياره, اختير للذهاب الى إيطاليا فى بعثة او منحة ان زيارة او شيئ من هذا القبيل لمدة شهر, وكانت الزيارة من المفروض ان تكون علمية وليست نزهة لشراء الهدايا او ما لم يكن متوافرا فى مصر, كانت لزيارة بعض معاملهم وإكتساب بعض الخبرة عن طريقة عملها لكى " نطور " معاملنا, وعند عودته, كان يجلس معنا ليقص علينا زيارته "العلمية" للمعامل هناك, وقال ان مدير المعمل اخذه ومعه بعض المبعوثين الأخرين فى "جولة " للمعمل, ولم يسترعى انتباه سيادته سوى شيئ واحد كان يقصه علينا بتفاصيل التفاصيل المفصلة, وهو انه رأى احد العاملين هناك وهو يحضن احدى العاملات فى نفس المعمل وفى أثناء الجولة التى قام بها وفى حضور مدير المعمل الذى كان يقود الجوله, فقد كانا فى نفس المكان فى ركن من أركان المعمل وهما يمارسان علمية ( الحضن), بل انه لم ينسى ان يقص علينا نوع وألوان الملابس التى كانت ترتديها .......الخ, ويقول بأسلوب "المدير المصرى" كيف يفعل ذلك فى حضور مدير المعمل !!, هذا الرجل كان فى ذلك الوقت فى سن يقرب من الخمسين, ولم يذكر لنا اى جهاز من أجهزة قد رآه من أجهزة المعمل, او اى عملية تحاليل, او اى من العلميات الإدارية التى يدار بها المعمل او أى شيئ أخر, تقلصت زيارة ذلك المعمل على ذلك المشهد, وبالطبع لم يفته ان يحكى لنا ما رآه أيضا هناك فى شوارع روما من افعال مماثلة او فى وسائل المواصلات من أفعال مماثلة أيضا, وكأن سيادته كان فى زيارة لكى يحصى ويسجل العلاقات العامة بين الجنسين, وبالطبع لم ينسى ان يذكر لنا ما احضره من هدايا من أسواق إيطاليا............, تذكرت جولة صديقنا فى معامل روما, عندما اخذنى مستر مارشال فى جولة فى معمله.
حدثت صديقى عن المقابلة وعما حدث, فأخبرنى ان ذلك هو عادة روتين المقابلات وأن الرجل كان يجاملنى فى حديثه عن مصر وعن رغبته فى زيارتها.....الخ, وان جولة المعمل أيضا قد تكون روتينا فى المقابلات التى هى من ذلك النوع, وربما أرد ان يختبر معلوماتى فى معرفتى ببعض الأجهزة . ولأنى لم أتعرف كما قلت على اى من تلك الأجهزة, فملت الى الإعتقاد انه ليس من الممكن ان يمنحنى تلك الوظيفة. فى اليوم التالى الأربعاء, حوالى الساعة الرابعة بعد الظهر, دق جرس التليفون, وعندما قمت بالرد, كان المستر مارشال على الخط, وسألنى ان كانت لاتزال لدى رغبة فى العمل لديه , وبالطبع أجبت بكلمة واحدة, نعم, فقال, حسنا, وشرح لى المرتب وساعات العمل, ثم قال, سوف أراك يوم الإثنين القادم فى الثامنه صباحا.
رغم ان صديقى كان يبدو عليه الفرح والسعادة لذلك الخبر, وقال يجب ان نحتفل بذلك فى عشاء فى مطعم فاخر, إلا اننى لاحظت شيئا لا يتفق تماما مع علامات السعادة والتهنئة , لاحظت ان هناك شيئا من ( كيف يمكن لك بعد أسبوع ونصف ان تحصل على وظيفة فى مجال تخصصك, بينما لم يحدث ذلك لى او لأى واحد ممن عرفتهم طوال شهور......!!) غير انى تجاهلت ما لاحظته, واحتفلنا كما قال بتلك المناسبة السعيدة.
فى يوم الإثنين, أى بعد أسبوعين تماما من وصولى, بدأت العمل فى مستشفى راواى, وكان أول شيئ هو بالطبع مقابلة مع المختصين بالشؤون الإدارية لإتمام اوراق التعيين والضرائب, ثم بعض التحاليل اللازمة للتأكد اننى خالى من بعض الأمراض التى قد تنتقل منى الى الأخرين, وهو شيئ روتينى يتم لجميع العاملين فى المستشفى, ثم جولة فى المستشفى نفسها للتعريف بها.......الخ.
وبعد قضاء نصف اليوم تقريبا فى تلك الأمور الروتينية, بدأت العمل فى المعمل, وأخبرنى المستر مارشال بأننى سوف يتم تدريبى على الأجهزة وسوف أتنقل من قسم الى الأخر طبقا لبرنامج محدد من المعمل. لاحظت اول ما لاحظت ان الغالبية العظمى من العاملين فى ذلك المعمل كانوا من الإناث, ولم يكن هناك سوى رجلين أخرين, احدهما هندى والأخر من كوبا, اما الفتيات او النساء فكان من بينهم واحدة من الفيلبين, وأخرى من هاييتى, وواحدة من بورتوريكو, وأخرى من جاميكا, بينما كانت الباقيات من الامريكيات, معظمهم من البيض بينما كانت هناك واحدة من السود. الجميع يعمل بجدية تتناسب مع طبيعة العمل الذى تتعلق بنتائجه حياة المرضى من نزلاء المستشفى.
بعد يومين, سألنى مستر مارشال عن الحال وهل كل شيئ على مايرام, ثم سألنى عن كيفية حضورى الى العمل , وبعد أن اخبرته اننى أركب أتوبيسين يوميا بل ذكرته انه هو الذى وصف لى كيفية الحضور, عرض على ان يقوم بتوصيلى الى محطة الأتوبيس فى نووارك فى طريقة الى المعمل صباحا وفى طريقة الى بيته مساءا, وحدد لى الموعد الذى يمكن ان يتوقف لكى أركب معه, وكانت لفتة إنسانية خاصة وأنه من أجل ان يفعل ذلك, كان لزاما عليه ان يخرج من الطريق السريع عدة دقائق لكى يلتقى بى, ووافقت بعد أن شكرته. فكان ذلك توفيرا لوقتى حيث كنت اغادر المسكن مبكرا جدا بمعنى ان كنت أصحو أيضا مبكرا , فصرت أغادره مع صديقى الذى يوصلنى الى مكان لقائى معه, ولأننا كنا نتحدث سويا يوميا فى الذهاب والعودة فقد سألته عما يقترح ان أفعل مع مكتب التوظيف الذى سوف يطالبنى بمستحقاته, عندما أتلقى اول شيك من مرتبى, فقال ليس أمامك طريق سوى ان توفى بإلتزامك, لأن المستشفى سوف يخطرهم عند إستفسارهم انك قد حصلت على الوظيفة, ففهمت من ذلك انه من المستحيل ان يقدم المستشفى لهم معلومات غير صحيحة , مثلا بأن يقولوا لهم اننى لم اوفق فى الحصول على الوظيفه او شيئا من ذلك القبيل, الأخلاق من الأشياء التى يحترمها الجميع هنا, فكان على ان أدفع خمسة فى المئة من مرتبى السنوى اى حوالى خمسمئة دولار وكان ذلك مبلغا كبيرا بمقاييس ذلك الوقت, ورتبت معهم اننى سوف أدفعه على أقساط شهرية , وبالطبع قمت بدفعه على مدى خمسة شهور.
يتبع