مدرسة المدينة ومدرسة العراق
(5 )المدارس التاريخية الكبرى

آحمد صبحي منصور في الإثنين ١٨ - أغسطس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

مدرسة المدينة
1 ـ أستأثر الاهتمام الإسلامي بهذه المدرسة ، إذ كانت المدينة مهد الإسلام والسابقين من المهاجرين والأنصار والمسرح الذي جرت عليه أحداث المغازي ثم إرسال الفتوحات الراشدة . وكان الرواة من أبناء وأحفاد المهاجرين والأنصار وأبطال ذلك التاريخ الزاهر .
2 ـ ثم انتقلت الأضواء من المدينة للحواضر الإسلامية الجديدة في البصرة والكوفة وبغداد ودمشق في عصر الدولتين الأموية والعباسية وانتقلت المدينة إلى الظل بعد أن ظلت عاصمة للمسلمين طيلة العهد الإسلامي الزاهر. وفي ذلك العهد الذي أقفرت فيه المدينة سياسيا كانت رواية أحداث التاريخ الإسلامي للرسول عليه السلام وعلى الخلفاء الراشدين ، فوجد أبناء المدينة في العناية برواية هذا التاريخ استرجاعا لمجدهم الخالد وإحياء لذكرى إسلامهم ، فكان من الطبيعي أن تكون المدينة أكثر احتفالا بصناعة الحديث ورواية المغازي وتاريخ الخلفاء الراشدين لأنها تؤرخ لمجدها وتاريخها .
3 ـ و قد تطرفت مدرسة المدينة فى صناعة الحديث الى درجة اعتبار (عمل أهل المدينة ) مصدرا تشريعيا كما ظهر فى مذهب مالك ، وبدأت فيها الفجوة بين حديث القرآن الكريم عن اهل المدينة وروايات السيرة فى نفس الموضوع ، فعلى سبيل المثال تم تجاهل عشرات الايات القرآنية التى تهاجم المنافقين ، وعشرات الايات الأخرى التى تنتقد الصحابة ، فلم تقم روايات السيرة بتقديم ايضاحات عن الفجوات التى تركها القرآن الكريم فى حديثه عن الصحابة فى المدينة.ومعروف ان منهج القرآن يقوم على التركيز على العبرة دون اهتمام بذكر أسماء الأشخاص وتحديد الزمان والمكان ليسمو بالحدث التاريخى ويحرره من أسر الزمان والمكان ليصبح عبرة لكل البشر فى كل زمان ومكان . كان منتظرا من روايات السيرة أن تؤرخ لما تركه القرآن لتعطى كل تلك التفصيلات التاريخية حتى يعرف الباحث التاريخى و القارىء من هم اولئك الذين قال الله تعالى عنهم كذا وكذا ، ولكن رواة أهل المدينة تجاهلوا التعليق على كل تلك الايات ، والسبب معروف ؛ فقد كان الرواة أحفاد أولئلك الذين هاجمهم القرآن الكريم وانتقدهم. وللانصاف فان القليل جدا من الروايات خصوصا فيما يعرف بأسباب النزول هى التى ذكرت بعض أسماء المنافقين وبعض أعمالهم ، ولكن تم تجاهل معظم الآيات فى هذا الشأن.

4 ـ ويعزز ما نقول أن كان الرواة الأوائل من أبناء المهاجرين والأنصار – المدنيين مثل ( سعيد بن سعد بن عبادة ) و ( سهل بن أبي حيثمة ) ( سعيد بن المسيب المخزومي ) ( أبان بن عثمان بن عفان ) ( عروة بن الزبير بن العوام ) ثم كان منهم التابعون مثل ( شرحبيل بن سعد ) و ( عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري ) و(القاسم بن محمد بن أبي بكر ) ، ثم أتى بعدهم تابعوهم مثل ( عبد الله بن أبي بكر بن أبي حزم الأنصاري ) ( عاصم بن عمرو بن قتادة ) و ( أبو روح يزيد بن رومان الاسدي ) و( أبو الأسود الاسدي )و ( أبن شهاب الزهري ) .
5 ـ وقد عاش ابن شهاب الزهرى سنوات طلبه للعلم فى المدينة ، التى كانت تعادى الأمويين سياسيا ، وتاجج العداء بانتهاك حرمة المدينة واستباحتها فى موقعة الحرة فى خلافة يزيد بن معاوية ، وظلت المدينة تداوى جراحها وتندب ضحاياها ، وكان أشهر من تعرض لتعذيب الأمويين واضطهادهم أكبر فقيه فيها وهو سعيد بن المسيب ، شيخ الزهرى واستاذه .ولكن الزهرى بعد ان تعلم من استاذه ابن المسيب خرج على إجماع قومه فغادر المدينة ليلحق بخدمة الخلفاء الأمويين فى دمشق وانقطع لهم يعلم أولاد الخلفاء ، ويروى لهم ما يريدون ، وأحيانا كان يروى عن النبى مباشرة أى أنه سمع منه مباشرة مع انه ـ اى الزهرى من تابعى التابعين عاش بين ( 58 : 124 ) ، ولكن صلة الزهرى بالخلفاء الأمويين صنعت له شهرة طاغية ، فادعى كثيرون التتلمذ له ، مع تعذر الاتصال به ، ولكنه طلب الشهرة ..
ومن هنا تكونت لابن شهاب الزهري مدرسة مصنوعة كان من رجالها ( موسى بن عقبة الاسدي ) و ( معمر بن راشد ) و ( أبو معشر السندي ).
6 ـ ولكن أشهر من زعم الانتساب الى مدرسة الزهرى وكتب يروى عنه دون أن يلقاه إثنان أصبحا أهم المؤرخين وأساتذة للعصر العباسى ، وكلاهما سار على سنة ابن شهاب الزهرى ، فكما ترك الزهرى المدينة المعادية للخلفاء الأمويين ولحق بدمشق ليخدم أعداء قومه قام هذان الإثنان بخدمة الخلفاء العباسيين فى وقت علا فيه الخلاف بين المدينة و بغداد خصوصا بعد ثورة ومحنة الهاشميين فى المدينة إثر ثورة وهزيمة محمد النفس الزكية فى عصر الخليفة المنصور، انهما ابن اسحق والواقدى . كلاهما بدأ حياته فى المدينة وسمع منها الروايات التاريخية فى السيرة و المغازى ، ثم لحق ببغداد وكتب من ذاكرته ما أصبح فيما بعد سيرة ابن اسحاق ، والكتب المشهورة للواقدى فى التاريخ. وكلاهما زعم انه روى عن ابن شهاب الزهرى ، وكلاهما لم ير ولم يقابل ولم يسمع ابن شهاب الزهرى .. ثم كان ( ابن سعد ) كاتب الواقدى وخادمه أشهر وأول من كتب فى طبقات الصحابة و التابعين وتابعيهم فى كتابه الأشهر(الطبقات الكبرى ).
وقد تأثر الكثيرون بأعلام مدرسة المدينة في التاريخ والمغازي خصوصا في الشام مثل ( أبن عائذ الدمشقي ) و ( عبد الله النفيلي ) و ( أبي زرعة الدمشقي ) إلى جانب تلامذة أبن أسحق في العراق الذين نقلوا عنه مثل ابن هشام الكلبى فى سيرته .
مدرسة العراق:
1- كان العراق قبل الإسلام مهدا للثقافات اليونانية والفارسية في المنطقة . ثم جاءت الفتوحات العربية الإسلامية بالتيار الثقافي الإسلامي فغطى إلى حين على الثقافات الأجنبية ، ثم أتاحت الدولة العباسية الفرصة للعودة أمام الثقافات فعادت عن طريق الترجمة والاحتكاك بين المدارس اليونانية والفارسية والمدارس الإسلامية .
وبإنشاء مدينتي البصرة والكوفة كانت المراكز الأولي للثقافة الإسلامية العربية في العراق في مواجهة الرها وإنطاكية وجندياسبور أهم مراكز الثقافات الأجنبية .
وكان العراق موطن العصبية القبلية بين القيسية (أهم قبائل عرب الشمال ) وقبائل اليمن القحطانية، كما كان موطن العصبية الجنسية والشعوبية بين العرب والموالى ، ثم كان العراق مركز الفتوحات ومركز المعارضة للدولة الأموية ثم مستقر الدولة العباسية ، وقبل هذا وبعده تلاطمت في العراق أخلاط شتى من القبائل العربية والأنباط والموالى من فرس وهنود وروم وسريان وأرمن وأخلاط شتى من الثقافات ومن الآراء المتعارضة بين شيعة وخوارج ومرجئة وقدرية ومعتزلة .. الخ ..وذلك التنوع الشديد في ظروف العراق الجنسية والثقافية أثر بلا شك على مدرسته التاريخية .
2- وقد بدأ تدوين الروايات الشفهية العربية – ومراكزها في البصرة والكوفة – حيث عرف التدوين في العراق قبل الإسلام ويقال إن ( عبد الله بن رافع ) كاتب ( على بن أبي طالب ) أول مؤرخ مؤلف في مدرسة العراق ، وقد كتب في حروب الجمل وصفين والنهروان ، وأشتهر إلى جانبه بعض الرواة غير الكاتبين مثل ( أبن أبى صالح ) و ( المفضل العتبي ) و ( أبن الأعلم ) . ونسبت لهم الكتب اللاحقة بعض مروياتهم ووصلت إلينا في تاريخ ( الواقدي ) وتاريخ ( الطبرى ) و ( أبن الكلبي ) .
وفي أواسط القرن الثاني ظهر طور جديد يجمع الروايات التاريخية مع الشعر والأدب والحديث والأنساب مثل ( عمرو بن العلاء ) و ( حماد الرواية ) . ومع ميل بعضهم للتخصص أكثر في ناحية من النواحي ألا أن ميادين الجميع كانت متقاربة نظرا لتشابك ظروف العراق وتداخلها .
3- وقد امتازت الروايات التاريخية في مدرسة العراق بالنظرة الكلية، فأصحاب الأنساب يهتمون بمجموع القبائل لا بقبيلة واحدة ، وأصحاب الأخبار يهتمون بأخبار الجميع لا بحادثة فردية أو جماعة خاصة .
كما أن التحزب والشقاق بين الجماعات المتأخرة في العراق كان له أثره في الروايات التاريخية تبعا لنظرة المؤرخ في معتقداته شيعيا كان أو خارجيا أو شعوبيا ، وقد ذكرنا أن الخلاف كان سمة العراقيين وهو خلاف شمل العقائد أو السياسة والفلسفة والأفكار .
وأنسحب هذا على الروايات التي تؤرخ لموضوعات الخلاف مثل سيرة على والأمويين والخوارج والثورات الشعبية والموالى وغير ذلك من النواحي التاريخية التي حدثت في العراق واختلفت بشأنها الآراء .
وقد حرص الأخباريون على تنظيم الروايات واتصالها مع الرجوع للوثائق والرسائل الرسمية وتلك ميزة في هذا العهد المبكر ثم لم يسرفوا في التقيد بالمحدثين في نقد السند والعنعنة والجرح والتعديل .
والتنوع العلمي في العراق ساعد المدرسة التاريخية فيه خصوصا وأن التخصص لم يكتمل بعد فاستفادت المدرسة التاريخية بمجهودات علماء الأنساب واللغة والأدب والشعر، وأمكن ضبط الأحداث عن طريق علم الفلك والنجوم والمواقيت .
4- وقد كان ( الشعبي ) أهم الرواة في المدرسة العراقية .
وهو بن عمرو بن شراحبيل ( 19 – 103 هـ ) يمني الأصل في الموطن ، هرب للمدينة خوفا من المختار الثققى . ثم انضم ( لابن الأشعث ) في خروجه على ( الحجاج ) ، وتولى الكتابة فترة من الوقت ( لقتيبة بن مسلم الباهلي ) .
وأوفده ( عبد الملك بن مروان ) في سفارة خاصة إلى (بيزنطة )( وولاه عمر بن عبد العزيز ) القضاء . ولا ريب أن تقلبه في هذه المناصب قد أفاده غنى في رواياته التاريخية الشفهية.
وقد غلبه الفقه والتفسير ألا أنه روي كثيرا من الإسرائيليات عمن أسلم من أهل الكتاب مع روايته في الأعراب ، وقد كان مغرما بتتبعهم والأخذ عنهم اللغة والغريب والطرائف .
ومؤلفاته قليلة ألا أن الروايات التي نسبت إليه كثيرة في كتب الأدب والتاريخ واللغة .
وبانتقال النقل السياسي والحضاري من المدينة ثم من دمشق للعراق وبغداد أقفرت الشام والمدينة من أعلام التاريخ في هذه الفترة بينما كانت مدرسة العراق تتأهب لريادة المدرسة التاريخية العربية الإسلامية منذ هذه الفترة إلى ما بعدها .. إلى أن انتقلت الراية منها إلى مصر في العصر المملوكي خصوصا في القرن التاسع الهجري ..
فإلى مصر نتجه ونتعرف .

اجمالي القراءات 10083