البشرية لا تعرف تاريخها كما تظن.. أسوأ الكوارث الثقافية التي حدثت عبر التاريخ

في الأربعاء ٠٤ - أكتوبر - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

التاريخ يكتبه المنتصرون، لكن هذا ليس وحده السبب في أننا نجهل الكثير مما حدث في الماضي، فقد تسببت كوارث كبرى – حدثت ولا تزال تحدث – في فقد تراث ثقافي هائل كان سيغير الكثير في معارفنا  لو وصل لأيدينا، ويقدّر بعض الباحثين أن 50 % من التراث البشري لم يعد موجودًا، وفي هذا التقرير نستعرض مجموعة من الكوارث الثقافية التي قد تكشف أن هذا الاعتقاد ليس بعيدًا عن الصواب خاصة وأنها ليست الحوادث الوحيدة.

تدمير مكتبة الإسكندرية

لا يوجد مكتبة تماثل مكتبة الإسكندرية القديمة في عالمنا اليوم،  يمكن القول إنها جمعت من المعارف والعلوم ما يجمعه اليوم جوجل وويكيبيديا معًا،  فمثلما يحرص جوجل على جمع كل كلمة جول موضوع ما، كانت مكتبة الإسكندرية تجمع المخطوطات والوثائق وتحرص على الاحتفاظ بنسخة منها، وكانت تحصل على ما تحمله أي سفينة قادمة إلى ميناء الإسكندرية من مخطوطات فتنسخها وتعيدها إليها، ويقال إنها كانت تحتفظ بالأصل وتعيد إليها نسخة منه، حرصًا على أن تكون أصول المعارف موجودة في المكتبة لينتفع بها العامة  وألا يختص أحد الأفراد بها.

في المكتبة ايضًا رُسمت أولى خرائط العالم، وأُنشئت أولى الجامعات وكانت مركزًا للبحوث والحوار، ومناقشة مبادئ الطب والعلوم وأسئلة الفلسفة والأدب والإدارة السياسية. كان البردي هو الأداة التي حفظت وثائق ومخطوطات المكتبة، وكان يصدّر إلى أوروبا، وحين أصبح نادرًا ولم يعد هناك وفرة لتصديره أرجع البعض السبب إلى أن مكتبة الإسكندرية تستخدم معظم المتوافر من أوراق البردي، وذهب البعض إلى أن السبب هو مؤامرة هدفها ألا تكون هناك مكتبات منافسة في أوروبا.

تأسست مكتبة الإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد، ويرجّح أن من أنشأها كان بطليموس الأول أو ابنه بطليموس الثاني، لتجمع المعارف المصرية القديمة، وبمرور الوقت أصبحت المكتبة تحمل كنزًا ثقافيًا بكل اللغات، فقد تُرجمت الوثائق المكتوبة باللغات البربرية إلى اللغة اليونانية، وتقول إحدى القصص إن بطليموس الثالث استعار من أثينا نصوص إسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيدس، وأعاد نسخة منها واحتفظ بالأصل في مكتبة الإسكندرية.

جمع بطليموس الأول العلماء والأدباء والفلاسفة حوله وراسل فلاسفة اليونان وحاورهم  في بلاطه بحضور العلماء والأدباء، وكان أشهر العلماء الذين استقدمهم من اليونان إقليدس عالم الفلك والعلوم الرياضية والهندسية، الذي ألّف عددًا من الكتب للمكتبة، ومستشاره ديمتريوس الفاليري الذي وضع نواة المكتبة، وجمع لها الكتب من المكتبات المصرية القديمة واليونانية، وأبرزها مكتبة أرسطو ويُقال إنه اشتراها من أثينا  بمبلغ ضخم ونقلها إلى الإسكندرية. وتتراوح تقديرات عدد المخطوطات التي تضمنتها المكتبة بين 40 ألف و 600 ألف مخطوطة، احتفظت المكتبة بما لديها في أكوام -إذ لم يكن بالإمكان وضعها على رفوف- وتم عمل نظام فهرسة لكل محتوياتها.

في أوج مجدها كانت الإسكندرية مكانًا يقصده الدارسين من أنحاء العالم، وفيه قدّم عالم الرياضيات اليوناني إقليدس أهم أعماله في الهندسة، كما توصل عالم الرياضيات والجغرافيا الليبي إراتوستينس لقياس محيط الأرض، وتوصل عالم الفلك اليوناني أرسطرخس الساموسي إلى أن الأرض تدور حول الشمس. وهكذا جمعت الثقافات والعقول وقام على رعايتها أمناء من الشعراء و العلماء توّلوا تنظيم محتوياتها والإضافة إليها.

ولكن كيف دُمرت المكتبة؟

لم يُعرف على وجه التحديد كيف اختفت مكتبة الإسكندرية، وتُوجّه كتب التاريخ التهمة إلى ثلاثة؛ الأول هو يوليوس قيصر حين حرق أسطول السفن التي حاصرت المدينة حين استنجدت به كليوباترا، فامتد الحريق وطال المكتبة ودمّر جزءًا كبيرًا منها ونُقلت المخطوطات التي بقيت منها إلى روما، لكن هناك من يعتقد أن الحريق طال بعض المخازن حينها ولم يقض على المكتبة بالكامل.

وكان الثاني هو ثيوفيلس بابا الإسكندرية الذي أقدم على تدمير المعابد الوثنية دفاعًا عن المسيحية، لكن المرجّح أن التدمير طال أحد المباني الملحقة بالمكتبة ولم يطل المبنى الرئيسي لها، أما الثالث فهو الخليفة عمر بن الخطاب ويُقال إنه أمر بحرق محتويات المكتبة لأن بها ما يخالف القرآن الكريم، لكن كثيرًا من المؤرخين أكدوا أنها قصة لم يتم تناولها إلا في القرن الثالث الميلادي، ويشككون بالتالي في مصداقيتها، فضلاً عن أنها لا تتوافق مع تعاليم الإسلام ولا مع ما اتبعه الفاتحون في البلاد الأخرى، كما أنه في العام الذي وصل فيه الفتح الإسلامي إلى مصر- عام 641 ميلاديًا-  كانت المكتبة قد دُمرت بالفعل ولم يعد لها أثر.


يوليوس قيصر

بينما يرى البعض أن المكتبة لم تُدمر بشكل كامل مرة واحدة، وأن الأمر تم على مراحل بسبب الصراعات السياسية والدينية، واستولى الأباطرة الرومان  على بقاياها إلى أن اختفت نهائيًا عبر القرون، ويعتقد باحثون أن يقايا المكتبة لا تزال موجودة تحت الأرض ويمكن العثور عليها. مهما يكن فلا يزال الأكاديميون يؤكدون فداحة ما خسرته البشرية باختفاء مؤلفات مهمة تضمنتها المكتبة في التاريخ والأدب وغيرها من العلوم.

دخول المغول إلى بغداد

حين وصلت جيوش المغول إلى بغداد، في أواسط القرن الثالث عشر كان في العاصمة العباسية 36  مكتبة، أشهرها المكتبة التي أسسها الخليفة المستنصر وحمل إليها مئة وستون عتالًا ثمانين ألف كتاب، وبيت الحكمة التي أسسها هارون الرشيد وتعهدها بعده الخليفة المأمون بالرعاية، فضمت مؤلفات علمية مترجمة عن اليونانية لأرسطو وبطليموس وإقليدس، وكتب في الطب والفلك والهندسة استُقدمت من بلاد الروم والهند وفارس،  استباح جيش هولاكو كل ذلك مع ما استباح من دماء سكان بغداد، فحرقت قواته كل المكتبات ورمت في نهر الفرات بعدد مهول من الكتب مرت عليه القوات، وتركت مياه النهر سوداء بسبب حبر الكتب فيها، كما دمروا الجامعات والمشافي والمراصد في طريقهم.

كما دمر الجيش السدود والقناطر فقضوا على نظام الري في بغداد الذي تكوّن عبر آلاف السنين، فأضاعت بذلك الآثار التاريخية للمدينة العظيمة، ويؤكد مؤرخون أن تدمير بغداد عام 1258 ميلاديًا كان ضربة قاصمة للفكر الإسلامي لم يسترد عافيته منها حتى اليوم.

محاكم التفتيش

بسقوط غرناطة عام 1492 أُطلقت يد محاكم التفتيش، ومع تعميد المسلمين بالقوة أُحرقت الكثير من الكتب العربية ووصمت الكتب باحتوائها على أعمال السحر، والتهمت النيران مخطوطات ثمينة قدر عددها بمليون مخطوطة،  وبلغت مليوني مخطوطة في تقدير آخر، لاحقت محاكم التفتيش اليهود كذلك واٌحرقت خلال هذا العصر العديد من كتبهم.

كانت الكتب التي يتم إعدامها هي تلك التي تتضمن  « أفكارًا خطيرة » ، ويذكر مؤرخون أن العديد من الكتب العلمية تم إحراقها فقط لعدم وجود وقت لتحديد مضامينها وما إذا كانت تتضمن أفكارًا مخالفة أم لا،  وكان عاما 1559 و1560 أكثر الأعوام شراسة في الإقدام على حرق الكتب، ومنعت محاكم التفتيش دخول أي كتاب بلغة غير الإسبانية، وخضعت المكتبات الإسبانية للرقابة تم والتخلص سرًا من بعض محتوياتها.

العالم الجديد أيضًا – الذي تم اكتشافه بالتزامن مع سقوط غرناطة- خضع لمحاكم التفتيش، وفُرضت قوانين صارمة على المهاجرين إليه؛  « نقاء الدم » أي أن تكون أربعة أجيال من الأسرة  « تمارس الكاثوليكية »،  ومارست محاكم التفتيش الرقابة على ممارسة الطقوس المسيحية، في البداية على المهاجرين الجدد وفي مرحلة لاحقة تم تعميد السكان الأصليين قسرًا وخضعوا للقانون نفسه.

وفي تلك الأثناء اختفت الكتب التي جمعها إمبراطور الإنكا في البيرو عن تاريخ حكم أجداده ولم يُعرف مصيرها وما إذا كانت قد عرضت للتدمير عن عمد، وأُحرقت المخطوطات والنصوص الخاصة بـالحضارة الأزتيكية، التي أسستها إحدى قبائل الهنود الحمر على هضبة المكسيك فبنت إمبراطورية واسعة ومركزًا اقتصايًا مزدهرًا أدهش الغزاة الإسبان الذين وصلوا إليها، وشكلت الأوراق الملونة – التي احتوت الأساطير والأشعار والملاحم –  « جبلاً» تم إحراقه، وهكذا اختفت تمامًا اللغة الأصلية  للسكان وأصبحت لغتهم الرسمية إلى اليوم هي الإسبانية.

اقتحام القصر الصيفي في الصين

تحمل الذاكرة الصينية الشعبية أسوأ ذكرى لحدث تدمير ثقافي كبير لذاكرة الأدب الصيني جرت في  عام 1860 للقصر الصيفي -يوان مينغ يوان – الذي أُنشئ في القرن الثامن عشر وعاش فيه أباطرة أسرة تشينغ ومارسوا منه شؤون الحكم،  كان القصر تحفة معمارية  وكانت الصين حينها أقوى امبراطورية فى آسيا.

وفي حرب الأفيون التي نشبت بسبب تضارب المصالح التجارية ورغبة بريطانيا في تقويض قوة الصين عبر نشر إدمان الأفيون فيها، تصدت الصين للمحاولات البريطانية، فأرسلت بريطانيا جيوشها لإجبار الحكام على فتح بلادهم أمام التجارة الخارجية، اقتحمت القوات الفرنسية والبريطانية المشتركة القصر الصيفي القديم فنهبت الكثير من محتوياته،  ثم أمر الجنود بحرق المكتبات وما بها من كتب نادرة.

الكنوز المسروقة بين عامي 1860 و1949 بقيت ذكرى بالغة الرمزية للصينيين وتناولتها الأعمال الدرامية مرارًا، وظلت تمثل «جرحًا» للصينيين. وإلى جانب ما تم تدميره من آثار وما تم حرقه من كتب نادرة، قُدرت القطع المنهوبة بـحوالى 1.5 مليون أثر  صيني فى أكثر من ألفي متحف فى 47 دولة، حتى أن المتاحف البريطانية تحتفظ بأجزاء من عرش الإمبراطور الصيني، كما احتفظت المتاحف الفرنسية بقطع أخرى، وكتبت على إحدى القطع الأثرية في المتحف «قطعة منهوبة من القصر الصيفي في الصين».

وقد عبّر كتاب فرنسيون عن أسفهم مما حدث في القصر الصيفي وكان بينهم فيكتور هوجو الذي قال «هذا ما فعلته الحضارة للبربرية» وأعرب عن أمله في أن تشعر فرنسا بالأسف عما فعلته في القصر. و في عام 2013 استعادت الصين – بعد جهود طويلة – قطعتين أثريتين تمثلان رأسي أرنب وفأر وهي منحوتتين من اثني عشر منحوتة للحيوانات التي  ترمز إلى الأبراج الصينية كانت جزءًا من نافورة القصر الصيفي القديم، كانت القطعتان قد عرضتا للبيع عام 2009 في مزاد علني أثار غضب الشعب الصيني، وكثف المسؤولون الصينيين حينها البحث عن القطع الأثرية الصينية الموزعة على متاحف العالم لمعرفة مكانها.

تحول القصر إلى متنزه كبير يزوره السياح، وتُركت أطلال المباني التي هُدمت كما هي لتشهد على ما تعرضت له الصين من عمليات نهب على  أيدي القوى الأجنبية في تلك الفترة التي أدى خلالها ضعف البلاد إلى احتلالها، ويضم القصر حاليًا تمثالاً برونزيًا لفيكتور هوجو.

لكن هذا ليس الحادث الوحيد لفقد ثقافي في الصين، ويسبقه تاريخ طويل من التدمير والحرق، حتى أن الموجود حاليًا من الأدب الصيني يقدّر بنحو نصفه فقط، فقدت الصين قبل هذا التاريخ تراثًا هائلاً، حكي عنه الكاتب لوسيان بولاسترون في كتابه «كتب تحترق.. تاريخ تدمير المكتبات» إذ أكد أن كتب الصين هي جسد «مبتور الأوصال»، ويعود هذا إلى سلسلة من الإتلاف والحرق لملايين النصوص والمدونات قامت بها السلالات المتعاقبة التي توالت على حكم الصين، فتتبعت كل سلالة – لأسباب مختلفة – ما تمت كتابته من نصوص في عهد السلالة السابقة، وقامت بتدميره.

وفي «تزامن مذهل» بينما كان هولاكو يدمر كتب بغداد وأحياءها كان أخوه مونكوخان يقوم بالعمل نفسه في نصوص صينية لأعداء حكمه، وبالطريقة نفسها اختفت كنوز من النصوص الأدبية والتاريخية الصينية.

حريق مكتبة الإسكوريال

تأسست مكتبة الإسكوريال قبل حوالي خمسة قرون في مدريد، واعتنى بها مؤسسها  الملك الإسباني فيليبي الثاني، وسعى لأن تكون مكتبة كبيرة تنافس المكتبات الإيطالية، فجمع الكتب من مكتبات إسبانيا وخصص إحدى قاعاتها للمخطوطات القديمة باللغات اللاتينية واليونانية والعربية والآرامية والإيطالية والفرنسية والإسبانية،  وكان أبرزها الكتب التي صودرت  خلال فترة محاكم التفتيش في أوروبا، إلى جانب المخطوطات العربية النادرة واعتبرها المؤرخون منجمًا للمخطوطات الأندلسية العربية.

وطلب فيليبي الثاني من سفرائه جمع الكتب والمخطوطات من أنحاء العالم فجمعوا تحفًا  وذخائر تاريخية نفيسة وأصبحت المكتبة من أكبر مكتبات العالم في ذلك العصر، حتى أن الإسبان سموها «ثامن عجائب الأرض». إذ ذخرت أيضًا بالأدوات العلمية والخرائط والأعمال الفنية أعظم فناني العصر.

وفي عام 1761 دمر حريق درامي استمر 15 يومًا مبنى المكتبة الذي يضم هذه الأعمال الفنية النادرة، وقضى على ما يقرب من خمسة آلاف مخطوطة، بينها ألفا مخطوطة عربية ومخطوطات أخرى إغريقية وفرنسية وعبرية، كما قضى على مؤلفات مهمة بينها رسوم المؤرخ فرانسيسكو هرنانديز.

تدمير التراث الثقافي في العراق

يُعدّ تدمير الآثار العراقية أكبر الكوارث الثقافية في عصرنا الحديث، فقد اختفت من العراق بعد الغزو الأمريكي لها عام 2003 ما يقرب من مليون كتاب وآلاف القطع الأثرية القديمة، وتُركت المواقع الأثرية العراقية أمام اللصوص والطامعين الجدد؛ خاصة بعد سطوع نجم تنظيم الدولة.

.

كما نُقل الأرشيف اليهودي في العراق الذي يحتوي أقدم نسخة للتلمود البابلي اليهودي، وأكثر من ثلاثة آلاف وثيقة و1700 تحفة نادرة من عهد السبي البابلي، إلى إسرائيل، وهو ما حمل العراقيون مسؤوليته للولايات المتحدة  وكان الجيش الأمريكي قد نقل آلاف النسخ الأصلية الأثرية من العراق بهدف صيانتها بالاتفاق مع هيئة الآثار العراقية ولم تتم إعادتها.

جمع الكاتب الفنزويلي فرناندو بايث  في أعمال مختلفة له ما فقده العالم من كنوز ثقافية، منها كتابه « التاريخ العالمي لتدمير الكتب»،  كان بايث مسئولًا عن مراقبة أثر الحرب في العراق على التراث الثقافي لها، وكتب عنه تقريرًا انتقد فيه ما تسببه الولايات المتحدة من دمار في تراث الحضارات الأولى الذي يوجد في العراق، وصرّح بأن خسارة هذه الأعمال أكبر من الدمار الذي تسبب فيه النازيون عام 1933. إذ يجمع العراق حضارة ثمانية آلاف عام قامت في بلاد ما بين النهرين، ويؤكد بايث في كتابه إن اختفاء  كل هذه الكنوز الثقافية وغيرها من الأمثلة  تؤكد أن البشر في الحقيقة – ولعدة أسباب – لا يعرفون تاريخ البشرية بالقدر الذي نعتقده.

اجمالي القراءات 3330