المشروعات الصغيرة.. تجارب عالمية ناجحة وإهمال عربي غير مبرر

في الثلاثاء ١٣ - يونيو - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

ائمًا ما تتبنَّى الأنظمة الاقتصادية العربية تجارب الدول الغربية، سواء فيما يتعلق بالسياسات المالية أو النقدية، وذلك بالرغم من أن الكثير من هذه التجارب لا تتناسب مع الاقتصادات العربية، ولكن في المقابل نرى إهمالًا كبيرًا لبعض التجارب التي ربما نكون أكثر احتياجًا لها في الوقت الحالي، ولعلَّ أهم هذه التجارب الاقتصادية هي الاعتماد على المشروعات الصغيرة، والتي كانت أحد أهم أسباب النهضة الاقتصادية لكثيرٍ من الدول الكبرى.

ولا يخفى على أحد أهمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة، إذ تعتمد جميع اقتصادات العالم اعتمادًا كبيرًا على هذا النوع من المشاريع، ولكن لا نجد الدول العربية تلجأ للمشاريع الصغيرة، رغم أن الكثير من الخبراء دائمًا ما ينصحون بها، إلا أنَّنا نجد بعض الحكومات العربية تدعم المشروعات العملاقة على حساب الصغيرة، فيما أثبتت المشاريع العملاقة مؤخرًا فشلها الكبير في إفادة اقتصادات المنطقة، وذلك على عكس المشروعات الصغيرة التي لها دور كبير جدًّا في امتصاص معدلات البطالة التي ترتفع يومًا بعد يوم في المنطقة.

أهمية المشروعات الصغيرة

غالبًا ما تقوم المشاريع الصغيرة والمتوسطة على الاستثمار بالفكرة، أو بالكفاءات الفردية، وهو ما يجعلها سريعة النمو، حال وجدت مناخًا مناسبًا، إذ يرى «ضياء الناروز»، أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر، أنه لا يوجد اختلاف حول أهمية المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، سواءً من ناحية توفير فرص العمل والحد من البطالة، أو من ناحية المساهمة في الناتج المحلي الإجمالي والنمو الاقتصادي، بالإضافة إلى دورها في التخفيف من حدة الفقر، كما أن هذه المشروعات كانت محورًا أساسيًّا في عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في العديد من الدول، كاليابان والهند.

وتابع الناروز خلال حديثه لـ«ساسة بوست» أنه بصفةٍ عامة تعتبر المشروعات الصغيرة بديلًا استراتيجيًّا لجميع الدول، سواء كانت متقدمة أو نامية، لعلاج الكثير من المشكلات التي تواجه اقتصاداتها من ناحية، وتحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة، لكن برغم ادعاء أغلب الدول اهتمامها بهده المشروعات، إلا أن عددًا قليلًا منها نجح في الاستفادة من الإمكانات والمزايا المحققة من خلال تبني ورعاية هذه المشروعات، والسبب في ذلك هو طريقة الاهتمام، أو طريقة التعامل مع هذه المشروعات، فلكي يصبح لهذه المشروعات دور اقتصادي فعال في الاقتصاد الوطني لدولة ما، يجب أن تكون رعاية هذه المشروعات من خلال:

  • رؤية عامة تبرز أهميتها ودورها في النشاط الاقتصادي.
  • أهداف محددة يتم العمل على تحقيقها.
  • الوسائل والإجراءات التي يتم اتخاذها بصدد تحقيق الأهداف المرجوة.
  • إطار قانوني واقتصادي يشجع ويحفز على إقامة مثل هذه المشروعات.
  • التنسيق والتنظيم والاتصال بين مختلف المشروعات الصغيرة العاملة في الاقتصاد الوطني.

بما يعمل على:

  • ضمان فعالية هذه المشروعات في توفير فرص عمل، ومنتجات يحتاجها المجتمع.
  • عدم تعثرها وتعرضها لمشكلات تمويلية أو إدارية أو تسويقية أو فنية.
  • تنوعها؛ بحيث يتم تنويع هذه المشروعات بين المنتجات المختلفة.
  • تكاملها وتمركزها جغرافيًّا، بحيث يوفر كل مشروع من المشروعات المدخلات أو السلع الوسيطة للمشروعات الأخرى، بما يجعل من هذه المشروعات نواة لمشروعات أكبر. ومشروعات مغذية لصناعات أكبر.

وهذا كله يحتاج أن تعمل هذه المشروعات من خلال مؤسسة أو هيئة عامة، تسلسل إداريًّا وتنظيميًّا لتكون مسئولة عن جميع المشروعات الصغيرة ورعايتها، وبما يعمل على سرعة التواصل مع أصحابها، بحسب الناروز.

ويرى كثير من الاقتصاديين أن تطوير المشاريع الصغيرة وتشجيع إقامتها، من أهم روافد عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول بشكل عام، والدول النامية بشكل خاص، وذلك باعتبارها منطلقًا أساسيًّا لزيادة الطاقة الإنتاجية من ناحية، والمساهمة في معالجة مشكلتي الفقر والبطالة من ناحية أخرى، كما أن المشروعات الصغيرة تتبوأ مكانة مهمة في جميع الدول الصناعية، وأكثر أهمية في الدول النامية، باعتبارها دولًا تعيش حالة من التراجع الصناعي، وسوء الإدارة للموارد الطبيعية والبشرية.

كيف قادت المشروعات الصغيرة دولًا للتربع على قائمة الاقتصاد العالمي؟

إنّ أغلب الاقتصادات المتقدمة لها تجارب مميزة في قطاع المشروعات الصغيرة، ولعل أبرز هذه التجارب في أمريكا وألمانيا، والصين والهند واليابان، وغيرهم من الدول التي تمكنت من جعل المشروعات الصغيرة قاطرة للنمو الاقتصادي، وسنلقي الضوء على تجربتين خلال هذا التقرير، وهما: أمريكا وألمانيا.

أمريكا.. 50% من الناتج المحلي من المشروعات الصغيرة!

رغم أن الاقتصاد الأمريكي هو أكبر اقتصاد رأسمالي في العالم، إلا أن تجربته بالمشاريع الصغيرة تعطي دروسًا مهمة للدول التي تسعى لجعل قطاع المشروعات الصغيرة هو المحرَّك لاقتصادياتها، إذ قدمت الدولة نموذجًا مهمًا في حماية هذه المشروعات ومساندتها حتى تتخطَّى كل العقبات التمويلية والتسويقية، حيث أصدرت في عام 1953 قانونًا خاصًا تؤكد به دورها في الحفاظ على تكافؤ الفرص عن طريق حماية مصالح المشروعات الصغيرة، كما تمَّ تخصيص وكالة فيدرالية لمساعدة هذه المشروعات تحت اسم «إس بي إيه».

واستفادت حوالي 20 مليون منشأة صغيرة خلال 50 عامًا من دعم «إس بي إيه»، وساهمت في انتقال عدد من المشروعات الصغيرة إلى شركات كبرى مثلما حدث لشركات «آبل»، و«إنتل»، و«فيدرال إكسبريس»، و«كومباك»، و«أمريكا أون لاين»، فيما تمكنت الوكالة خلال عقد التسعينيات من رفع معدل النموّ السنوي للمشروعات الصغيرة إلى 3.8%، ووصل عدد المشروعات إلى أكثر من 22 مليون مشروع غير زراعي، وتقوم بتوظيف حوالي 53% من القوى العاملة، كما تحقق 47% من المبيعات الكلية للولايات المتحدة، مساهمة بنسبة 50% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، تاركة النصف الآخر للمشروعات الكبيرة.

ولعبت «إس بي إيه» أيضا دورًا في دعم المشروعات، من خلال توفير متطوع أو مرشد من ذوي الخبرة لكلِّ مشروعٍ صغير، إذ تملك الوكالة ما يقرب من 13 ألف متطوع في مختلف المجالات الاقتصادية، كما تنظِّم آلاف الندوات لرؤساء الشركات الصغيرة الحاليين أو المرشحين لهذا المنصب، بالإضافة إلى إنشاء مركز لتنمية المشروعات الصغيرة بالتعاون مع الجامعات، والقطاع الخاص، والحكومات المحلية. كذلك توفر الوكالة الفيدرالية جميع المعلومات اللازمة للمشروعات الصغيرة، عن طريق مراكز معلومات توفر برامج كمبيوتر خاصة بإدارة الشركات، وقواعد بيانات عن أنواع المشاريع.

لم يتوقف دور الـ «إس بي إيه» عند التدريب وتوفير المعلومات فقط، بل إنها لعبت دورًا مهمًا في عملية تمويل المشروعات الصغيرة، وذلك إما من خلال أن تكون الضامن للقرض الذي يحصل عليه مشروع معين، لا سيَّما مع صعوبة حصول مشروع صغير على قرض دون ضمان، وإما عن طريق منح قروض مباشرة للمشروعات الصغيرة، خاصةً تلك التي يديرها النساء، كما يتم التمويل المباشر لمشروعات في مناطق تعاني من مشكلات اقتصادية، أو كوارث طبيعية.

وفي نقطة ربما تكون هي أكثر ما يميز التجربة الأمريكية، تدخل الحكومة الفيدرالية الأمريكية كأحد المشترين لمنتجات هذه المشروعات، دعمًا لها، وذلك وفقًا لاتفاق مع «إس بي إيه»، فيما يخضع هذا الاتفاق الذي تنفذه الإدارات الأمريكية المختلفة لمراقبة من الكونجرس، لا سيما أن بعض الإدارات تتخطَّى أحيانًا الاتفاق بإتاحة أكثر من 20% من أسواقها للمشروعات الصغيرة، ولدى «إس بي إيه» مكتب يتعامل مع الإدارات الأمريكية المختلفة للدفاع عن مصالح المشروعات الصغيرة، ويخضع لرقابة الكونجرس، كما يعد المكتب تقريرًا سنويًّا حول أوضاع المشروعات الصغيرة في الولايات المتحدة، ونصائح لتحسين المناخ القانوني، والضريبي لهذه المشروعات وتخفيف القيود الإدارية عليها.

ألمانيا: ما بعد الحرب.. الاعتماد على المشروعات الصغيرة

تقدم ألمانيا دائمًا دروسًا مستفادة لشركات ودول أخرى، في تجربتها مع الشركات الصغيرة والمتوسطة، إذ إنها توفر مناخًا مناسبًا للشركات المتوسطة المتنامية لصمودها في وجه العواصف الاقتصادية العالمية، وهو ما سلطت عليه الضوء صحيفة «التليجراف» البريطانية، إذ تقول خلال تقرير لها إنه توجد نحو 3.6 مليون شركة من الشركات الصغيرة والمتوسطة بألمانيا يطلق عليها اسم «ميتلستاند»، تضم غالبية القوى العاملة في البلاد، وتتمتع بنمو قوي وموظفين مخلصين لعملهم. وأظهر بحث أجرته شركة (بي. دي. أو.) للمحاسبة أن الشركات متوسطة الحجم زادت إيراداتها وأرباحها العام الماضي بواقع 3.8% و19% على الترتيب، يأتي ذلك مقارنة مع انخفاض إيرادات الشركات الصغيرة 7.6% وأرباحها 26%.

ويرى تقرير الصحيفة، أن بنك التنمية الألماني (كيه. إف. دبليو.) المعني بتمويل الشركات الصغيرة إلى المتوسطة، يعد أحد أسرار نجاح التجربة في ألمانيا، ففي إطار خطة مارشال عقب الحرب العالمية الثانية، قدم البنك حتى الآن قروضًا تربو على 1.3 تريليون يورو لأغراض تجارية واجتماعية مختلفة، كما استطاع تثبيت تكاليف الاقتراض لفترة أطول بكثير من أي بنك تجاري في المملكة المتحدة.

لا يتوقف النجاح الألماني على التمويل فقط، ففي أربعينات القرن العشرين كانت هناك ابتكارات أطلقت العنان للشركات متوسطة الحجم، من بينها مؤسسة فرانهوفر- جيسيلتشافت، والتي كانت تعمل من خلال شراكة بين الجامعات والشركات، وذلك بهدف الاستفادة من الأبحاث العلمية، والتطبيقات العملية، وهو ما كان له بالغ الأثر في نجاح ألمانيا.

أين العرب من هذه التجارب؟

دائمًا ما تتبنى الدول العربية التجارب الاقتصادية الغربية، سواء بشكل مباشر أو من خلال توصيات للمؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليان، إلا أنه وبالرغم من ذلك لم تستفد الدول العربية من التجارب الغربية في هذا المجال:

مجلس التعاون الخليجي

بالرغم من أن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة يمكن أن تلعب دورًا مهمًا في تحقيق الأهداف التنموية في دول مجلس التعاون الخليجي، لكن ما يزال هذا القطاع يعاني من مشاكل عدة في دول المجلس، رغم التوقعات بأن هذه المؤسسات ستكون محرك النمو الاقتصادي في هذه الدول خلال السنوات القادمة، وأن تساهم في توفير العديد من فرص العمل اللازمة لمواكبة الزيادة السكانية، إلا أنها تواجه عددًا من المعوقات، بعضها تتعلق بالمشاكل الداخلية، مثل ضعف أو عدم دراسـة جدوى إنشاء المؤسسـة قبل الشروع في التأسيس، وكذلك التوسعات غير المخططة، وارتفاع عبء المصروفات والنفقات الثابتة غير المباشرة، ونقص القدرات والمهارات الإدارية لدى القائمين على الإدارة في هذه المؤسسات.

فيما تواجه المشروعات الصغيرة مجموعة مشاكل خارجية بالبلاد متعلقة بالمناخ الاقتصادي والاستثماري بصفة عامة، إذ لا تتمكن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من الاستفادة من حوافز الاستثمار ومن الإعفاءات الجمركية والضريبية، أو الحصول على أراضٍ مجانية أو بأسعار منخفضة، أو الحصول على الطاقـة بأسعار مخفضة، أو قروض بأسعار فائدة مخفضـة.

وبلغ حجم الاستثمارات في هذه المشروعات الصغيرة بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية مجتمعة، نحو 4.2% من إجمالي الاستثمارات في القطاع الصناعي الخليجي، بينما تتقدم الإمارات والبحرين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في عدد المنشآت الصناعية الصغيرة من إجمالي المنشآت الصناعية الموجودة بها، فيما قال أمين عام اتحاد غرف دول الخليج عبد الرحيم نقي إنّ: «40% من المنشآت الصغيرة والمتوسطة خرجت من الخليج، ولم تستفد من النمو الاقتصادي خلال الفترة الماضية، وذلك بسبب احتكار الشركات العملاقة لتلك المشاريع».

مصر وتونس

ركود حركة التبادل التجاري، وانكماش النشاط الاقتصادي، وتقلص الإنفاق الحكومي، وصعوبة التمويل، كل هذه مشاكل مشتركة بين مصر وتونس تقف عائقًا أمام وجود تجربة حقيقة للمشروعات الصغيرة في البلدين، ولكن الغريب في كل من الحالة المصرية والتونسية هو أن البلدين يتبنيان برنامج للإصلاح الاقتصادي بدعم من صندوق النقد الدولي، ولا يكاد ينتبه مسئولو البلدين إلى أهمية المشروعات الصغيرة، والفوائد الاقتصادية الناتجة منها، إذ لا يشكل هذا النوع من المشاريع نسبة تذكر من البرنامج الإصلاحي، وهو الأمر الذي ربما يحتاج إلى وقفة من البلدين.

لماذا يحتاج العرب للمشروعات الصغيرة؟

لا يخفى على أحد معاناة أغلب الدول العربية من انخفاض متوسط دخل الفرد، ومستوى المعيشة، وزيادة معدلات البطالة، وزيادة مديونية، وهو الأمر الذي يجعل من المشروعات الصغيرة التي تساهم بنحو 46% من الناتج المحلي العالمي، وتمثل 65% من إجمالي الناتج القومي في أوروبا مقابل 45% بالولايات الأمريكية، و81% من الوظائف في اليابان هي للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، حلًّا سحريًّا للاقتصاد العربي.

وقد أثبتت التجارب أن المشروعات الصغيرة هي المحور الأساسي في توسيع القاعدة الإنتاجية، وزيادة الصادرات، وخلق فرص عمل جديدة خاصة في العالم القروي والمناطق النائية، فضلًا عن أنها تعمل على تحويل المناطق الريفية إلى مناطق صناعية؛ مما يحقيق التوزيع العادل للدخل القومي وثروات الدولة، وهو الأمر الذي تفتقده الدول العربية كثيرًا.

اجمالي القراءات 3573