صناعة الجهل

محمد عبد المجيد في الثلاثاء ٠٩ - سبتمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

أوسلو في يناير 2006

الثقافة وحدة متكاملة، وأنت لا تستطيع أن تفصل أجزاءَها، وتُفَكّك تلك الأجزاء، ثم تتبحر في معرفة كل جوانب أحدها، لتتحدث بعد ذلك عن الثقافة ككل!
ملايين من المسلمين يظنون أن قراءةَ بعض النصوص القديمة أو حتى كثير منها تفتح لهم بابا للولوج في عالم المعرفة منفصلا عن المعارف الإنسانية الأخرى، لكن الحقيقة أن هذه المعرفة هي البداية لصناعة المحامي الفاشل عن قضايا عادلة. 
يمكنك أن تتخيل شخصا في محيطك بعثه الله للحياة بعدما أماته مئة عام، ولك أن تتصور حوارا بينكما يشمل كل شيء، من الأخلاق إلى الحياة اليومية، ومن الإعلام إلى السياحة، ومن تصرفات وسلوكيات الناس إلى معرض الكتاب الدولي وما فيه.
ثم تخيل نفس الحوار مع شخص عاد إلى الحياة بعد ألف عام وقررت أنت أن تستعين به في عملك ودراستك وأفكارك، وتحاور به الآخرين، ويشاهد بأمّ عينيه عالمَك الجديد، ترى من يصدم الآخر، ومن منكما يقرر التعجيل برفض الآخر لأنه يراه كائنا غريبا تفرض عليه تلك المشاركةُ نوعا غيرَ مقبولٍ اطلاقا من حياة شريكه؟

يتعامل مسلمو العصر الحديث مع القضايا الجوهرية بطريقة قص ولص الانترنيتية، ومن الصعب في كثير من الأحيان أن تكون هناك لغةٌ مشتركة مادام سيّدُ الثقافة .. أي الكتاب يحتل حيزا هامشيا أو مهمَلا في يوميات المسلم.
أتيحت لي الفرصة في الشهور القليلة الفائتة أن أشارك في حوارات على الشبكة العنكبوتية، سواء كان تعقيبا على ردود، أو ايضاحا لبعض ما أسيء فهمه، سهوا أو عمدا، من مقالاتي.
مازالت الصدمةُ شديدةً ولم أفِقْ منها بعد، فقد اكتشفتُ عالما مسحورا يغيب فيه شباب الوطن الكبير وكأنهم في غيبوبتهم تلك يملكون ناصيةَ العلم، وأطرافَ الأدب، وصفحات التاريخ، والتفسيرات الوحيدةَ المعتمدةَ فقهياً عن النصوص المقدسة والأحاديث الشريفة وحياة أجدادنا في القرون الثلاثة الأولى.
شباب جامعيون لم يقرأ أكثرهم كتابين في حياته، باستثناء كتب الدراسة التي تعلم أكثرها التحجر والتخلف، يبحرون بهذا القدر الضئيل من المعرفة، وبلغة عربيةٍ سقيمةٍ، وحروفٍ ضادية لا تدري إن كانت أُرّدِية أو سواحيلية أو فارسية دخلت عُنْوَة وتعرّبَتْ على ألسن هؤلاء الشباب.

نصوص جاهزة من مئات الأعوام يتم استقطاعها، شريطة عدم المرور من قريب أو من بعيد على العقل، ثم اطلاق هذا المارد من قمقمه، وجعله في متناول أيدي وأعين ملايين من مسلمي الشاشة الصغيرة والكي بورد.
لصقت احداهن نَصّاً مر عليه حوالي خمسين جيلا متتابعا عبر التاريخ وهو يتحدث عن وجوب طاعة ولي الأمر مهما كان ظالما أو فاسدا أو لصا أو مجرما أو ديكتاتورا ثم عنونت النص بــ ( الرئيس حسني مبارك الحاكم الشرعي لمصر)!
شباب كان المفترض أن يكونوا في صحبة العلم والثقافة، ويجلسون في مكتبة الجامعة، ويشتركون في نادي السينما، ولديهم عضوية في قصر الثقافة، ويلمون ببعض الآداب والفنون والفلسفة والمعارف الانسانية وثقافات الشعوب الأخرى وتقارير منظمات حقوق الإنسان والموسيقى الكلاسيكية وعلوم البحار وسيكولوجية الشعوب وقضايا التصحر وصناعة الدساتير وقيم التسامح وحوار الحضارات والصراعات الفكرية التي صنعها الاستعمار وحركات التحرر والأشعار التي هزت ضمائر المقاومة وواجبات وحقوق الشعوب وحكامها ... الخ، لكن الفاجعة أنهم صنعوا عالمهم الأكثر هشاشة من القش، وقبولا للكسر من الزجاج، فخاصموا العقل، وأهانوا الثقافة، وداسوا فوق المنطق، وملكوا ناصيةَ الحق الجديد، أي غلبة الجهل وانتصار الفجاجة.
كانت كتاباتي صادمة لشباب الجامعة في موقعهم الذي يتنفسون منه، وجلهم في عمر ابني الطالب الجامعي، وظهر مسرور السياف فوق حروف معظم المشتركين في الحوار والردود والتعليقات.
قال أحدهم بأنني أطالب باستخدام العقل مما ينافي تماما فكرة الإيمان، وغضب آخر لأنني نفيت فكرة أن يرى الشهيد قبيل وفاته الحور العين وهن يمددن أيديهن إليه حتى يتعجل الموت ويأتي إليهن، وكانت فكرتي بأن الله أكبر، وأن المسلم الشهيد ينبغي أن ينشغل بوجه ربه ذي الجلال والاكرام، وبأعماق فكرة الحساب، وبأن تكون نفسه عائدة إلى ربها راضية مرضية.
عاصفة من الاحتجاج والشتائم والسباب والتكفير نالتني، ولو كنت قريبا من أحدهم لفجر سيارة مفخخة ينهي بها حياتي ويتعجل تحقيق حلمه.
قال آخر بأنني أشكك في الثوابت ( مع أنني لم أنف إيماني بالحور العين مع عدم معرفتي بالماهية والكيفية)، وقال بأنه عندما يشاهد فتاة جميلة مثيرة يفكر بأنها قد تكون من الحور العين، وعندئذ يربح الاثنين معا، الثواب والمتعة الخيالية!
وقال ثالث بأن حديث رسول الله، صلي الله عليه وسلم، بأن خير القرون هذا فالذي يليه ثم الذي يليه يعني أن العلماء في هذه القرون لا يخطئون، لذا فإن المسلم المثقف والمتابع ولو كان موسوعيا في عصر تكدس المعرفة غير مسموح له أن ينتقد كاتبا أو عالما عاش في القرون الأولى.
كل الأشياء الأخرى من حقوق المواطن والسجون والمعتقلات وكرامة البشر والمساواة بين الناس وحق التعليم والعلاج والسكن والسفر وغيرها أمور ثانوية لا تستحق حتى أن يشير إليها هؤلاء الشباب.ربما يقول قائل: إنهم يحتاجون إلى النصيحة والتعلم والقدوة الحسنة، لكن تظل المشكلةُ قائمةً وهي أنهم صنعوا عالما مسحورا من مخدر مغيّب. إنهم يكذبون ويصدقون الكذب، ويتعاملون مع الآخر بالسوط كما يتعامل معهم الشرطي والمخبر وربما الوالد في البيت والمدرس والأستاذ في الجامعة وزعيم الدولة وكل الكبار في البيت والشارع وفي أي تجمع.
طلاب الجامعة يقفون موقفا معاديا تماما للكتاب والثقافة والتسامح ويدافعون عن قضايا صغيرة، وينهمكون في صناعة الخصومات، ولا يصدقون أن للكتاب قيمة.من المسؤول عن تعميم ثقافة الجهل بين أبنائنا، بل واعتبارها أم الثقافات في عالم يعيش فيه المسلمون تحت خط الذل والمهانة والتخلف؟

اجمالي القراءات 10917