-1-
قالت الأخبار قبل أيام، أن شيخاً في الجزائر، أصدر فتوى في بداية شهر رمضان بتحريم أكل الزلابية في رمضان، مما أثار ضجة كبيرة في الشارع الجزائري. وقال الجزائريون أن لا رمضان ولا صيام بدون الزلابية، التي اعتادوا على أكلها في مثل هذا الشهر الكريم من كل عام، كما يأكلوها في كل مناسبة سعيدة في الأعياد والأعراس ومناسبات طهور الأولاد والمناسبات الدينية الأخرى.
وقالت الأخبار أن الشيخ فركوس صاحب هذه الفتوى، قد أنكر فتواه، بعد هذا الاحتجاج العام. لكن جريدة "الخبر الأسبوعي" الجزائرية، تؤكد أن "الكثيرين من مريدي الشيخ، حرموا أنفسهم من أكل زلابية رمضان باعتبارها من بدع الصيام كما أفتى الشيخ فركوس، ولأنها من البدع التي أُدخلت على الدين". وأوردت الصحيفة ما اعتبرته دليلاً على إصدار الشيخ فركوس لفتوى تحريم الزلابية، فقالت أن الفتوى موجودة في كتاب )40 سؤالاً في أحكام المولود للشيخ محمد علي فركوس).
وقالت الصحيفة، "إن فتوى الشيخ جاءت في الصفحة السادسة من الكتاب كالتالي: "عمل بعض الحلوى كالزلابية أو العصيدة أو نحوها من الحلويات التي تخصص للمولود يوم سابعه، وعمل الحلوى يحتاج إلى دليل شرعي".
-2-
وصناعة الحلوى والتفنن في صنعها دليل مدنية وتحضّر وتقدم. والزلابية التي أفتى الشيخ فركوس الجزائري بتحريمها، حلوى عربية، ويمكن أن يكون أصلها فارسي. ويُظن أنها كانت في أفواه العرب قبل الإسلام وبعد الإسلام. وقد وصفها الشاعر التصويري المعروف ابن الرومي (كانت أمه فارسية) بقوله:
رأيته سحراً يقلي زلابيــة في رقة القشر والتجويف كالقصب
يُلقي العجين لجيناً من أنامله فيستحيل شبابيكـاً من الذهــب
ويُظن أن معظم أنواع الحلوى التي عرفها العرب في العصرين الأموي والعباسي وما بعدهما جاءت من بلاد فارس والروم. فإجادة صنع مختلف أنواع الحلوى، دليل على التقدم في الذوق والصناعة، ولذا، كانت ألذ أنواع الشيكولاتة هي الشيكولاتة السويسرية، وألذ أنواع الحلوى العربية الآن (تركية في أصلها) هي الحلوى اللبنانية التي مدحها أمير الشعراء شوقي، بقوله في حلوى البُحصلي اللبنانية المشهورة:
اثنان حدّث بالحلاوة عنهما ثغر الحبيب وطعم حلو البُحصلي
-3-
وبعيداً عن الزلابية وأشجانها، نسأل:
هل لاحظتم كثرة الفتاوى الدينية هذه الأيام؟
فتاوى بالعشرات كل يوم، في شؤون الجنس، والنساء، والكساء، والغطاء، والغذاء، والصلاة، والصوم، والقيام، والقعود، ودخول الحمام، والخروج منه، وفي النوم والصحو، وفي كل ما يمارسه الإنسان في يومه وليله، علماً أن تعاليم الإسلام الحنيف قد جاءت قبل 14 قرناً، وأصبحت مفهومة، ومعروفة، وحفظها القاصي والداني عن ظهر قلب. فكأن العالم ينشأ لأول مرة، وكان الإنسان يُوجد في هذا العالم لأول وهلة.
فما معنى ذلك، وما دليل ذلك؟
معنى ذلك، أن الحاجة الماسة إلى رجل الدين، تشتد دائماً في زمن التخلف، والجهل، والخوف من العلم، والخشية من اللامعلوم واللامعروف. وقد قرأنا في تاريخ الكنيسة أن طلب الفتاوى الدينية من رجال اللاهوت في العصور الوسطى المظلمة، كان أكثر بمئات المرات من طلبها في عصر التنوير والثورة الصناعية، إلى أن كادت تختفي في هذا العصر. كذلك الفتاوى الدينية الإسلامية، التي كانت في عصر الانحطاط، أكثر بمئات المرات منها في عصر التنوير. والقاريء لتاريخ الفتاوى الدينية ودورها في حياة المسلم، يرى أن كَمَّ الفتاوى كان قليلاً جداً في العصور التنويرية، كعصر الخليفة المأمون مثلاً، في حين أنها ازدادت وازدهرت في عصور الانحطاط كعصر المماليك.
-4-
كذلك هو الحال في مطلع القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين. فنلاحظ أن سواد الناس في مطلع القرن العشرين، وهو عصر بدء نهضة عربية لم تكتمل، قد ابتعدوا عن رجال الدين، ولم يبتعدوا عن الدين. فقد وجدوا الإجابة على أسئلتهم لدى المفكرين الحداثيين الذين كانوا في تلك الفترة. في حين أن سواد الناس، في الثمانينات من القرن الماضي وما بعدها، قد اقتربوا من رجال الدين، وابتعدوا عن الدين، وزادت أسئلتهم لرجال الدين، وقلّت أسئلتهم للدين نفسه. وهذه علامة ودليل واضح من أدلة الانحطاط الذي نحن فيه الآن، والذي دفع بالشيخ فركوس الجزائري إلى إصدار فتوى دينية بتحريم الزلابية، كما دفع بعدد من الشيوخ إلى إصدار فتاوى كان لها السيء على الدين.
-5-
كثرة الفتاوى الدينية سواء كانت إسلامية أو مسيحية أو يهودية، هي دليل واضح على اختفاء دور السياسيين، والمثقفين، والعلماء، والخبراء، لكي يحلَّ محلهم الفقهاء فقط.
وهي دليل على كثرة الخلافات، وكثرة الاراء، وتفاهة الأسئلة، وسذاجة الأجوبة، وجهل السائلين، وتضارب الأقوال، وضياع الحقيقة، وكلها مؤشرات لعصر الانحطاط.
وكثرة الفتاوى الدينية دليل واضح على الفساد المُستشري في الحياة العربية، بين الناس وبين السلطة أيضاً. ويقول الشيخ محمد الراوي عضو مجمع البحوث الإسلامية والأستاذ في جامعة الأزهر، إن كثرة الفتاوى الدينية في أي عصر دليل على الفساد المستشري. وقد علمنا أن أبا بكر خلال خلافته، قد ولى عمر بن الخطاب القضاء، فجاء عمر إلى أبي بكر بعدها بعامين، وقال: " يا أبا بكر لقد ولّيتني القضاء ولم يأتني أحد". وهذا دليل على أن الناس كانت تعرف الصواب من الخطأ، دون حاجة للسؤال وللفتوى وللمقاضاة ( "الجريدة"، الكويت، 31/8/2008). أما الآن فقد أصبح سواد الناس كالعميان، يريدون من يقودهم في كل الطرقات.
-6-
إن كثرة الفتاوى وتضاربها وتعارضها مع مصالح الأفراد اليومية، جعلت قسماً كبيراً من الناس يضرب بهذه الفتاوى عرض الحائط، ولا يهتم بها. ويقول الكاتب السعودي عبد العزيز السماري: "إن عدم اكتراث المجتمع لبعض الفتاوى، عندما تقتضي مصلحته غير ذلك، واقع لا يمكن تجاوزه، فكثير من فتاوى التحريم تم تجاوزها، والأدلة على ذلك كثيرة، ومن أهمها على سبيل المثال تحريم الصور الفوتوغرافية، فالمجتمع والمفتون الجدد تجاوزوا ذلك، ولم نعد نسمع فتاوى تشدد على تحريمها، كذلك تحريم مشاهدة التلفزيون، وتركيب أجهزة استقبال القنوات الفضائية تم تجاوزها. ويجب التفريق بين الحكم الشرعي الثابت وبين الفتاوى التي تحكم فيما لم يرد فيه نص شرعي ثابت" ("الجزيرة"، الرياض، 21/6/2008).