لماذا لا يؤمن المصريون بأن مصر بلدهم؟

محمد عبد المجيد في الأربعاء ٠١ - أكتوبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

لو عرضتُ هذا العنوانَ على مواطن مصري يجلس في الصف الأمامي باستاد القاهرة الدولي وهو يشاهد مباراة كرة قدم بين فريق مصر القومي وأحد الفرق الأفريقية السمراء للَكَمَني في وجهي بقبضته قبل أن أنتهي من حديثي.
لكن هذا المواطن نفسه سيضع أصابعه في أذنيه إنْ عرضتُ عليه العنوانَ عينه في موقع آخر ووقت مختلف وعن قضية حياتية تمس لقمة عيشه ومستقبل أولاده وكرامة أمته.
والمصري يمضغ السياسة كما يُخزّن اليمني القاتَ بين أسنانٍ صفراء فاقع لونها لا تسر الناظرين، لكنه يضعها في خانة الأمن والسلامة، فالحديث عنها والخوض فيها ينبغي أن يكون في دائرة حددتها السلطة كما يفعل نجوم ( البيت بيتك )، والاقتراب من مغارة علي بابا ومشاهدة الأربعين حرامي لا بأس بها شريطة أن تُغمض عينيك عمن قام بفتح المغارة.

صناعة العبودية ليست فقط سوطا يلسع ظهر المصري كلما فكر في أن يرفع رأسه أمام سيد القصر أو ابنه أو من يقوم مقامهما في الامساك بطرف السوط ولو كان مأمور قسم في الشرطة يستكمل هيبة السلطة في دُبر المواطن، لكنها تكتمل بالعبودية المختارة تلك التي يفقد فيها المصري إيمانه بأن مصر بلده، وأن ناهبيها يُفَرّغون جيبه، وهبّاريها يأكلون اللقمة من أفواه أولاده، وحاكمها يُزيف أوراقَ ثبوتيةِ وطن، ويُزَوّر تاريخه لوضع لافتة على صدر وعقل وقلب كل مواطن بأن ملكية أم الدنيا ليست حقا لأبنائها، إنما هي وثيقة عهد مُوَقّعَة من طرف واحد يحق له أن يُسَفّف أهلها التراب دون أن ينبس أحد ببنت شفة.

كل الأغاني والهتافات والكلمات الفخمة والخوض في السياسة والحديث في الدين والمنتديات والمؤتمرات ومعارض الكتب وقصائد الشعراء وتحليلات الفضائيين واعتصام القضاة واحتجاج العمال وغيرها لن توقف للحظة واحدة طوفانا قادما ما لم يقتنع المصريون أن مصر بلدهم، وأن الثلاثين ألف معتقل هم أهلهم وأولادهم، وأن ربع السكان المصابين بفيروسات الكبد هم أقرباؤهم الذين يتعرضوا لمحاولات اغتيال، مباشرة أو غير مباشرة، من قِبَل سلطة آثمة بلطجية يترأسها قتلة وعصابة من أشد مجرمي العصر قسوة وسادية.
ما تم نشره على الملأ في ربع القرن المنصرم وقرأه المصريون، وسمع عنه أميوهم، وحفظه عن ظهر قلب ملايين من أبناء وادي النيل الخالد لم يحرك قيم الخير والحرية والكرامة في النفوس، بل لم يُقنع المصري أن هذه بلده، ولعل القناعة بأنها بلد حاكميها تزداد رسوخا وترسبا وتعمقا لتصبح في قوة الإيمان أو اشدّ.
لو نشرتَ تفاصيل مفزعة عن انتهاكات وسرقات ونهب منظم وتفريغ خيرات وطن على أي شعب من شعوب الدنيا فستصلك ردود أفعال كثيرة، وسيغضب لغضبك الكثيرون، وستشعر السلطة أنها في خطر لأنك تقوم بفتح كوة يطل منها أبناء الشعب على فساد نظامهم، إلا في مصر فالكتابة حالة من العبث، والمصري سيمرعلى تقرير لجنة حقوق الإنسان أو منظمة العفو الدولية أو حكاية شاب أدخل ضابط شرطة عصاه في موضع العفة منه وسط ضحكات المخبرين والمرشدين والأمن المركزي كأنه يمر أمام خبر عن درجة الحرارة في ساحل العاج أو حادث سيارة في شنغهاي أو استقالة وزير الزراعة في زيمبابوي.

والمصري يمر على مظاهرة في ميدان التحرير فينظر إليها كأن أصحابها يلعبون أكروبات في السيرك القومي، ويقرأ مقالا يزلزل القلوب اليقظة والضمائر الحية بقلم أحد مواطنيه الكتاب أو المحررين أو المهمومين حتى النخاع بإنقاذ بلدهم فيبتسم، أو يضرب كفا بكف، أو يسخر من صاحبه أو يلتقط أدنى حقائق المقال أهمية ليتشبس بها.
والمصري ينظر إليك على أنك ( الآخر ) الذي يتربص به، وهو لا يُظهر غضبه من السلطة التي تصفعه على قفاه، لكنه يَسُبّك ويلعنك ويُحَمّلك أوزار الآخرين إنْ قمت بتذكيره بمن يصفعه على قفاه.
والمصري في حالة استنفار ضد ابن بلده، فالآخر قبطي أو مسلم أو شيوعي أو ناصري أو إخواني أو متطرف أو متساهل أكثر من اللازم أو مهاجر أو مقيم.
والمصري الطيب الوديع ابن النيل الخالد بدأ ينحسر، ويتراجع، وأحيانا يختفي ليحل محله مصري جديد لم يتعلم أن مصر بلده، وأن نهب قطعة أرض هي سرقة مباشرة من أمواله، وأن تزوير الانتخابات تزييف في إرادته وأمام عينيه، وأن الرئيس الذي أجبره على لعق أحذية الشرطة والعسكر لا يزال في ولايته الخامسة بفضل عدم قناعة المصري بأن هذه بلده.

والرئيس مبارك الذي يجلس على مقعد وثير أمام البحر في قصره المعمور بشرم الشيخ يضحك ملء وجهه عندما يتفحص كل الجرائم التي ارتكبها في حق شعبه، ومع ذلك فلم يكتشف المصريون بعدُ أنها بلدهم، بل إن الصراع بين المصريين أنفسهم أضحى استسلاما لارادة الطاغية في تنصيب ابنه وريثا رغم أنف ثمانين مليونا من البشر.
والمصري يرفض مناهضتك القاسية والصريحة والمباشرة للنظام، ويبحث في ثنايا كتاباتك وأحاديثك عن ثغرات عليك وليس عن حقائق تدين النظام، وذاكرة المصري في حدّها الأقصى دقيقتان وخمس عشرة من الثواني، وإذا قرأ عن تفاصيل التعذيب لأبناء بلده فربما تمتد الذاكرة لأكثر من ثلاث دقائق، يعود بعدها على استعداد لسماع نكتة أو فزورة أو الخوض في رضاعة الكبير أو احالة الأمر برمته إلى مشيئة السماء لعل الله تعالى يُنَزّل ملائكة مُسَوّمين على قصر العروبة.
والمصري مشغول بأحاديث وأقاويل وحكايات مرت عليها قرون متعاقبة، فيقوم بتجديدها، ويتحاور حولها، ويتشاجر من أجل اثبات صحتها، ويقاتل الدنيا دفاعا عن رأي فقيه أو عالم في القرن الثالث الهجري، لكن نفس المصري الذي يشرب من ماء غير نظيف لا يرفع صوته أمام المسؤول الذي حاول تسميمه، ويتجرع السموم والمرارة والهوان، ويعرف كل تفاصيل مشهد الجحيم الذي أجبره الرئيس عليه، فيغمض عينيه في انتظار كلمة السماء ولا يعرف أنها مكملة لكلمة الأرض.
والمصري يحتضن حلم الهجرة في يقظته ومنامه، ويصبّ جَمّ غضبه على الوضع الكارثي، ثم يخفت صوته عندما يقترب من المجرم الحقيقي، بل قد يمتدح فيه مؤمنا بأن من يذيقه كل درجات السعير وهو يعرفه أفضل من المجهول الذي قد يحرره ويعيد إليه كرامته أو يسلك سلوك الطاغية السابق.

والمصري الجديد صناعة استغرق العمل فيها ربع قرن، وقد تمَتّ برمجته على أحدث سُبل وطرق الاستعباد الطوعي، فيثور اللبنانيون والأكرانيون والفنزويليون والبوليفيون والمجريون والصوماليون وفقراء توجو، إلا هو بعد تركيب كل برامج قبول الهوان والبرامج المساعدة لها منذ وصول الطاغية مبارك إلى سدة الحكم.
والمصري لا يقرأ إلا قليلا، ويكتفي بعناوين المقالات، وقد يقرأ سطرين في الأول ومثلهما في آخر المقال ليرد عليك، ويستنفر كرامة مغشوشة بحجة أنه يرفض وصفك إياه بالجبن أو اللامبالاة أو البلادة أو مساندته للطاغية أو جلد الذات، أما تفاصيل جرائم العصر وكل العصور التي تحيل حياته إلى جحيم فهو لا يأتي على ذكرها إلا لمِامَاً ومن طرف خفي خشية أن تغضب السلطة.
والمصري الجديد محام وقاض ومستشار ومهندس وأكاديمي وعاطل وأمي وجاهل ومثقف وشاعر وسياسي وفلاح وعامل وبرلماني يعرف أن حدوده قد تم رسمها، وأن اليوم الذي يقتنع فيه بأن مصر بلده هو نهاية الحكم الدموي الساقط والآثم والارهابي للطاغية حسني مبارك، لذا تظل كل عوامل الغضب بعيدةً تماما عن هذه القناعة، فكل جريمة في حق الوطن لا تمسه شخصيا، ولو قام علاء مبارك بعقد صفقة مع أحمد عز لشراء أسهم الوطن المسكين كله فإن المصري يتهكم على الحدث، لكنه لن يقتنع للحظة واحدة بأن مصر بلده، وأن كل الجرائم موجهة ضده شخصيا.
والمصري الجديد يضحك حتى تبدو نواجذه لو دعوت لعصيان مدني أو ثورة شعبية أو غضبة من أجل الكرامة أو خروج كل العاطلين عن العمل للمطالبة بحقوقهم، وسينظر إليك كأنك قرد يرقص في قفص، ولن يفهم أنك تدافع عنه أو أنها رسالة حب إليه شخصيا وإلى أهله وأولاده وتراب وطنه الغالي.
والمصري الجديد ينتظر بصبر نافد انتقال السلطة من طاغية إلى طاغية، وتجديد شباب السوط لعله يكون أخف لسّعَاً على الظهر، ويتمنى أن تكون كَفُّ الرئيس الجديد وهو يصفعه ناعمةً لا تترك أثراً على الوجه أو القفا.
أيها المصريون، ألم يأن الوقت للدفاع عن مصرنا أم لازلتم تعتقدون أنها ملكية خالصة للأسياد؟

اجمالي القراءات 10810