بسم الله الرحمان الرحيم.
السلام عليكم.
إذا ضاعت سورة الإخلاص ضاعت العقيدة.
عندما أتأمل في بعض الأحوال العقائدية للمسلمين أتحسر كثيرا على ما وصلوا إليه من انحطاط عقائدي ساهم بدوره في انحطاط المسلمين أخلاقيا. كان لدي كتيب صغير بعنوان ( أربعون حديثا في فضل سورة الإخلاص ) لصاحبه جلال الدين السيوطي الذي سعى لجمع أربعين حديثا باختلاف درجات صحتهم، فمنهم الضعيف و المنكر و الحسن و إلخ مما يزعم القوم. لما قرأت الكتاب أحسست أنه كارثة عقائدية بكل ما تحمله الكلمة من معاني. كيف لا يكون الكتاب كارثة عقائدية و هو الذي يجعل الخلاص في قراءة سورة الإخلاص كتعويذة نرددها مرات عديدة و لكننا في الأصل لا ندرك معانيها. فترى حديثا يدعو لقراءة السورة أحد عشر مرة لتكون هدية جميلة للأموات، و حديث آخر يزعم أم كل من يقرأ سورة الإخلاص أكثر يزيد رصيده من القصور و النعيم في الجنة و أختتم بأحاديث تدعي أن قراءة سورة الإخلاص لمائة أو ألف مرة يكون سببا في أن يشتري المؤمن نفسه من الله تعالى. حسب رأيي الخاص يجب على المسلم الواعي أن يقف وقفة حازمة في وجه هذه الخزعبلات التي تنحرف بالقرآن الكريم عن طريقه القويم و تستبدل سبل الهداية فيه بسبل الشيطان. صحيح أن سورة الإخلاص بسيطة في الكلمات و يحفظها الصغير و الكبير و لكن تبقى دلالاتها أعظم و أشمل من أن يسعها مقال متواضع. و سأسرد فيما يلي كيفية فهمي لهذه السورة الجميلة و باقي آيات ربي جميلات.
يقول الله تعالى ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) ). لما تعسر عي فهم مقصد أول آية من سورة الإخلاص قمت بتغيير كلمة الله في ذهني بصفة أخرى من صفات ربي عز و جل، و أحسست أن المعنى يتغير بتغير الصفة مع رسوخ دلالة التوحيد أكثر. فلو عوضنا مثلا كلمة الله بالرزاق لوجدنا أن كل من يشرك بالله تعالى في أمور الرزق هو إنسان لم يدرك حقيقة واضحة في القرآن الكريم أن الرزق من الله تعالى فقط و ليس الرزق في قبور الأولياء و الحجارة المباركة و لا يملك أي إنسان الرزق لأخيه الإنسان إلا إذا كان سببا في رزقه، و أعطي مثالا قرآنيا على كلامي عندما يقول الله تعالى ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) – المائدة ) و ( وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) – المائدة ) و ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) – الذاريات ) و القاسم المشترك بين هذه الآيات البينات هو أن الرزق لا يكون إلا من عند الله الأحد و أنه لا يشرك في تقسيم أرزاقه أحدا و كل من ينتظر رزق الأولياء الصالحين فلينتظر. و إن عوضنا كلمة الله بالرحمان نستنتج أن الرحمان هو الأحد و سنكذب فورا ما راج عند المسلمين أن لفلان أو للولي القدرة على مسك رحمة الله تعالى، و قد يفسر الناس أحيانا سبب عدم نزول المطر بأن الولي فلان أمسك المطر لأنه مشتاق للهدايا و النذور التي يقدمها الناس له. و صدق الله تعالى لما تحدى عباده أجمعين و أعلمهم أن الرحمة الإلهية ملك لله تعالى وحده فقط، فيرسلها متى يشاء و يمسكها متى يشاء ( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) – فاطر )، و بتدبر القرآن الكريم نجد أن الله تعالى يكشف عنا محنة حبس المطر إذا استغفرناه كثيرا و أن ما دون ذلك ما هو إلا الباطل ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) – نوح ) و في استرسال قرآني في الحديث عن رحمة الله تعالى تكشف لنا سورة نوح عن واقع مرير آخر في عصر المسلمين، فعندما يصلي المسلم و يستسلم لله تعالى فإنه من العيب أن يظن أن شيخه هو من يعطي البنين و البنات للناس و بغضبة من الشيخ على مريديه تتعطل الأرحام و ينقطع التناسل و هو عكس ما قاله الله تعالى الذي يتصرف في خلق الأنفس كما يشاء ( لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) – الشورى ) و إذا عوضنا كلمة الله بالجبار سندحض كذلك عقيدة أن الميت قادر على الإنتقام و تعذيب الأحياء عندما يغضبوه أو ينتهكوا حرمات قداسة قبره المبارك، و هو ما نسمعه كثيرا في حفلات الحضرة الصوفية عندما ينبه الشيخ الحاضرين بأن الولي لن يهدأ باله إلا إذا انتقم من الذين سيسيئون له و هو ما يتعارض مع قوله تعالى ( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) – البروج ). و من دون أن نطول أكثر فإن أي صفة لله تعالى لو جعلناها في مقام كلمة الله في الآية الأولى من سورة الإخلاص لأدركنا بفطرتنا و عقيدتنا أن كل صفات الله تعالى هي ملك له وحده و دونا عن غيره و لعلّم خطباؤنا الناس معنى الإخلاص في سورة الإخلاص و أن الوحدانية و القدرة هي لله تعالى فقط الذي صدق في قوله المبارك ( فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) – البروج ). و بفهم أول آية من سورة الإخلاص يبقى فهم بقية الآيات واضحا للمتدبرين. فإن تعجب القارئ من فكرة أن الله هو الصمد أي المقصود في جميع الحوائج و كيف أنه سبحانه و تعالى قادر على تدبير أمور جميع الخلائق من دون أن يتعب أو ينسى، فالله تعالى يضع المسلم أمام فكر أعظم من قضاء حوائج الناس لأنه بسيط على الله تعالى مقارنة بالتساؤل بخصوص كيف أن الله تعالى لم يلد و لم يولد و أنه لم و لن يكافئه أحد أي لا أحد من خلق الله تعالى سيساوي أو يقترب من قدرات الله عز و جل الذي ليس كمثله شيء. و لبساطة تدبر آيات الذكر نتعجب كيف ينشغل علماؤنا بأفكار أبعد ما تكون عن كونها فكرا و لكنها تندرج ضمن قائمة الجهل، و أتساءل لم يريد أن يقنعونا بأن السنة و ما صح من الحديث وحي من عند الله تعالى مع كونه يخالف ما يريده الله تعالى لنا فهو الذي قال صدقا ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) – محمد ) و ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) – النساء ) و لم يقل الله تبارك و تعالى ( أفلا يرددون القرآن ) أو ( أفلا يرددون سورة الإخلاص ). و إن كان أهل الحديث لابد أن ينشغلوا بالحديث فلينشغلوا بهذا الحديث و ليفهموه على مراده الحقيقي لا على مرادهم و مراد الخرافات و الأوهام، يقول الحديث ( سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن ) و لا نعني بثلث القرآن جميع كلمات و جمل و حروف القرآن و لكن ثلث القرآن هو ركن من أصل ثلاث أركان : العقيدة و العبادات و المعاملات. يا أهل الحديث افهموا أن سورة الإخلاص قد لخصت كل جوانب العقيدة التوحيدية و حاربوا خزعبلات كرامات الأولياء و لا تحاربوا حب أهل القرآن للقرآن. و أختم بمقالتي بقوله تعالى ( تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) – الجاثية ). و الله أعلم بصحة قولي.