شبه جزيرة البلقان، هي شبه جزيرة ومنطقة ذات طابع ثقافي مميز، تقع في شرق وجنوب شرق القارة الأوروبية مع حدود مختلفة ومتنازع عليها.
تأخذ المنطقة اسمها من جبال البلقان التي تمتد من الحدود الصربية البلغارية إلى البحر الأسود. يحد البلقان البحر الأدرياتيكي في الشمال الغربي، والبحر الأيوني في الجنوب الغربي، والبحر الأبيض المتوسط وبحر إيجة في الجنوب والجنوب الشرقي، والبحر الأسود في الشرق والشمال الشرقي.
تضم دول البلقان بشكل رئيسي كلًّا من ألبانيا، وبلغاريا، والبوسنة والهرسك، وكوسوفو، ومقدونيا، والجبل الأسود، وتمثل منطقة البلقان حدًّا جغرافيًّا وثقافيًّا ودينيًّا بين الشرق والغرب، وتعرف في الغرب بأنها ميراث عثماني، كما يراها البعض حدًّا فاصلًا بين المسيحية الأرثوذكسية، والمسيحية الكاثوليكية، بينما يراها آخرون فاصلة بين الإسلام وأوروبا.
قطاع كبير من الأوروبيين ينظرون إلى هذه المنطقة باعتبارها جسمًا غريبًا عن أوروبا المسيحية، فهي منطقة يجب عزلها إلى أقصى حد ممكن، وهي أشبه بمنطقة «قذرة»، وهي نفس النظرة التي يرمق بها هذا القطاع المسلمين أيضًا، وقبل الحديث عن طبيعة المسلمين في منطقة البلقان، نتحدث أولًا عن البدايات.
بداية وصول الإسلام
يقول المؤرخون إن الوجود الإسلامي في أوروبا الشرقية بشكل عام يرجع إلى القرن الثالث الهجري، عندما أوضحوا أن جماعة من المسلمين كانوا يتاجرون بالفراء مع أهل أوروبا، استقروا على ضفاف نهر الفولجا، ثم تواصلوا مع الخليفة العباسي المقتدر في عاصمة الدولة الإسلامية آنذاك، بغداد، طالبين أن يبعث إليهم بمن يعلمهم ويفقهم في الدين. استجاب الخليفة لطلبهم وأرسل إليهم جماعة من المسلمين برئاسة ابن فضلان، الذي كتب وصفًا لرحلته الشهيرة إلى بلاد البلغار.
ومع اعتناق القبائل التتارية التي غزت أوروبا للدين الإسلامي، وبخاصة «القبيلة الذهبية» التي كانت تسيطر على منطقة شمال البحر الأسود وحوض نهر الفولجا السفلي، توسع أمر الدين الإسلامي. هاجر مسلمو الفولجا وانتشروا في بلاد البلقان، ولكن أثرهم في أهل البلاد الأصليين كان محدودًا في ذلك الوقت.
أما مسلمو البلقان الحاليون فيعود وجودهم إلى زمن الفتح العثماني، عندما اعتنق عدد كبير منهم الإسلام، وهي الفتوحات العثمانية التي توجت بالسيطرة على مضيق الدردنيل، وفتح القسطنطينية عام 1453م. وطوال القرنين الخامس عشر والسادس عشر فتحت العديد من مناطق بلاد البلقان، وانتشر فيها الإسلام بسرعة كبيرة.
وكانت الجيوش العثمانية قد عبرت مضيق الدردنيل وسيطرت على مدينة ثريس، التي تقع في الزاوية الشمالية الشرقية من اليونان، وحاول الصرب والبلغار استعادة المنطقة، لكنهم لم يصمدوا أمام السلطان بايزيد، الذي هزمهم هزيمة ساحقة في معركة «كوسوفا» عام 1389، والذي واصل تقدمه للسيطرة على بلاد الصرب في عام 1391، ثم بلغاريا، ثم توقف الزحف العثماني بعد ذلك بسبب غزو جحافل تيمورلنك المغولي لمنطقة الأناضول.
لكن العثمانيون أعادوا تشكيل قوتهم من جديد وتمكنوا من توسيع دولتهم، فعادوا إلى غزو أوروبا من جديد، واستطاعوا الاستيلاء على ألبانيا وسلونيكا عام 1430م، ثم صربيا عام 1439م، ثم تم فتح القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية عام 1453م ، على يد السلطان محمد الفاتح.
في نفس العام وقع ميناء «جاليبولي» في أيدي المسلمين، وهو ما سهل السيطرة على شبه جزيرة البلقان، ثم توجهت الجيوش العثمانية جنوبًا إلى بقية اليونان عام 1458م، ثم البوسنة عام 1463، وبعدها رومانيا عام 1475م.
وكان أهل البوسنة قبل الفتح العثماني يدينون بالمسيحية، وفي عهد السلطان مراد الأول، بدأ الإسلام ينتشر في البوسنة، إذ كان بين ملكهم والسلطان مراد عهد بدفع الجزية، واستمر هذا الوضع إلى أن تولى السلطان محمد الفاتح الحكم، لينقض ملك البوسنة العهد، فأرسل إليه السلطان العثماني جيشًا تمكن من هزيمته وقتله بعد قتال شديد، وانتهى بدخول البوسنة بالكامل في الإسلام، وبخاصة الأشراف، فيما تأخر فتح الهرسك لمدة 20 سنة بعدها.
لكن مسلمي البلقان ما لبثوا أن تحولوا بعد الانسحاب العثماني إلى أقليات مبعثرة بين مجموعة دول، وأصبحوا أقليات مهمشة ومضطهدة، باستثناء مسلمي ألبانيا وكوسوفو والبوسنة الذين حافظوا على وحدتهم ودينهم رغم ما تعرضوا له من عمليات تصفية عرقية، وسط عشرات المجازر الكبرى التي تعرض لها مسلمو البلقان منذ الانسحاب العثماني، وأحصاها المؤرخون.
ثلاث محطات سيئة
المسلمون في البلقان تعرضوا لثلاث محطات صادمة بالنسبة لهم منذ الانسحاب العثماني. الصدمة الأولى جاءت مع خسارة العثمانيين أراضي المجر وأجزاء من كرواتيا بعد 150 عامًا من السيطرة عليها، فتعرض المسلمون إلى عمليات تنصير شاملة، وقتل أعداد كبيرة ممن حاول الصمود، أو جرى ترحيلهم أو مغادرتهم بمحض إرادتهم، تقريبًا نفس ما شهده المسلمون قبلها بعدة قرون في الأندلس.
أما المحطة الصعبة الثانية فكانت متزامنة مع استقلال عدد من دول البلقان التي سعت إلى بناء الدولة الإثنية الخالصة، أو الدولة المبنية على عرقية بعينها، وكان ذلك على خلفية حرب البلقان الأولى عام 1912. شهدت هذه الفترة «تصفية حسابات واسعة وقاسية مع مسلمي البلقان بصفتهم خونة وعملاء تعاملوا مع المستعمر العثماني ضد أبناء جلدتهم من الأرثوذكس»، فعرف المسلمون في البلقان عمليات هجرة جماعية نحو تركيا وبلدان عربية وإسلامية أخرى.
أما عن المحطة الثالثة فكانت مع وصول الشيوعيين إلى السلطة في كل دول البلقان، باستثناء اليونان. حينها خضع المسلمون إلى عمليات طرد وملاحقة باعتبارهم أصحاب ديانة مختلفة، وأقليات غير مرغوب فيها.
بينما تعرض مسلمو ألبانيا لنوع آخر من الملاحقة – بصفتهم أغلبية في بلدهم– فقامت السلطات الشيوعية بإخضاعهم إلى «عمليات أدلجة ممنهجة حاولت القضاء على كل ما له علاقة بالدين لديهم». وقد عرفت تلك الفترة هجرة مئات الآلاف من المسلمين أغلبهم من مقدونيا.
لكن الفترة الأسوأ التي شهدها مسلمو البلقان، تعود إلى تسعينيات القرن الماضي؛ في ذلك الوقت لاحقت السلطات البلغارية المسلمين من الإثنية التركية، وأجبرتهم على ما سمي حينها ببلغرتهم، وذلك خلال الفترة الأخيرة من حكم تودور جيفكوف.
بعد ذلك جاءت عمليات التطهير العرقي الأكثر قسوة التي عرفتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، في البوسنة، والملاحقات في السنجق، والحرب المفتوحة على مسلمي كوسوفو ومقدونيا. وأسفرت هذه الحملات عن قتل حوالي 250 ألفًا، بالإضافة إلى تهجير مئات الآلاف إلى أمريكا وأستراليا ودول أوروبا الغربية، لتتغير من جديد الخريطة الإثنية للمسلمين في البلقان.
ماذا تعر ف عن مسلمي البلقان؟
يتبع مسلمو البلقان المذهب الحنفي، كما يوجد حوالي 20% من البقداشيين في ألبانيا وبعضهم في مقدونيا، هذا إضافة إلى وجود أقلية علوية في بلغاريا، أما عن التاريخ، فينتمي غالبية مسلمي البلقان إلى الحضارة والثقافة العثمانية.
ويمثل المسلمون في البلقان «خليطًا مجتمعيًّا متنوعًا سياسيًّا وإثنيًّا ولغويًّا وثقافيًّا، بل وحتى دينيًّا (بمعنى الاختلاف المذهبي)»، وهم في الغالب سكان المنطقة الأصليون الذين اعتنقوا الإسلام على مدى قرون طويلة، وينتمي مسلمو البلقان إلى إثنيّتين كبيرتين رئيسيتين. الأولى هي الإليرية والتي ينتمي لها غالبية المسلمين الألبان. والثانية هي السلافينيون، وينتمي لهم كل من البوشناق، والتربشيين، والغورانيين، ومسلمي بلغاريا البوماك.
من ناحية اللغة، يتحدث مسلمو البلقان قرابة عشر لغات مختلفة، أوسعها استعمالًا اللغات: الألبانية، والبوسنية، والتركية، والبلغارية، ولغة الغجر.
لا توجد إحصاءات دقيقة حول عدد المسلمين في البلقان، لكن أكثر الترجيحات خلال عام 2012، تحدد أعدادهم ما بين 8.5 إلى 11 مليون نسمة، أو ما يعادل 11-15% من مجموع سكان المنطقة، ويشكل مسلمو ألبانيا وكوسوفو أغلبية مطلقة في بلديهما، بينما تبلغ نسبة مسلمي البوسنة أغلبية نسبية مقارنة بأعداد الصرب والكروات الذين يقاسمونهم نفس الأرض.
ويشكل المسلمون أغلبية أيضًا في إقليم السنجق الذي لا يتمتع باستقلال ذاتي، وقد أصبح مسلمو السنجق يتوزعون على دولتين، هما: صربيا والجبل الأسود، ويبلغ المسلمون في مقدونيا حوالي نصف مجموع السكان، وفي بلغاريا حوالي 15%، أما في رومانيا واليونان وكرواتيا وسلوفينيا والمجر فيشكّل المسلمون أقليات لا وزن لها تقريبًا.
استعادة الحريات
فترة التسعينيات مثلت لغالبية دول شرق وجنوب شرق أوروبا الفترة الذهبية لاستعادة الحريات التي كانت قد اغتصبتها الحكومات والأنظمة الشيوعية في نظرهم، لكن هذه الفترة كانت من بين أكثر الفترات المظلمة في تاريخ مسلمي البلقان منذ فترة ما بعد سقوط الخلافة العثمانية.
في ذلك الوقت ظهرت بوادر تشير إلى استعادة الأقلية التركية المسلمة في بلغاريا بعض حقوقها الأساسية، وبالفعل بدأت أعداد منهم في العودة إلى المناطق التي هجروها، لكن تصدع الاتحاد اليوغسلافي، وانفجار الصراع البوسني الذي استهدف اقتلاع المسلمين هناك من جذورهم، أعاد إلى الأذهان مآسي البلقان وشعوبه المسلمة.
وقد عجزت اتفاقيات دايتون المبرمة أواخر عام 1995 – رغم أنها أوقفت الحرب- عن تجاوز الأحقاد والكراهية، فلا يمكن لأي اتفاق مهما بلغ من رونق أن يلغي تاريخًا طويلًا من المعاناة. هنا ظهرت في الأفق الحرب الأهلية في ألبانيا عام 1997، والتي لم تكن مشحونة دينيًّا، لكنها أغرقت شعبًا أغلبه من المسلمين في أعمال عنف خطيرة أودت بحياة العديدين.
من ناحية أخرى شهد إقليم كوسوفو عام 1998 صراعًا مسلحًا، خصوصًا مع عودة سياسات التطهير العرقي التي غرس بذورها الرئيس الصربي الأسبق سلوبودان ميلوسيفيتش، الذي كان قد بدأها في البوسنة. هذا الصراع تسبب في تدخل حلف الناتو عسكريًّا، ونتج عنه هجرة جماعية لعشرات الآلاف من مسلمي كوسوفو الألبان.
مثل هذا التاريخ الأسود، جعل من الطبيعي أن شعوب المنطقة المسلمة التي لم تعش نفس المصير – مثل مسلمي إقليم السنجق وألبان مقدونيا والجبل الأسود– تتخوف من أن تكون هي المستهدف القادم في المستقبل، أما بالنسبة لألبان ألبانيا من المسلمين، وإن كانوا أغلبية، وأتراك بلغاريا، فقد جرى دفعهم إلى الهجرة، ليس بسبب صراع مسلح دموي، لكن نتيجة هشاشة وضعهم الاقتصادي، وعدم تمكنهم من الحصول على الوظائف والأعمال الكريمة، رغم أنهم لم يشعروا بتهديد مباشر على حياتهم بصفتهم مسلمين.