هيئة الامر بالحبس … والنهي عن التفكير
بقلم رباب كمال مضيفة برامج إذاعية وكاتبة مصرية
التاريخ لا يُعيد نفسه بقدرِ ما يطل علينا بين الحين والآخر ليذكرنا بأخطائنا وفداحتها، فالتاريخ يملك نزعة ساخرة وكأنه يُخرج لنا لسانه متشفيًا كلما رفضنا إدراك دروسه واستيعابها واعتبرناها محض المصادفة.. إذا أشحت بوجهك عن دروس التاريخ، سيصفعك ويسدد لك لكمات تفقدك توازنك.
وبمناسبة الحديث عن دروس التاريخ المؤلمة، فإنّ تاريخ مصر مع تيارات الإسلام السياسي كان زاخرًا بالأخطاء اللامعقولة، بدأت منذ عهد الرئيس السادات وموائماته مع هذا التيار، ليحارب المعارضة التي أسماها خوارج العصر، حتى استفحلت في تطورها الطبيعي في عصر الرئيس مبارك، وسعت على إثرها تلك التيارات الدينية للزحف المقدس في النقابات ومؤسسات الدولة والمجالس المحلية والبرلمان، وحين شعر تيار الإسلام السياسي بسطوته وقدرته على تحريك الجموع، بدأ يطمح في المزيد.. وبالأحرى بدأ ينتهك عرض مدنية الدولة الباقية المتبقية.
وزارة الأمر بالمعروف
بلغ قمة طموح تيار الإسلام السياسي في مصر عام 1988 على يد رجل يُدعى الشيخ يوسف البدري (1938– 2014)، هبط الشيخ على البرلمان ليُصبح نائبًا فيه عن دائرة حلوان، ورفع سيف الجهاد في وجه المثقفين الذين يعيثون في الأرضِ فِكرًا وإبداعًا ، وقدم مشروعًا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أسماه “وزارة الحسبة”؛ للعمل على إقامة شرع الله في البلاد.
وأعلن الشيخ عضو مجلس الشؤون الإسلامية التابع لوزارة الأوقاف أنه سيجاهد ضد كل من لا يلتزم بشرائع السموات ويلاحقهم واحدًا تلو الآخر، وتقدم البدري بمشروعه إلى رئيس الوزراء عاطف صدقي حينذاك ورئيس مجلس الشعب الراحل د. رفعت المحجوب، لكنه ظل حبيسًا في أدراج ألبرلمان
كانت اللحظة الفارقة في دعاوى الحِسبة هي لحظة الحكم القضائي بتفريق د.نصر حامد أبو زيد عن زوجته د. ابتهال يونس بدعوى خروح أبو زيد عن ملة الإسلام بسبب مؤلفاته في علم التأويل، وبعدها أعلن البدري قائمة الأسماء التي ينوي ملاحقتها قضائيا، وكان على رأسهم الأديب نجيب محفوظ ويوسف شاهين وغيرهم.
تحركت القيادة السياسية في منتصف التسعينيات، بعدما استشعرت الحرج أمام الرأي العام العالمي، ها هي الدولة المصرية التي تحارب الإرهاب.. وقد حكمت محكمة مدنية فيها.. بتفريق زوج عن زوجته بدعوى أنه كافر ومرتد!! تحركت الدولة ليس لإلغاء قضايا الحسبة وإنما لتنظيمها، فتقدم الرئيس مبارك حينها بمشروع يلغي التقاضي المباشر أمام المحكمة وتم قصر تحريك دعاوى الحسبة من خلال النيابة العامة.
هل تحتاج دولة المحتسب وزارة للحسبة ؟
الإعلام الحكومي بدأ حملات للثناء على تعديل قانون الحسبة عام 1995، تحت شعارات انتصار الفكر الحر وحرية التعبير، في حقيقة الأمر، كل ما حدث هو نقل حق المواطن في رفع قضية حسبة أمام المحكمة إلى سُلطة الدولة متمثلة في النيابة العامة، أي أن التعديل أعطى مزيدًا من السلطة للدولة ولم يصن حرية التعبير. وأشاعت وسائل الإعلام حينها بأن رفض إنشاء وزارة للحسبة يُعد انتصارًا كبيرًا للدولة المدنية، وفي حقيقة الأمر الدولة كانت تقوم بدور المحتسب، فلماذا تحتاج إلى وزارة للحسبة ، وما أشبه الليلة بالبارحة ؟
حقاً وما أشبه الليلة بالبارحة ، فوصلات حبس الكتاب والأدباء أضحت سُبّة في جبين الدولة المدنية، فهذا التعديل القانوني لم يحافظ على حقوق المفكرين والمبدعين، بل جعل سُلطة تمرير أو حفظ البلاغ في يد النيابة، وبخلاف ما يشيعه المثقفون الآن بأن قضايا الحسبة ومحاكمة الفكر والروايات في المحاكم المصرية مخالفة للدستور في مادته رقم 67، فالحقيقة الموجعة هي أن الدستور الحالي حتى لم يحافظ على تلك الحقوق من أساسه، لأن المادة المذكورة تنص على حماية المبدعين وعدم جواز تحريك دعاوى ضدهم، إلا من خلال النيابة العامة. أي أن الدستور لم يُسقط حق النيابة في حفظ القضية أو تمريرها للقضاء.
هل يُدرك القائمون والمتصدرون لسُدّة المشهد السياسي في مصر خطورة الأحكام القضائية التي صدرت في الآونة الأخيرة ضد المفكرين والكتاب أو حتى المواطنين العاديين؟ هل تُدرك الدولة التي دائما ترفع شعار الدفاع عن مدنية الدولة أنها تترك تلك “المدنية” فريسة صريعة لقوانين عفا عليها الزمن، لتحاكم الناس على أفكارهم !! هل استوعبت الدولة أن الحملات الأمنية لا يُمكنها أن تشمع عقول الناس كما تُشمع البنايات والمراكز الحقوقية ؟
قضية أحمد ناجي .. كشفت العوار
حكمت المحكمة بسجن الكاتب أحمد ناجي و تغريم طارق الطاهر، رئيس تحرير جريدة أخبار الأدب 10 آلاف جنيه، بتهمة نشر مواد أدبية تخدش الحياء العام، وتنال من قيم المجتمع. المواد الأدبية المشار إليها وردت في الفصل الخامس من رواية استخدام الحياة.. ومضمونها علاقة جسدية بين شاب مصري وفتاة ألمانية.. كان هذا الحكم بمثابة كشف عوار وانفصام لشخصية الدولة والتيارات المحافظة، والأهم أنه كشف انفصام المثقفين.
أولا:
الدولة المصرية وقعت في شر انفصامها، فهي الدولة التي تؤكد- مثلا – أن رفع الدعم بات أمرًا نافذ المفعول، لأنها لم تعد قادرة على فاتورة الدعم وتحث المواطنين على الاعتماد على أنفسهم وعدم الاتكال على الدولة، وهي ذات الدولة التي تفرض الوصاية على أخلاق المجتمع وتسجن كاتبًا بتهمة خدش الحياء.. فهل تطالب الدولة المواطنين بالنضج في الأزمة الاقتصادية وتعتبرهم “قُصر” من أجل تقويم أخلاقي حين ترغب في سجن الأدباء؟ فلماذا تشتد الحملات الأخلاقية في خضم الأزمات الاقتصادية؟
ثانيًا:
وقع المثقفون في شر الانفصام كذلك، حين شنوا حملات نقد لرواية أحمد ناجي، بعد صدور الحكم ووصفوها بالمبتذلة؛ لأنه كتب فصلا يحوي علاقة جنسية، وفي الحقيقة لست هنا لتقييم النص الأدبيّ، ولا يوجد نص أدبي فوق المساءلة، ولكن المساءلة عنوانها النقد وليس ساحات المحاكم وسجن الكاتب!!
ثالثًا:
لم نسمع الأزهر ولا مجمع البحوث الإسلامية ولا الدولة ولا التيارات الدينية تتحرك لحماية خدش الحياء، حين أصدر عبد الرؤوف عون كتاب “الزواج العرفي حلال حلال”، والذي أورد فيه نصوصًا عن أوضاع الجماع حسب الشرع الإسلامي! الكتاب حصل على حصانة الأزهر ووافق مجمع البحوث الإسلاميةعلى طباعته، شريطة أن يورد الأحاديث الدينية التي تعضده! وبيع من الكتاب مليون نسخة في يوم واحد دون أن يخدش الحياء، لمجرد أن كاتبه يكتب عن الجماع بما لا يخالف الشرع.
لماذا لم يتحرك المجتمع والقانون والدولة للحفاظ على الأخلاق الحميدة وحماية المجتمع من خدش الحياء، ويتم حبس الكاتب الأزهري؟!
وافق مجلس البحوث الإسلامية على هذا الكتاب، لأنه لا يوجد فيه ما يخالف الشريعة الإسلامية، بينما مارس الأزهر مصادرات جمّة على روايات وأدباء بسلطة الظبطية القضائية التي حصل عليها من وزير العدل عام 2004.
ما جاء في رواية استخدام الحياة لأحمد ناجي لا يمثل جناح بعوضة مما كتبه فضيلة الشيخ في كتابه الفذّ، فهل هو حلال للشيخ وحرام على أحمد ناجي ، هكذا أصبحنا وطن الأمر بالحبس والنهي عن التفكير ؟
رأي السيد س . السندي : يبدو أن أنهار العسل واللبن وجبال المن وحور العين التي وعد بها السيسي شعبه قد تم غرقت في مضيق تيران وصنافير ، سلام