أنا أعرف أن ذلك سرّ.. لأنهم يتهامسون بهِ في كلّ مكان. *وليم كونجريف
نحن الآن في زمن الحرب العالمية الثانية – تحديدًا في الفترة التي تلت ضرب ميناء بيرل هاربور – حيث شعرت الولايات المتحدة الأمريكية وقتذاك بالخطر المحدق بمصالحها فبادرت بإنشاء «مكتب الخدمات الاستراتيجية» الذي كانت مهمته اكتشاف الخطر قبل وقوعه.
كان كلّ عضوٍ من أعضاء مكتب الخدمات الاستراتيجية يحمل حقيبة بها جهاز لاسلكي، وبندقية، وبعض العملات، وعددٌ من القنابل اليدوية بالإضافة إلى حبة دواء قاتلة لتنفيذ مهام وُصفت بأنها مهام قذرة، حتى قرر ترومان – الرئيس الأمريكي وقتها – إيقاف نشاط هذا المكتب في شهر سبتمبر (أيلول) لعام 1945م معللًا فعلته بقول: إنه لا يريد شيئًا شبيهًا بالجستابو الألماني في أوقات السلم.
إلا أنه سرعان ما بدت الحقيقة جلية لترومان وهي أن هزيمة الفاشية لم تكن تعني نهاية الصراع العالمي. فكل ما في الأمر أنّ موازين القوى قد اختلفت إذ إن المعسكرين العالميين – الشرقي الشيوعي والغربي الرأسمالي – قد تخلصا من الفاشية النازية التي كانت خطرًا داهمًا على كلٍ منهما، وأصبحت المواجهة الآن مباشرة بين الرأسمالية والشيوعية.
وهكذا، بينما كان العالم بأسره يلعق جراحه ويحاول لملمة شتاته بعد الحرب العالمية الثانية، كانت الحكومتان الأمريكية والسوفيتية تعيدان ترتيب أوراقهما وتبحثان في كيفية السيطرة على العالم عن طريق زيادة الأنظمة التابعة، أو المؤّيدة أو المتعاطفة مع كلٍ منهما.
فبينما أسرع الاتحاد السوفيتيّ بضمّ دول شرق أوروبا المحررة من الاحتلال النازي إلى جانبه، وسعى إلى تدعيم الأحزاب الشيوعية في العالم لمجابهة الإمبريالية، كانت الولايات المتحدة تعمل على استعادة العلاقات بينها وبين أوروبا في أسرع وقت عن طريق تخفيف الوجود العسكري هناك وعقد معاهدات صلح مع الدول التي تحالفت مع النازية.
من هذا المنطلق، وفييتمثل في تقديم مساعدات مالية لدول أوروبا الغربية – خاصة تلك المهددة بأزماتٍ اقتصادية – لمواجهة المد الشيوعي وبالتالي لا تكون هذه الدول فريسة سهلة في يد الأحزاب الشيوعية.
إلا أن الولايات المتحدة فطنت في وقتٍ مبكر إلى أن كل هذه الجهود للسيطرة على أوروبا لا تكفي لاجتثاث الشيوعية من جذورها وإزالتها من طريق الرأسمالية، إذ إنه ليس مضمونًا بحال من الأحوال أن تقوم الدول التي تتلقى مساعدات من أمريكا بالتخلي تلقائيًا عن التوجهات الاشتراكية لمجرّد تلقيها مساعدات من كيان معادٍ للشيوعية.
فطنت أمريكا إلى أن الشيوعية مذهب شمولي قائم بذاته له جذورٌ عميقة قد يستحيل اجتثاثها إلا بمذهبٍ فكريّ آخر يكون له أدباؤه وشعراؤه وفنانوه. وهكذا نقلت الولايات المتحدة ميدان معركتها مع الشيوعية إلى صفحات الجرائد والمجلات، ومحطات الإذاعة والتلفزيون ومعارض الفنون؛ فعملت على تغيير أذهان الشعوب وتشجيعها على كراهية الشيوعية عن طريق تقديم نموذجها الرأسمالي الأمريكي الذي يدعو إلى قدرٍ كبيرٍ من الحرية الفردية.
أفضل طريقة لعمل دعاية ناجحة، هي ألا يظهر عليك أبدًا أنك تفعل شيئًا. * ريتشارد كروسمان، وزير بريطاني وعضو حزب العمال، وقد اشتهر بعدائه للشيوعية.
خصصت حكومة الولايات المتحدة موارد هائلة من أجل برنامج سري للدعاية الثقافية في أوروبا الغربية، وكان أحد ملامحه الأساسية هو أن يبدو وكأنه لا وجود له، أما الذي يديره فكان جهاز المخابرات – المعروف اصطلاحًا بالسي آي إيه CIA – الذي أنشأته الولايات المتحدة عام 1947م ليتولّى الجانب الثقافي في الحرب الباردة. وكان معظم أعضاء السي آي إيه أعضاء سابقين في «مكتب الخدمات الاستراتيجية» الذي قام ترومان بحلّه. لكنّ حقيبة الأسلحة قد حلت محلها هذه المرة حقيبة أوراق لها جيب سري في القاع توضع به البرقيات المبعوثة من أوروبا والتي تتحدث عن اتحادات العمال الشيوعية هناك.
كانت منظمة الحرية الثقافية – التي كان يترأسها رجل المخابرات مايكل جوسيلسون في الفترة من 1950 وحتى 1967– هي ركيزة هذا البرنامج السري، إذ كان لهذه المنظمة مكاتب في 35 دولة، وتصدر أكثر من 20 مجلة لها نفوذ ثقافي هام، وتنظِّم المعارض الفنية والمؤتمرات العالمية التي يحضرها شخصياتٌ بارزة، كما أنها كانت ترعى معارض الفنانيين والموسيقيين وتكافئهم بالجوائز. باختصار، أُنشئتْ منظمة الحرية الثقافية لحثّ مثقفي أوروبا الشرقية على التخلِّي عن بقايا ولعهم بالشيوعية والماركسية وتوجيههم نحو رؤية أكثر توافقًا مع الثقافة الأمريكية التي تمنح الفن حرية تامة غير مشروطة أو محدودة بالضوابط التي وضعتها الشيوعية للفن.
كيف استطاعت مجلة واحدة أن تضم لفيفًا من أعظم الأدباء
تمتعت مجلة إنكاونتر (Encounter) – كانت تصدر من بريطانيا واستمر صدورها من عام 1953 حتى 1990 – بمكانةٍ متفرّدة في التاريخ الثقافي لفترة ما بعد الحرب، إذ وُصفت بأنّها «مجلة حيوية وشديدة الانفلات كأنها حفل كوكتيل أدبي». وقد ضمّت هذه المجلة العديد من الأسماء البارزة مثل نانسي ميتفورد، وإديث وارتون، وبورخيس، وبرتراند راسل، وديفيد ماركاند ودبليو. إتش. أودن.
تبنّت هذه المجلة، التي كانت تُقرأ على نحوٍ واسع في إنجلترا، وأمريكا، وآسيا وإفريقيا، أسلوبًا غامضًا – وربما مريبًا في بعض الأحيان – بالنسبة للكثير من القضايا السياسية؛ فقد كانت تلتزم الصمت في أغلب الأحيان. أما على الجانب الآخر، كانت إنكاونتر مجلة أيديولوجية من الدرجة الأولى إذ كان يسيطر عليها الفكر المعادي للشيوعية.
وقد أُنشئت هذه المجلة، التي حققت نجاحًا مدويًا، بالتعاون بين كل من المخابرات البريطانية والسي آي إيه؛ فقد كان كل طرف يدرس على انفراد فكرة تأسيس مجلة جديدة تكون قادرة على سدّ النقص الموجود في مجال مكافحة الشيوعية في بريطانيا بعدما توقفت عدة مجلات عن الصدور بسبب حالة التقشف الصارمة التي سادت بعد الحرب. وفي عام 1951م، سافر كيم فيلبي – ضابط الاتصال بين المخابرات البريطانية والسي آي إيه – بصحبة شخص يُدعى ويزنر إلى بريطانيا للبحث في موضوع إنشاء مجلة بالتعاون بين الجهازين. وأثمر هذا التعاون مجلة إنكاونتر، التي وصل مجال توزيعها إلى آسيا، والهند والشرق الأقصى.
كيف تلاعب السي آي إيه بالثقافة؟
في مقال بعنوان، كيف لعب السي. آي. إيه حيلًا قذرة باستخدام الثقافة، يتحدث لورانس زوكيرمان عن واقعة تحويل رواية مزرعة الحيوانات للكاتب الشهير جورج أورويل إلى فيلم سينمائي وكيف تلاعب السي آي إيه بنهاية الرواية واستخدمها لإثبات توجهاته المغالية في العداء للشيوعية.
الإعلان الدعائي لفيلم مزرعة الحيوانات
على الرغم من أنّ جزءًا كبيرًا من قوة رواية مزرعة الحيوانات يكمن في مشهد النهاية الذي صور فيه جورج أورويل بإبداعٍ شديد كيف وقفت حيوانات المزرعة فاغرة فاها وهي تنظر إلى الخنازير المستبدين – الذين يمثلون الشيوعية -، وأصحاب المزرعة الاستغلاليين – الذين يمثلون الرأسمالية – ولكنها لم تستطع أبدًا التفريق بينهما فقد أصبحا يشبهان بعضهما البعض تمام الشبه، إلا أن الفيلم لم يتضمن هذه النهاية إذ خلا المشهد الختامي من أصحاب المزرعة وتضمن الخنازير فقط وهم يحتفلون وكيف ثارت بقية الحيوانات ضدهم.
ويبدو أن السي. آي. إيه قد خشي أن يتأثّر المشاهدون برسالة أورويل التي تؤكد على أنه لا فرق بين الرأسمالية والشيوعية فالاستبداد وإساءة استخدام السلطة واحد وإن تعدَّدت أشكاله ومذاهبه؛ فاشترى حقوق الفيلم من أرملته حتى يكون له مطلق الحرية في إحداث التغييرات التي تجعل رسالة الرواية واضحة تمام الوضوح في معاداة الشيوعية.
أيضًا، ضرب السي. آي. إيه بتوصيات أورويل بخصوص عدم إحداث تغيير في أحداث روايته الشهيرة 1984 عرض الحائط حين قام بتحويلها إلى فيلمٍ سينمائيّ. ففي نهاية الرواية نجد أن الكاتب قد قال إن البطل، وينستون سميث، الذي كان قد هُزم تمامًا من النظام الشيوعي، قد أحب الأخ الأكبر. أما في الفيلم؛ فيتمّ إطلاق النيران على وينستون وحبيبته جوليا بعدما يهتف وينستون بحماس «فليسقط الأخ الأكبر!».
وقد يبدو التفسير الأكثر معقولية لقيام السي. آي. إيه بمثل هذا التعدي على الثقافة هو أنه كان يسعى دومًا لدحض الفكرة الشائعة عند معظم الأوروبيين في ذلك الوقت بأن المعسكرين الغربي والشرقي قد ارتكبا أخطاء عدة. ولكن بدلًا من أن يبذل جهدًا في شرح الفروق بين المعسكرين المتنافسين، كان دائمًا ما يشير السي. آي. إيه إلى التكتيكات غير الأخلاقية التي اتبعها السوفييت.
على الجانب الآخر، تشير الكاتبة والصحفية البريطانية فرانسيس سوندرز إلى أن هذا التلاعب لم يكن الأوحد الذي قامت به السينما الأمريكية؛ فتشير إلى أن أحد المخرجين الموهوبين – وكان عميلًا لجهاز المخابرات الأمريكي – قد عمل على ضمّ الممثلين من الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية إلى أفلامه ليس لما يدعيه من تبني أفكار مناهضة للعنصرية ولكن لكي يبطل المزاعم السوفيتية – على حد قوله – عن وجود عنصرية شديدة ضد ذوي البشرة السوداء في أمريكا.
فنٌّ حقيقي أم مجرد «شخبطة»؟
في أواخر الأربعينيات ظهرت جماعة من الفنانين كانوا يعرفون بالتعبيريين التجريديين «Abstract Expressionists» كان أبرزهم جاكسون بولوك، والحقّ أنهم لم يكونوا جماعةً بالمرة إذ كان لكلٍّ واحدٍ منهم ميولٌ مختلفة عن الآخر وكان يجمعهم شيءٌ واحد فقط ألا وهو الميل إلى المغامرة الفنية وعدم التقيُّد بأطر ومعايير معينة.
وقد كان بهذه الزمرة من الرسامين شيءٌ جذَّاب حقًا يبحث عنه السي. آي. إيه في أيّ فنان، لقد كانوا شيوعيين تائبين! رأت صفوة أمريكا الثقافية أن هذا الاتجاه الجديد يمثِّل أيديولوجية مضادة للشيوعية، إذ إنَّه اتجاهٌ يحمل روح الفنّ المغامر الذي لا يصوِّرُ أشخاصًا ولا أشكالًا ولا يحمل بصمة سياسية. ووجدوا في التعبيرية التجريدية نقيضًا للواقعية الاشتراكية، لقد كانت التعبيرية التجريدية اتجاهًا ممتازًا لأنه ببساطة ذلك النوع من الفن الذي يكرهه السوفييت.
لقد عانت الولايات المتحدة طويلًا من كونها لا تمتلك فنًا خاصًا بها، فنًا يحمل الروح الأمريكية، إذ ظل فنّها فترةً طويلةً عبارة عن مجرد مزج بين المدارس الأجنبية ومستودعًا للمؤثرات الأوروبية، ولكن ها هم التعبيريون التجريديون يمنحون الولايات المتحدة فرصة لاقتحام المشهد الحداثي في الفن.
كان جاكسون بولوك ممثلًا لذلك الكشف القومي الجديد فلقد كانت فيه جميع العوامل التي تؤهله ليكون رائدًا لمدرسةٍ فنيّة تمثل الولايات المتحدة. فأولًا كان بولوك أمريكيًا حقيقيًا وُلد في مزرعة للأغنام في كودي، وكان خشنًا، عنيفًا، قليل الكلام، والأهم أنه لم يخرج من عباءة بيكاسو، بل كان تأثره الأكبر بالمكسيكيين والهنود الأمريكيين.
وجاء بولوك بأسلوبٍ جديد يُعرف بـ(رسم الحركة – Action Painting) حيث كان يقوم بوضع قطعة كبيرة من الكنفاس على الأرض ثم يمطرها بالألوان والأصباغ فتتشابك الخطوط وتمتزج الألوان وتسري في جنبات الكنفاس. وحينها قال بعض النقاد إن بولوك قد أعاد اكتشاف أمريكا من جديد بلوحاته التي مثلت انتصارًا للفن الأمريكي الذي يعبر عن أمريكا الطليقة القوية المليئة بالحيوية.
وهكذا أتاحت التعبيرية التجريدية لأمريكا الظهور بمظهر القوة العظمى إذ كان دائمًا ما ينقصها أن يكون لها فنٌ ملائم، وبالتالي أصبحت التعبيرية التجريدية حاملة للعبء الإمبريالي. وعلى الرغم من ذلك قام أعضاءٌ كثرٌ في الكونجرس بالاعتراض على هذا الفنّ كسلاح في الدعاية إذ رأوه مجرد خزعبلات تظهر الشعب الأمريكي في صورة شعب محطّم وبشع لدرجة أن أحدهم قال: «أنا واحد من الأمريكيين المغفلين الذين يدفعون الضرائب من أجل هذه القمامة، وإذا كان أحد في هذا المجلس يرى أن هذا النوع من التفاهة يمكن أن يحقق فهمًا أفضل عن الحياة الأمريكية فلا بد من إرساله إلى نفس المصحة العقلية التي جاء منها من قاموا برسم تلك الأشياء».
اقرأ أيضًا: «من غوغان إلى بيكاسُّو».. تعرَّف على أغلى 10 لوحات في العالم
في الواقع، سواء كانت الفنون الجديدة المتمثلة في الخروج عن المألوف وعدم التقيد بالأطر المتعارف عليها والتي دعت لها الولايات المتحدة فنونًا حقيقية تحمل رسالة ورؤية وهدف حقيقيين أم لا، تبقى الحقيقة واضحة للعيان وهي أن هذه الدولة قد استطاعت فرض ثقافتها وفنها، ليس فقط على دول أوروبا بل على العالم بأسره لأنها آمنت وأدركت باكرًا أن للثقافة والكلمة مفعولًا وتأثيرًا يفوق تأثير جيش مدجج بالأسلحة.