ستار جبار: ننتظر الفتاوى التي تعترف بنا كما اعترف بنا القرآن
الشيخ الحلو تسلم أمر الطائفة قبل ثلاثة أعوام من الغزو الأميركي، الذي أطاح بمؤسسات الدولة العراقية عن بكرة أبيها.
العرب زيد بن رفاعة [نُشر في 2017/02/19، العدد: 10548، ص(9)]
ريشما المندائيين رئيس دين عراقي يواجه خطر الانقراض
لندن - ليس هناك أصعب، بين الأديان كافة، مِن ولادة رجل دين أو كاهن في الدِّيانة الصَّابئية المندائية، لأن الشروط عسيرة على الإنسان، من حرمان النوم والحذر من الوقوع في الخطأ، إلى توافر عدد محدد وبدرجات معينة من رجال الدِّين المندائيين ليجوز له القيام بهمة رسامة الكاهن.
الشَّيخ ستار جبار الحلو مرَّ بعدة درجات، وخضع لظروف قاسية، قبل نيله درجة ريشما (لفظة مندائية أو آرامية شرقية) ومعناه بالعربية رئيس الأمة المندائية، والدرجات الدينية لدى الديانة المندائية، مِن الأقل إلى الأكبر هي: حلالي، وترميدا، وكنزبرا، وريشما، ورباني، أما الدرجة الأخيرة فخاصة بشخص يوحنا المعمدان، أو يهيا يهانة، أي النبي يحيى بن زكريا، والاسم العربي ليوحنا جاء مِن اسمه المندائي، أي محيي الأمة.
حسب الاعتقاد الصابئي المندائي فإن الأمة المندائية انحسرت عدة مرات، وآخر مرة أحياها يهيا يهانة، وله كتاب ديني تحت عنوان “دراشة يهيا”، أي أحاديث يحيى.
الأمة الصابئية المندائية
من صفات صاحب درجة الرباني أن يُرفع إلى السماء بجسده، ليس كبقية البشر، وهذا لا يكون، حسب الاعتقاد الديني المندائي، إلا لهذه الشخصية، قريب السيد المسيح، وهو الذي عمّده أو صبغه في مياه نهر الأردن، حسب المشهور.
ستار جبار الحلو ولد على شواطئ دجلة في محافظة ميسان، مدينة الكحلاء في العام 1956، وأكمل دراسته الابتدائية والثانوية ثم دخل في المعهد الزراعي، والتحق بالخدمة العسكرية لنحو عشر سنوات.
كان يميل إلى التعليم الديني واللغة الآرامية التي كُتب بها الكتاب المقدس المندائي “الكنزاربا”، وبعد التعليم الديني رُسم كاهناً بدرجة ترميدا، وبعدها رُسم كاهناً بدرجة كنزبرا، أي مفسر الكتاب المقدس، ثم حصل على أعلى درجة دينية وهي الريشما.
وحين تُرجم الكتاب إلى العربية تشدد ضده كبار رجال الدين المندائيين، بينما كان المطلوب إطلاع الناس على جوهر هذه الديانة، كي لا يبخسوها حقها ويمعنوا في إيذائها، فكانت الموافقة بجهود الشيخ الحلو، الذي طلب أن يُتخذ قرار بجواز الترجمة، وبالمقابل لا يُشرّع ولا يفتى إلا وفق النص الآرامي.
أتباع هذه الطائفة عرضة للمتشددين من الطائفتين الشيعية والسنية. ففي البصرة تعرضت الطائفة إلى فتاوى تكفير وتفسيق، على أنهم السحرة، وهم أتباع هاروت وماروت، وقد جاء ذكرهما في القرآن
إلى جانب ذلك كان الشيخ الحلو فاعلاً في المجلس الروحاني والمدني للطائفية المندائية؛ حتى وصل نائباً لريشما عبدالله النجم، رئيس الطائفة السابق، والذي توفّي في الاغتراب، وقد أصبح الشيخ الحلو رئيساً للطائفة بعد خروج الأول من العراق، بمجلسيها الروحي والدنيوي أو المدني. وبعد أن مارس وظيفة القضاء في المجلس الطائفي الشرعي (1997)، ثم نائباً لرئيس الطائفية (1998) حتى (2000) أصبح رئيساً للطائفة بهذا العمر.
أوّل رؤساء المندائيين في الدولة العراقية الحديثة كان الشيخ دخيل بن عيدان، بعد أن اعترف بالمندائية كطائفة لها حقوق رسمية، وذلك بعد خروج العثمانيين من العراق ودخول الإنكليز، وعن الشيخ دخيل وبقية شيوخ الطائفة أن “رئيس الطائفة لا يأكل إلا ما ذبح وصنع بيديه، ولا يشرب ماءً إلا ما غرفت يداه مِن النَّهر مباشرة، بعد تطهير الآنية بطريقة يصعب تخيّلها، أو من يد مَن يثق بهم دينياً، وكم يكون الأَمر صعب التَّصديق عندما لا يثق رجل الدِّين بطهارة طعام زوجته إذا لم تكن خضعت لطقس ديني خاص. ولم يذق الشَّيخ طعم القهوة والشَّاي، ولا أيّ مشروب آخر بعيد عن فطرة الماء والنَّبات، ويحرّم إيذاء النَّهر والشَّجر، ويفتتح يومه بعبارة «بشميهون أد هيي ربي» (باسم الحي ربي)، ويختمه بعبارة «الحي المزكي». ولو علم أصدقاء الأرض، المحتجون عبر مؤتمرات دولية على إيذائها، بودِّ الشَّيخ دخيل وأسلافه وخلفائه، الفطري لعفوية الماء والتُّراب، لجعلوا ثيابه النُّورية، وعصاه (المركنة)، وحزامه الدِّيني (الزنار) شعاراً لهم”، وردت تلك الكلمات في مقدمة كتاب الديانة المندائية.
ما جرى على رجال الدين القدماء يجري على الشيخ الحلو، فلا يأكل إلى من صنع يده، أو أن زوجته نالت العمودية الخاصة كامرأة دين، ولا يشرب ماء إلى من الأنهر، إنه التصوف والزهد المبالغ فيهما، وأي خلل في هذا النظام يتخلى الشيخ عن درجته، ولا بد من طقوس جديدة كي يعاد له الاعتبار.
تسلم الشيخ الحلو أمر الطائفة قبل ثلاثة أعوام من الغزو الأميركي، الذي أطاح بمؤسسات الدولة العراقية عن بكرة أبيها؛ وبهذا أصبح أتباع هذه الطائفة عرضة للمتشددين من الطائفتين الشيعية والسنية.
ففي البصرة تعرضت الطائفة إلى فتاوى تكفير وتفسيق، على أنهم السحرة، وهم أتباع هاروت وماروت، اللذين جاء ذكرهما في القرآن “وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ” (البقرة: الآية 101).
ستار جبار الحلو الذي يبادر إلى التواصل مع مختلف أديان وطوائف العراق يدير بنفسه آلاف الصابئة المشتتين تحت نجوم السماء من أستراليا إلى أميركا والبلدان الأسكندنافية، فموضوع زعيم الطائفة مشروط أن يكون بالعراق، يعيّنه المجلس الروحاني ثم يوافق عليه رئيس الجمهورية، وقبل ذلك كان الملك.
التقى على إثرها الشيخ ستار برجال الدين المسلمين، والكل يقف معه في الكلام أما الفعل فظل موجها ضد المندائيين، وبما أنهم العدد الأقل، من بين بقية الأديان، فمن خلال الهجرة والقتل والخطف يظهر النقص واضحاً عليهم.
حاول المندائيون، بجهود رئيس الطائفة وأعضاء المجلس الروحاني شرح قضيتهم، كي تصحح الفتاوى التي قيلت في حقهم سابقاً وأخذت تؤيد لاحقاً، فهم لا يعبدون الكواكب، إنما يتوجهون في صلاتهم إلى جهة الشمال حيث النجم القطبي، ومكان الكشطا، أي الحق المتسامي، ويعبدون الواحد الأزلي أو الحي القديم، وأن الحياة خُلقت من نوره، وهو المتعالي في عوالم النور السامي، وهم ضد السحر وضد الكذب وضد السرقة وضد الزنا، وفي تقاليدهم الدينية الكبائر ثلاث: الشرك بالله والقتل والزنا بباكر. فهذه لا تغتفر.
يعتقد الصابئة المندائيون أن ديانتهم عراقية الأصل، في الجنوب، حيث دلتا دجلة والفرات، وحسب التاريخ الإسلامي فإنهم كانوا هناك وسمّاهم بعض المؤرخين القدماء بالمغتسلة، وأتى هذا الاسم من رؤيتهم وهم يمارسون طقوسهم في نهيرات الأهوار، ومعلوم أن طقوسهم في الزواج والتعميد تقوم على استخدام الماء الحي، والعماد لديهم يبدأ من سن الطفل ثلاثين يوماً، ففي هذا التعميد ينتمي إلى الأمة المندائية، ثم يأتي تعميد الكبار بعد ذلك، ولديهم تعميد يومي يسمّى الرشامة، يشبه الوضوء لدى المسلمين. يلبسون في عبادتهم الثياب البيض، علامة النور، وتسمى بالرستا، وهي خمس قطع، يلبسها الرجال والنساء، كل حسب جنسه.
الكنزاربا
يتألف كتابهم الكنزاربا من قسمين: اليمين واليسار، يختص اليمين بصفات الخالق والملائكة وتعاليم آدم وخلقه وبث الروح (نشمة) في جسده، بعد أن خلقه الله من الطين، وينزل الروح له هيبل زيوا، رسول النور، وهو بمثابة جبرائيل لدى الأديان الأخرى، يأخذ هذا الكائن النوراني مهمة القضاء على الروهة، كائن الظلام، وأن آدم لديهم آدمان، أحدهما آدم المعروف والآخر شبيهه في العوالم العليا، وهم بهذا لا يعتقدون أن أبناء آدم تزوّجوا أخواتهم وإنما صار الزواج بين أبناء الآدمين (غضبان الرومي، الصابئة)، كذلك فإن حواء لم تخلق من ضلع آدم وإنما من الطينة نفسها. أما قسم اليسار من الكنزاربا فيختص بما بعد الحياة والأدعية. كل إنسان صابئي له شبيه في العوالم، والمتوفى تذهب روحه إلى شبيه، ولهم دعاء في ذلك، ولا ندري ما صلة ذلك بنظرية المثل أو النماذج الأفلاطونية.
يشكو جبار ستار الحلو من التهميش، ويقول في لقاء تلفزيوني معه “نحن لم نحصد غير التهميش”، ويفصح بالفزع على ديانة قومه، ديانة عمرها دهر دهير لم تفارق العراق، وصبرت على إساءات المحيطين بها، مع أن فائدتها للمجتمع لا تثمّن بثمن، فهم في المدن صاغة وفي الأرياف يصنعون وسائل الإنتاج الضرورية للحياة.
يدير بنفسه آلاف الصابئة المشتتين تحت نجوم السماء من أستراليا إلى أميركا والبلدان الأسكندنافية، فموضوع زعيم الطائفة مشروط أن يكون بالعراق، يعينه المجلس الروحاني ثم يوافق عليه رئيس الجمهورية، وقبل ذلك كان الملك.
جبار ستار الحلو يشكو من التهميش
مبادرات الريشما في الحوار
أصدر الصابئة المندائيون بُعيد العام 2003 كراساً تحت عنوان “الصابئة المندائيون عند فقهاء ومؤرخي المسلمين”، وهو لباحث عراقي مسلم، كي يؤكدوا قربهم من بقية الديانات، ولما صدر كتابهم الكنزاربا بالعربية في العام 2001 حمله الشيخ الحلو لرئيس الجمهورية في وقتها صدام حسين، واستقبلهم بحفاوة، ولما طلب من الرئيس أن يتخذ قرارا في تغيير أمر الأولاد في حالة إسلام أحد الأبوين أن يكونوا على دين المسلم منهما، أحجم الرئيس عن الجواب وبعد إعادة الطلب من الشيخ، قال إن الأولاد سيكونون مخيرين في ديانتهم إذا بلغوا الثامنة عشرة، فأحجم الشيخ عن المراجعة في الحديث.
يقول ريشما ستار عن زيارته للمرجع الديني آية الله علي السيستاني طالباً إصدار فتوى لتأييد توحيدهم، كي يخفف عنهم الضغط بالتكفير والتجهيل “خاض السيستاني معنا جدالاً حول توحيدنا وما نؤمن به، فقال لي ‘أنتم تقولون إن لدينا صحف آدم فمن يقول إن هذه الصحف بقيت على حالها دون تغيير وتحريف؟’، فأجبته ‘إن آخر أنبيائنا يحيى بن زكريا (مبارك اسمه)، وهو من مسك ديننا بقوة وذكر ذلك في القران الكريم: ‘يا يحيى خذ الكتاب بقوة’. فأنتم آمنتم بما جاء به عيسى بن مريم فلماذا لا تؤمنون بما جاء به يحيى وهم في نفس الفترة الزمنية؟”
يضيف الشيخ الحلو “لقد أفتى بوحدانيتنا السيد الخوئي والسيد السبزواري، والسيد الحائري، والسيد الخامنئي، فاطلب من جنابكم فتوى على ضوء ما جاء بكتابنا المقدس، وأنا أهديته لكم عام 2001، وكذلك تعاليم يحيى بن زكريا ونحن مستعدون لإيضاح أيّ مسألة شرعية أو تفسير نص، سواء نأتيكم إلى النجف، أو إلى أيّ من مكاتبكم في بغداد. فأجابني ‘أرجوك، لا تحرجني’، عندها دخل ابنه وقال لأبيه بأن ضيوفا مهمُّين ينتظرون بالباب، وكنا نتأمل أن نخرج بنتيجة أكثر من قوله أنتم أخوتنا وأهلنا ولن نسمح لأحد بإيذائكم”.
يقول بعض شيوخ الطائفة إن الكتاب الذي طلب الله من يحيى أخذه بقوة هو الكنزاربا لا غيره “يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (مريم: 12-15)، وخطأً يعتبر مؤرخو المسلمين بأن كتاب الصابئة المندائيين هو “الزبور”، وهذا دليل الجهل، فالزبور مزامير داوود محسوب لليهودية.
إن انقراض الصابئة المندائية وخلوّ العراق منهم لا يعني إلغاء مئات السنين أو الألوف من السنين من تاريخ هذه البلاد، إنما يعني خلوّها من الماء الحيّ، الماء الذي يعتقد المندائيون أنه نزل من عوالم النُّور، مثلما نزل كتابهم على صدر آدم، ثم يحيى.