55 سجنًا جديدًا منذ 2011: القصة الكاملة لثورة الأنظمة العربية ضد شعوبها

في الخميس ٠٩ - فبراير - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

يحدثُ الآن، بينما تقرأُ تلك السطور ـ على الأرجح ـ أنّ هناك جلادًا عربيًا غليظَ الشارب، أصمَ اليدين قد ارتمى بسياطه العنيفة على أجسادٍ خاويةٍ – إلا من أرواحها- وقد أنهكها الجوع والعطش، وأرقدها التعذيبُ المبرح بلا حراك في ذلك القبو المظلم الذي بحثتْ عنه الشمسُ دون جدوى، البعضُ منهم ممنوعون من الزيارة، والبعضُ الآخر مختطفون دون محاكمات في سجون سرية تحت الأرض، أو في الصحراوات الممتدة؛ لا أحد يعلم كم أمضوا من الدهر وهم يقتاتون ذلك الخُبز المُتعفن، ويلهثون وراء الماء الراكد؛ كثيرٌ منهم قُتل أو انتحر، ومن بقى منهم قاتل كي يكتب حرفًا ثقيلًا من القصة.

اقتل أعداءك بهدوء

«أنا سجين سابق في سجن صيدنايا، أنتمي للتيار الإسلامي، وأعتذر عن عدم الإفصاح عن هويتي لأسباب أمنية»؛ ذلك كان أول سطر يخرج قبل عام في تحقيقات تلفزيونية عن القصة الحقيقية لأسوأ سجون سوريا الذي فتح الباب مرة أخرى لإعادة النظر في أوضاع أشهر السجون العربية «سيئة السُمعة»، والتي تتشابه مع «صيدنايا» كثيرًا؛ لكن الفرق أن السجن السوري حظي بتقرير موّثق من «منظمة العفو الدولية» أجرته منذ عام 2015، وانتهت منه بنتائج صادمة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

وقالت المنظمة: إن النظام السوري قام بإعدام  نحو 13 ألف معتقل بسجن صيدنايا، بين عامي 2011 و2015، واتهم التقرير الذي حمل عنوان «مسلخ بشري: شنق جماعي وإبادة في سجن صيدنايا»، الرئيس السوري بشار الأسد بانتهاج «سياسة الإبادة» والإعدام خارج إطار القضاء للمعارضين.

وأضافت أن الحكومة تتعمد خلق ظروف غير إنسانية للمحتجزين في ذلك السجن السيئ؛ وذلك عن طريق اللجوء بشكل متكرر إلى تعذيبهم وحرمانهم من الحصول على الطعام والماء والدواء والرعاية الطبية.

واستند التقرير إلى تحقيقات استقصائية، إضافة إلى إجراء مقابلات حية مع 84 شاهدًا بينهم محتجزون سابقون في سجن صيدنايا، وحراس وموظفون، وقضاة ومحامون، علاوة على خبراء ومحليين دوليين في شؤون الاحتجاز في سوريا.

وأوضح الشهود أنه يتم يوميًا أخذ مجموعة لا تقل عن 50 من النزلاء إلى خارج الزنزانات، ويُضربون ثم يُشنقون في منتصف الليل.

وقال أحد الشهود «خلال هذه العملية، كان السجناء يُساقون معصوبي العينين، وهم لا يعرفون كيف ومتى تكون نهايتهم، حتى يلف حبل المشنقة حول رقابهم»، بينما جاءت شهادة أحد القضاة الذين حضروا عمليات الإعدام «كان السجناء يعلقون على المشانق مدة تتراوح بين عشر إلى خمس عشرة دقيقة»، وحكى أحد الشهود أنه «لو وضعت أذنيك على أرضية الزنزانة لسمعت صوت يشبه الغرغرة، وكان الصوت يستمر مدة عشرة دقائق»، مضيفًا «لقد كنا ننام فوق أناس يختنقون حتى الموت، وكان ذلك أمرًا طبيعيًا بالنسبة لي حينها».

فيلم قصير من إنتاج منظمة العفو الدولية

جديرٌ بالذكر أن سجن «صيدنايا» شهد محاولتين للتمرد خلال عام 2008، إحداهما نجح خلالها السجناء في إحكام السيطرة على السجن طيلة تسعة أشهر، وقاموا باحتجاز ما يقرب من 1200 ضابط وجندي كرهينة؛ نتيجة عمليات الانتهاكات التي قادها مديرو السجن آنذاك ضد أغلبية السجناء المنتمين للتيار الإسلامي؛ وحتى تلك اللحظة فما زال آلاف السجناء في ذلك السجن الذي يخضع لرقابة الجيش، ويعتبر أكبر مكان احتجاز في البلاد.

وعلى الرغم من أن تلك الشهادات صعبة في قراءتها، إلا أن الحقائق القادمة عن السجون العربية التي تشبه «صيدنايا» ربما هي الأصعبُ على الإطلاق.

قضبان ذائعة الصيت

قبل أن يُسجل التاريخ أيام الغضب التي لاحقت العام 2011، وقبل أن يثور الطوفان في الميادين، وتقف الشعوب صامدة أمام بطش الرصاص العشوائي، وقنابل الغاز البغيضة، وتحافظ على هتافاتها المنتظمة تحت أقدام رجال الشرطة؛ كان هناك عشرات الآلاف من المنسيين في السجون العربية الذين تمردوا وسخطوا على أوضاعهم؛ لكن أحدًا لم يكن يجرؤ ليكتب عنهم في أحيان كثيرة؛ الكل كان يعرف أن تهمتهم الوحيدة هي أنهم تلفظوا بذكر «الملك»، أو اعترضوا على سياسات الحاكم.

في الواقع، الربيع العربي لم يغير من الأوضاع شيئًا، إلا بمزيد من النزلاء الجُدد على الأرجح!

وأكبر توثيق لجرائم انتهاك حقوق الإنسان ظهر في كل بلد عربي به سجن ذائع الصيت؛ فانتفاضات التمرد التي قادها السجناء ضد الجلادين في سجن «رومية» بلبنان، هي نفسها التي كانت في سجني «طرة» و«العقرب» بمصر، وإن كانت أقل عنفًا من سجني «تدمر» و«صيدنايا» في سوريا.

ولم تكن شراسة التعامل في سجن «جويدة» الأردني بأقل مما يحدث في سجون «صعداء» اليمني، و«أبو سليم» الليبي، و«القنيطرة» المغربي و«الحائر» السعودي و«رزين» الإماراتي و«كوبر» السوداني و«برج الرومي» التونسي، ولا يمكن هنا نسيان «السجن العسكري» الجزائري؛ وفي نظر البعض، فإن كل الشعوب العربية على السواء تشهد في الظلام نوعًا من «الهولوكوست» المسكوت عنه.

 

خلال الخمسة أعوام الماضية أنفقت الحكومات العربية ملايين الدولارات، وشرعت معظمها في بناء نحو 55 سجنًا جديدًا، بقدرات استيعاب قُدرت بعشرات الآلاف من المساجين، إضافة إلى السجون السرية التي وثقتها تقارير الأمم المتحدة، بحق المدنيين الذين يواجهون اختفاءًا قسريًا من قبل حكوماتهم، ويتم سجنهم في أماكن غير مُعلنة.

تصدرت مصر قائمة أعلى بلدان الدول العربية بناءًا للسجون؛ فبعد عزل الرئيس «محمد مرسي»، أصدر الرئيس السيسي تسعة قرارات رئاسية تقتضي بإنشاء 16 سجنًا جديدًا، بينهما اثنان يتسعان لثلاثين ألف سجيًنا، وتم افتتاح بعضها رسميًا، وأخرى لا تزال تحت الإنشاء.

بذلك ترتفع عدد السجون المصرية إلى 52 سجنًا، وتهدف تلك السياسية إلى وضع سجن مركزي رئيس في 25 محافظة مصرية، إلى جانب معسكرات الأمن المركزي، والشرطة العسكرية التي تضم معتقلات صغيرة.

تأتي الجزائر في المرتبة الثانية، وبحسب مدير عام إدارة السجون الجزائري، فإن الدولة بدأت بالشروع في بناء 15 سجنًا جديدًا خلال العام الماضي؛ وفسر قائلًا «من أجل غلق السجون القديمة»؛ وتبلغ الطاقة الاستيعابية للسجون بنحو 300 إلى 1000  نزيل للسجن الواحد، ويبلغ عدد الذين يمضون فترات عقوبية نحو 60 ألف طبقًا للتصريحات الرسمية.

المغرب أيضًا رصدت مبلغ 41 مليار درهم، حوالي 20.5 مليار دولار؛ من أجل بناء 15 سجنًا جديدًا سيتم إضافتهم إلى 13 آخرين، وبررت الحكومة عمليات البناء، بأن التكدس في السجون القديمة بلغ 300% من الطاقة الاستيعابية للبنايات القديمة.

وجاءت تونس ضمن الترتيب، على الرغم من أنها الدولة التي أشعلت الربيع العربي، وقررت الحكومة بناء ثلاثة سجون جديدة، فيما تواجه انتقادات شديدة بانتهاك حقوق الإنسان ضد 22 ألفًا هم عدد السجناء التونسيين، إضافة إلى بضعة آلاف آخرين يقبعون في السجن دون محاكمات، ولا تختلف السجون التونسية عن بقية الدول في تكدس أعداد سجونها.

لبنان أيضًا لم تكتفِ بـ«رومية» أبشع سجونها شهرة، وقررت بناء ثلاثة سجون جُدد، إلا أن القرار مازال ينتظر تصديق الموازنة العامة؛ وبحسب وزير العدل، فإن القرار جاء من أجل تخفيف التكدس، مبررًا «حتى تستطيع القوات الأمنية السيطرة على ما يحدث داخل السجون».

وبعدما شهدت البحرين هجومًا مسلحًا أوائل الشهر الماضي على إحدى سجونها «جو»، أسفر عن هروب عشرة من المحكوم عليهم في قضايا إرهابية، قررت الحكومة بناء سجن جديد خاص بالجرائم الإرهابية، إضافة إلى تزويده بأجهزة مراقبة متطورة؛ وقد شهد «جو» في مارس (آذار) الماضي، انتهاكات أدت لفتح تحقيقات لم تسفر عن نتائج إلى الآن.

وبحسب الشهادات، فإنه تم إيقاف المعتقلين في سجن «جو» على شكل طابور طويل، ثم أخذت الشرطة تضربهم بالهراوات، إضافة إلى إجبار بعض المعتقلين على لعق أحذية رجال الضباط، ويضم السجن العدد الأكبر من السجناء السياسيين.

وقامت اليمن بمباحثات مع الولايات المتحدة في عام 2013؛ من أجل بناء سجن جديد خاص بمعتقلي «جوانتنامو» اليمنيين، وكانت وزارة الدفاع الأمريكية أرسلت عددًا من سجناء غوانتنامو إلى السعودية والإمارات وسلطنة عمان؛ فيما اعترض قائد الحوثيين على بناء السجن، معتبرًا أن تلك الخطوة خطر على اليمن الذي يشهد صراعات؛ وجدير بالذكر أنه تم ترحيل 15 معتقلًا إلى الإمارات، وعشرة إلى عمان، وتسعة إلى سجون السعودية، في خطوات أخيرة قام بها الرئيس السابق «باراك أوباما» قبل الأسابيع الأخيرة من نهاية رئاسته، ورحبت بها الأمم المتحدة.

لم تكن الأنظمة العربية التقليدية وحدها صاحبة دور البطولة الوحيد فيما يخص السجون، فـ«تنظيم الدولة الإسلامية» (داعش)، قرر بناء سجن في مدينة سرت الليبية، وبحسب شهود عيان، فإن السجن يتسع لأكثر من أربعمئة معتقل، ويديره تونسي من أبرز قيادات التنظيم، كما أحاطه التنظيم بحراسة مُشددة.

ووفقًا للتقارير الدولية المُعلنة، فإن البلاد التي شهدت ثورات عربية هي أكثر الأنظمة التي يتعرض سجنائها لسلسلة وحشية من الانتهاكات والتعذيب البدني والنفسي، بحق الرجال والنساء على السواء؛ إضافة إلى السجون السرية التي يُحتجز بها المعارضون السياسيون خارج إطار القانون.

وتلجأ الحكومات القمعية إلى الإخفاء القسري، والقتل بدون محاكامات؛ حتى لا تضع نفسها تحت ضغوط دولية بشأن تزايد أعداد أفراد المعارضة لديها في السجون، وعلى الرغم من أنه يمكن توثيق حالات الاختطاف، إلا أنه من الصعب تحديد أماكن السجون السرية، وكشف الراصد الليبي عن أماكن 71 سجنًا سريًا تستخدمهم «الميليشيات» المسلحة، لكن الأعداد غير موثقة، كما أنه لا يمكن التأكد بشأنها.

 الرُبع المنسي

 

«الرُبع المنسي» بسجن برج العرب في مصر، هو اسم حقيقي لأحد أسوأ العنابر وحشية في السجون المصرية بحسب شهادات (ع.م) لـ«ساسة بوست»، وجدير بالذكر هنا أنه خلال السنوات الأخيرة تعرض 40 ألف شخص للاعتقال في مصر منذ عزل الرئيس محمد مرسي وفقًا لمنظمة «العدل الدولية».

يبدأ الشاب العشريني حديثه «استقبلوني بالضرب على رأسي وظهري، ثم اقتادوني زحفًا إلى غرفة مظلمة وضيقة جدًا لم أخرج منها طوال 15 يومًا»، موضحًا سبب التسمية بأنه لا تصل إليه الخدمات، والطعام فاسد، كما أن أصحابه ممنوعون من الزيارة، ومعظمهم من التيار الإسلامي من أصحاب القضايا الكبيرة، إضافة إلى حفلات التعذيب التي يتعرضون لها يوميًا.

التعذيب في سجن العقرب

وإلى تونس، فالأوضاع لم تتغير كثيرًا بعد الثورة. وثقت سجينة تونسية سابقة في عهد «زين العابدين بن علي»، وهي إحدى ضحايا الاستبداد، وتُدعى «محرزية بن عابد»، شهادتها أمام المحكمة، واختارت التحدث بشجاعة عن الضباط الذين تسببوا في إجهاضها والتحرش بها وتعذيبها في وزارة الداخلية؛ بسبب رفضها نزع الحجاب، وانتمائها السياسي إلى «حركة النهضة الإسلامية» ضد حكم نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وهى شهادة مازالت تتكرر في الواقع بعد الثورة، وفق بعض الشهادات.

وننتقل مرة ثانية إلى سوريا، حيث يجيب سجان سوري منشق عن أساليب التعذيب، فيقول إنهم  كانوا يستخدمون في بداية الثورة الصعق بالكهرباء والتجويع وصب الماء البارد، ووصف عمليات التعذيب بأنها كانت قاسية جدًا، موضحًا أن التعليمات جاءت للسجان بأخذ المعلومات من المعتقلين بأي طريقة، مثل طريقة «بساط الريح»، والصعق بالكهرباء، والضرب والتجويع، واعترف أنها كانت تتطرقُ أحيانًا إلى القتل.

أما عن الإهانات اللفظية، فمكانها الأشهر في السجون العراقية، حيث يتعرض السجناء من السُنة، لاعتداءات لفظية طائفية، ويتم تعذيبهم باستخدام الآلات الحادة، مثل الأمواس.

وفي سجن رومية اللبناني يوجد نوع آخر من العنف الطائفي وثقته اللجنة السورية لحقوق الإنسان، حيث أكدت أن من أساليب التعذيب التي تستخدمها أجهزة الأمن اللبنانية بحق المعتقلين السوريين السُنة، الضرب بالسوط، والحرمان من النوم حتى وصول المعتقل لحالة الإغماء، ذلك بالإضافة إلى الصفع الشديد على الوجه والبطن والركل بالأرجل، والتهديد بتسليم المعتقل إلى النظام السوري، وشتم المعتقل، وشتم القيم الدينية له.

التعذيب في سجون رومية

وبحسب خبراء سياسيون، فإن الممارسات اللاإنسانية التي تمارسها الأنظمة العربية، من خلال غرف التعذيب، والإهانات المتكررة، إضافة إلى عزل السجناء تمامًا، يجعلهم متقبلين أكثر لرفض فكرة دولة القانون، والاتجاه إلى التفكير المتطرف الذي ينتهج رفع السلاح ضد الدولة.

وعلى الرغم من أن الأنظمة العربية نجحت حتى الآن في استيعاب المعارضة داخل السجون، فإن الممارسات الخاطئة للسلطة قد تؤدي إلى تنامي الخلايا النائمة، التي قد تظهر في صورة اغتيالات سياسة فيما بعد، أو تكرار مسلسل «تنظيم الدولة»، وتجب الإشارة إلى أن معظم قيادات وأعضاء الجماعات الجهادية كانوا جميعًا سجناء سابقين، تعرضوا لما يكفي من التعذيب لكي ينتهجوا ذلك المنهج.

 

اجمالي القراءات 1648