وجات مصريات يعانين من هروب أزواجهن في صمت

في السبت ١٦ - سبتمبر - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

وجات مصريات يعانين من هروب أزواجهن في صمت

 

  • “خرج ولم يعد” لم تعد مجرد جملة يتندر بها المصريون وتشتغل عليها السينما، بل باتت واقعا بائسا تعاني منه العديد من الزوجات المصريات اللاتي فجعن بتفضيل أزواجهن الهروب والانسحاب من الحياة الزوجية بدل مواجهة المشاكل التي تكون غالبا بسبب الظروف الاجتماعية القاسية، فتكون الزوجة هي الضحية لأنها تظل معلقة فهي لا بالمتزوجة ولا المطلقة ولا الأرملة.

العرب رابعة الختام [نُشر في 2017/09/17، العدد: 10754، ص(20)]

هروب الزوج سجن يطبق على أنفاس الزوجة

القاهرة – تعاني بعض الزوجات المصريات -وفق إحصائيات رسمية- من ظاهرة هروب الأزواج. وتشكو مصر حاليا من تفاقم هذه الظاهرة بسبب تدني مستويات المعيشة وعجز البعض من الأزواج عن تلبية متطلبات الحياة، فيكون الحل بالنسبة إليهم في الهروب تاركين خلفهم زوجات معلقات.

ويظل وضع الزوجة مرهونا بعودة زوجها، وهي العودة التي تكون أحيانا في حكم المستحيل، ومن ثم لا تستطيع الحصول على الطلاق حتى يمكنها الاستمرار في إدارة البيت دون مواجهة المجتمع والقانون.

وتكون الزوجة عندئذ فريسة في ظل موقف اجتماعي متأزم يلقي باللائمة دائما على النساء، متجاهلا الوضع الاقتصادي الطاحن وموجة الغلاء التي تضرب البلاد في مقتل وتدفع البعض لتقليص نفقاته وحصرها على الضروريات فقط.

ويجعل هروب الزوج أو “الطفشان” (باللهجة المصرية الدارجة) الزوجة محرومة من أيّ ورقة رسمية حتى لو كانت شهادة وفاة تؤكد أنها أصبحت أرملة، حيث لا أخبار تأتيها عن هذا الزوج الهارب، وحتى إذا لجأت إلى القضاء لتحديد وضعها فإن تلك القضايا تبقى معلقة أمام المحاكم لسنوات طويلة قد تخسر المرأة فيها فرصة عمل جيدة، أو السفر إلى خارج البلد للبحث عن حياة أفضل، بل ولا تستطيع نقل أطفالها من التعليم الخاص إلى العام أو العكس نظرا لضرورة موافقة الزوج أولا، وهكذا تصاب حياتها بالشلل التام.

وقالت أم محمد لـ”العرب”، “لديَّ سبعة أبناء ولم تفلح معي أيّ وسيلة لتنظيم النسل، وكان زوجي عاملا ‘أرزقيًا’ (ليس لديه عمل دائم)، بالتالي فنحن لا نملك دخلا ثابتا ولم يلتحق أيّ من أبنائي بالتعليم نظرا لظروفنا المادية الصعبة، فنحن نعيش كما يقال ‘اليوم بيومه’ ولا نملك ما ندّخره للمستقبل، واضطر الأبناء للعمل للمساعدة في نفقات البيت، الأولاد يعملون في الورش الحرفية والبنات خادمات بالمنازل، كما أنني أعمل خادمة أنا أيضا”.

وأضافت السيدة الخمسينية “حين علم زوجي بأنني حامل بالطفل السابع ترك لي البيت وهرب بعد مشاجرة عنيفة انتهت باعتدائه عليّ بالضرب، وعندما رفضت فكرة إجهاض نفسي تركني أنا والأبناء، وقد مرّت على هروبه ست سنوات لم أعرف عنه فيها شيئا ولم تصلني حتى ورقة طلاق تحدّد وضعي، كما لم ألجأ للقضاء لطلب الطلاق حتى لا أكون وحيدة فيطمع الرجال فيَّ أنا وبناتي”.

وأقصى ما تستطيع أم محمد فعله هو الكذب على الناس بأن زوجها ذهب ليزرع قطعة أرض في قريته، ولم تبح بحقيقة الأمر إلا لأهل الثقة ممّن تقوم بخدمتهم حتى تتلقّى مساعداتهم التي تعينها على الإنفاق على أسرتها الكبيرة، ولا تزيد حصيلة عملها هي وبناتها على بضع مئات قليلة من الجنيهات كل شهر لا تكاد تكفيهم.

نساء كثيرات يستبعدن فكرة الطلاق عندما يهرب الزوج لخوفهن الشديد من نظرة المجتمع السلبية للمطلقة فتظل في رحلة البحث عن الزوج الهارب أو المفقود خوفا من نظرات اللوم المسلط عليهن

ترك الجمل بما حمل

لا يختلف الوضع كثيرا مع أمّ سعيد الأربعينية التي تعيل خمسة من الأبناء بعد أن “طفش” زوجها، على حد تعبيرها، فهو قد “ترك لها الجمل بما حَمَل”، إلا أن الحِمل ثقيل جدا ولا تستطيع تحمله وحدها، فأشارت عليها أمها بالزواج من رجل آخر لتكون زوجة ثانية له فيسترها وينفق عليها، إلا أنها اصطدمت بالواقع، حيث أنها لا يمكنها الزواج دون وجود ورقة طلاق من الزوج الأول الهارب.

والأمر مختلف مع “س. ي”، وهي موظفة بوزارة الصحة المصرية فضلت عدم ذكر اسمها. “س. ي” سيدة في نهاية عقدها الثالث من العمر، حيث قالت “تزوجت منذ 12 عاما رجلا يكبرني بستة عشر عاما، ولم أشعر يوما ما معه بهذا الفارق في السن فهو لم يقصّر في تلبية مطالب بيته أبدا، بل على العكس تماما كان رجلا وقورا يحترمني جدا ويقدر دوري كزوجة وامرأة عاملة، غير أنه منذ حوالي عام وثمانية أشهر أصيب بالعجز الجنسي التام فتغيّرت أحوالنا”.

وأوضحت لـ”العرب” أنه “رغم أنني تعاملت معه بمزيد من الحب والاحتراء، خاصة وأن لدينا طفلين ويجب علينا البقاء معا من أجلهما، إلا أنه بعد مشاجرة عادية بيننا دخل في حالة صمت واكتئاب، ثم خرج من البيت في الصباح إلى عمله ولم يعد حتى الآن، وباءت جميع محاولاتي في البحث عنه بالفشل، وهكذا أصبحت زوجة مُعلّقة لا أنا متزوجة ولا أنا مطلقة، وتحرقني الآن نظرات المجتمع، كما تقتلني كل يوم همسات زميلاتي بالعمل (زوجها طفش منها)”.

ويُعدّ هروب الزوج من المنزل حالة اجتماعية شاذة يصعب تصنيفها طبقا للتصنيفات التقليدية المتعارف عليها، وهي الزواج والطلاق والترمل أو عدم الزواج (أعزب-عزباء)، فالهروب لا يندرج تحت أيّ من هذه المسمّيات.

وتتساءل الزوجة “س، ي”، “ماذا أكتب بالضبط في بطاقتي الشخصية (بطاقة الهوية)، هل أكتب زوجة هرب زوجها منها؟”.

وقال خالد حمودة، موظف بالسجل المدني بالقاهرة، لـ”العرب” إن “هذا الوضع كان في الماضي عندما كانت بطاقات الهوية ورقية، أما الآن فإن البطاقات الممغنطة (بطاقة الرقم القومي) لم يعد يُكتب فيها إلا واحد من ثلاثة ألقاب، إما زوجة أو آنسة أو أرملة، دون الحديث عن طلاق أو هروب أو غير ذلك”.

وتسجّل محاضر أقسام الشرطة حالات كثيرة عن اختفاء الرجال المتزوّجين تحرّرها النساء دون أن يُقدمن أسبابا محددة للاختفاء، لكنّ الجميع يعرف أن لذلك العديد من الأسباب وعلى رأسها الظروف الاقتصادية الطاحنة هذه الأيام وغلاء المعيشة.

وقال أحد ضباط الشرطة لـ”العرب” إن “الحالة شاذة جدا وخارجة عن المألوف، لكنها تكثر في المدن مقارنة بالريف الذي مازال محتفظا بالترابط الأسري، حيث بيت العائلة الكبير يضم الجميع تحت سقفه، والحياة هناك بسيطة وخالية من غلاء المدن، كما أن الجميع يتكافل ما يخلق حالة من الرضى والتكامل بين الأهل والجيران”.

وتكتظ ساحات محاكم الأسرة في مصر بنساء جئن طلبا للطلاق أو الحصول على حكم بأن “الزوج مفقود” حتى يستطعن مواصلة الحياة من جديد. وأفادت دراسة أعدها المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية بالقاهرة بتزايد أعداد الأزواج الهاربين من حياتهم الزوجية إذ بلغت 18 ألف حالة، ولم يتقدم ببلاغات للشرطة إلا 11 ألفا فقط، أما النسبة الباقية فهي تتأرجح بين التشبث بأمل العودة أو الخوف من نظرة المجتمع الذي لن ينصف الزوجة وسيوجّه أصابع الاتهام إليها في جميع الأحوال.

وأرجعت الدراسة أسباب الظاهرة إلى سوء الأحوال المعيشية والفقر أو عدم تقارب وجهات النظر وسوء التفاهم، مما يخلق حالة من عدم التواصل والنفور التام بين الزوجين.

المواجهة خير من الهروب

قالت سامية خِضر أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس بالقاهرة لـ”العرب” إن “هروب الأزواج ظاهرة عالمية ولا تقتصر على مصر وحدها، وترجع أسبابها إلى الفقر والجهل، فغالبا ما يهرب الزوج من المسؤولية تجاه أسرته إذا ضاقت به الحال وتيسرت له فرصة عمل بالخارج والحياة بعيدا عن الالتزام الأسري، ولا يحدث هذا في العائلات والأسر الغنية المثقفة لأنّ الزوج فيها يملك مقومات الحياة ويستطيع التغلب على المشاكل الحياتية والزوجية بأكثر من وسيلة”.

وشددت على أننا في الكثير من الدول العربية لا نُعلّم الرجل مسؤولية الحياة الزوجية، بل إن لدينا ثقافة راسخة بأن الرجل لا يعيبه سوى الفقر، وفي المثل المصري الدارج يقولون “الرجل يعيبه جيبه”، وهكذا عندما لا يستطيع الرجال مواجهة الفقر يشعرون بالذل والإهانة فيهربون.

وانتقدت خِضر تعامل الرجل مع تلك الأمور بشكل سلبي، فبدلا من البحث عن حلول منطقية لمشاكله ومواجهتها وحلّها جذريا للقضاء على أسبابها لضمان عدم عودتها مرة أخرى واقتحامها والتعامل معها بإيجابية يلجأ لأقصر وأسهل الطرق وهو القفز من المركب تاركا خلفه المشكلات تتفاقم.

وأوضحت أن الرجل يمكنه البحث مثلا عن عمل إضافي أو إقامة أيّ مشروع لزيادة الدخل لمواجهة تزايد النفقات، وهنا لا بد من الحوار بين الزوج والزوجة حتى يساهما معا في إيجاد الحلول.

وتابعت خضر “أما في حالة كون هروب الزوج ناتجا عن الفشل في إتمام العلاقة الحميمة أو العجز الجنسي الكلي والجزئي فإن على الزوجة مساعدة زوجها بصراحة وشفافية وتفاهم بحثا عن العلاج الطبي الذي قد يستغرق بعض الوقت”.

وأشارت خِضر إلى أنه في الحالات التي يهرب فيها الزوج نتيجة لسلاطة لسان الزوجة وغطرستها أو تكبّرها بسبب ارتفاع مستواها المادي أو التعليمي ومستوى أسرتها، بل وحتى في الحالات النادرة التي يبلغ فيها تجبّر الزوجة أحيانا حدّ ضرب الزوج، فإن سلبية الرجل وهروبه لن يفيداه ولن يفيدا أسرته، لأن الزوجة سوف تمارس نفس القهر والتعذيب على الأطفال، وهنا فإن المواجهة الحاسمة للوصول إلى حل قاطع تكون خيرا من الهروب.

وأكد علاء رجب استشاري الصحة النفسية والعلاقات الأسرية أن هروب الأزواج يُعدّ رسالة خطيرة للزوجات مفادها أنه كرجل غير مؤهل لتبعات الزواج وفاقد لرخصته، وعندما يهرب الأزواج فهم بذلك يكتبون نهايتهم كأزواج وآباء أيضا، إذ يكبر الطفل وهو يرى دموع أمّه تبكي قهرا من ظلم رجل تركها وحدها في مواجهة الحياة، وبالتالي يكره هذا الأب ويراه عنصر هدم للأسرة وليس عنصر بناء.

وأوضح أن هروب الزوج من المنزل له أكثر من شكل، فهناك الرجل الذي يتواجد في المنزل كصورة فقط دون أيّ تدخّل في تفاصيل الحياة تاركا المسؤولية على عاتق الزوجة التي يهملها ويهمل علاقته بها، بداية من إهمال الحوار المشترك ومناقشة حياة الأبناء مرورا بالعلاقة الحميمة بينهما وانتهاء بإهمال الإنفاق على البيت والأبناء.

الزوجة تتكتم أملا في عودة الزوج وخوفا من نظرة المجتمع

وأضاف “هذا النوع يطلق عليه الطلاق الصامت، ما يصيب الزوجة بالتوتر والضيق وينتج عنه اضطراب في مشاعرها وأحاسيسها وهنا تحدث الشروخ ويتسلل الفتور إلى العلاقة، فنجد الكثير من النساء يظلمن أنفسهن حفاظا على البيت والأبناء.

وأضاف رجب لـ”العرب” إن “نساء كثيرات تستبعدن فكرة الطلاق عندما يهرب الزوج لخوفهن الشديد من نظرة المجتمع السلبية للمرأة المطلقة فتبقين في رحلة البحث عن الزوج الهارب أو المفقود خوفا من نظرات اللوم المسلّط عليهن، وتتملكهن مشاعر سلبية تجاه أنفسهن فيفقدن الثقة في استعادة الزوج ورغم ذلك يظل الحفاظ على الشكل الاجتماعي محرضا أساسيا على عدم الاعتراف بالفشل في البحث، وتتملكهن حالات متناقضة من الحيرة والتخبط الفكري والشتات الذهني، إضافة إلى الاضطراب النفسي والوجداني للأبناء”.

ولفت إلى أن وطأة الأمر تزداد عند الأطفال في المرحلة العمرية من 6 إلى 9 أعوام، وينتج عن التشتت الأسري ضعف في شخصية الابن أو الابنة، وسلوكيات عدوانية تجاه نفسه والآخرين جراء غياب السند والأمان، بالإضافة إلى بعض الانحرافات السلوكية في مرحلة المراهقة في الفئة العمرية من 10 إلى 16 عاما.

وأوضح استشاري الصحة النفسية أن هناك المرأة القوية التي تستطيع التكيّف مع متغيرات الحياة وتواجه الصعاب وحدها بقوة شخصية وتفكر بشكل إيجابي في التخلص من تبعات زواج فاشل ورجل فقد رصيده من الحب في بنك الحياة، وتتخلص من سطوته المزيفة عليها وعلى مشاعرها وتهرب بجلدها من شبحه حتى لو تعرّضت للنقد اللاذع من أهله أو أهلها.

وقال أشرف الفيل أحد علماء الأزهر، لـ”العرب” إن “هجر الزوجة الذي أباحه الشرع هو هجرها بترك الحديث إليها والهجر في الفراش لمدة ثلاثة أيام فقط، وألاّ تطول المدة حتى لا يحدث بينهما نوع من الشقاق المنهيّ عنه لقوله تعالى ‘واهجروهن في المضاجع’، ولكن بعد أن يشرح الزوج لها أسباب الهجر والخصام”. وأشار الفيل إلى أن هذا الموقف مؤقّت حتى تعود الزوجة إلى رشدها كأحد أبواب التأديب لها، أما الهروب من المنزل بقصد الإضرار بها وتعليقها فلا تعرف إن كانت زوجة أو مُطلقة فليس من الدين في شيء وأمر منهيّ عنه بنص القرآن الكريم في قوله تعالى “ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة”.

اجمالي القراءات 3656