إن نظرةً فاحصةً للنماذج التي عرضتها في الفصل الثاني من هذا الكتاب لقيم التقدم كفيلةٌ بأن توضح أنه وإن إختلفت ملامح الحضارات الإنسانية (القديمة منها والحديثة) فإن القيم التي أشرت إليها تنتمي للإنسانية أو لمسيرةِ تمدنِ الإنسان على الأرض أكثر من إنتمائها لأية حضارةٍ معينةٍ. فالإنسانُ بجانبِ مسيرات الحضارات له مسيرة تقدم أعلى من تفاصيل الحضارات وهذه المسيرة هي التي شكّلت قيم التقدم وجعلتها أكبر من أن تكون "وليدة حضارة معينة". وبدون الإيمان بأن (الإنسانية) أعلى وأسمى من (أية حضارة) فإننا نكون من جهة مخطئين ومن جهة سائرين على دربِ التعصبِ والعرقيةِ. فمما لا شك فيه أن في كل حضارةٍ إنسانيةٍ تراكماتٍ جاءت من حضاراتٍ أخرى إما معاصرة أو سابقة. وإذا كان بغيرِ وسعِ أحدٍ أن ينفي ذلك "المحصول التراكمي" في مجالات مثل "الرياضيات" وعددٍ آخر من فروع العلوم التطبيقية فعلى أي أساس يمكن رصد هذا المحصول التراكمي على مستوى العقل الإنساني الذي هو مخزن القيم؟ فإذا كنا نسلم بأن في الرياضيات الحديثة أشياء جاءت لنا من اليونان القديمة … وإذا كنا نسلم بأن في الموسيقى الحديثة آثار من أرسطو … وإذا كنا نسلم بأن عائلةً قانونيةً بأكملها هي العائلة اللاتينية – الجيرمانية قد أقامت نظمها على أساس من مدونة جوستينيان الرومانية …وإذا كان عالمُ مصرياتٍ عظيم مثل جيمس هنري بريستيد يرى وجود صلة لا يمكن إنكارها بين أرقى النظم الأخلاقية المعاصرة ومصر القديمة التي سماها بفجر الضمير : فكيف يمكن ألاَّ يرى الإنسان أنه كما أن الثقافات أدنى من الحضارات فإن الحضارات أدني من الإنسانية ؟
ويمكن لدارس الحضارات القديمة والحديثة أن يرى أنها قامت على أُسسٍ من القيم المشار لبعضها في الفصل الثاني من هذا الكتاب وإن كان أيضاً بوسعه أن يرى أن هذه القيم كانت عندما تنتقل من حضارةٍ لأخرى تمر بمراحلٍ من التطوير والرقي تكون من جهةٍ بمثابة مساهمة تلك الحضارةِ في الإنسانية كما تكون أيضاً محطاتٍ رئيسية لتطوير تلك القيم لمداراتٍ أعلى وآفاقٍ أرحب. ولا يتناقض ذلك مع كون مساهمة بعض الحضارات في رقي بعض هذه القيم أكبر من غيرها: فلا شك أن مساهمة الحضارة الغربية في الإرتقاء بقيم العمل هي الأبرز والأوفر نصيباً لاسيما وأَن الثورة الصناعية وما أعقبها من مراحلِ رقي العمل والإنتاج كان هو المناخ الأمثل لتطور ورقي "قيم العمل" – ولكن ذلك لا ينفي أن قيم التقدم بوجه عام وقيم العمل (أو قيم التقدم الإداري بوجهٍ خاص) هي من جهة "إنسانية" ومن جهة أخرى قيمُ أتيح لها في ظل التطورات الكبيرة للحضارة الغربية أن تشهد من درجات الرقي ما قد يُظهرها وكأنها غربيةٌ رغم أنها إنسانيةٌ في المقامِ الأول .
وليس هناك ما يدل على أن هذه القيم "إنسانيةٌ" قبل أن تكون منتمية لحضارةٍ معينةٍ أكثر من كونها وخلال قرنٍ واحدٍ من الزمان هو القرن الأخير قد إنتقلت من مُناخاتٍ غربيةٍ بحتةٍ إلى مناخاتٍ غير غربيةٍ على الإطلاق (مثل اليابان وعشرات الدول في آسيا وأمريكا اللاتينية) وأستقرت وترسّخت ونمت وأعطت ثماراً هائلة لأنها ببساطةٍ شديدة "قيمٌ إنسانيةٌ" وإن كانت في مرحلةٍ معينةٍ قد أخذت دفعةً كبيرةً من الحضارةِ الغربيةِ .