<يا أيها الذين آمنوا إذا نُودِي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ اللهِ وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (9) فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون(10)> سورة الجمعة.
أنظر أيضا (سورة المنافقون ـ الآية 9) و(سورة النور ـ الآية 37).
لنتدبر جزءاً من الآية الأولى (رقم 9) فسوف نضع هذه الأسئلة ونجيب عن جزءٍ منها:
1.لماذا “يا أيها الذين آمنوا“ وليس “أيها المؤمنون”؟
2.لماذا “إذا نودي” وليس “إن نودي”؟
3.لماذا “الصلاة من يوم الجمعة“ وليس “صلاة الجمعة“؟
4.ما علاقة خطبة الجمعة بالتركيب “فاسعوا إلى ذكر الله“؟
أولا ـ تدبر الآية
1.النداء في الآية التاسعة من سورة الجمعة لمجموعة {الذين آمنوا} التي تُخَاطَب دائماً في القرءان بهذه الصيغة “يا أيها”. ومجموعة {الذين آمنوا} هي المجموعة الكبرى للذّين يؤمنون أياً كان نوع إيمانهم بالله أو بغيره وتضم داخلها مجموعاتٍ جزئية عديدة مثل مجموعة {المؤمنين} ومجموعة {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وغيرها. وهناك تمايز في القرءان بين المجموعة الكبيرة {الذين آمنوا} التي خوطبت في القرءان دائما بـ”يا أيها” وبين مجموعتها الجزئية {المؤمنون} التي خوطبت مرة وحيدة بـ“أيها“ في الآية 31 من سورة النور . فالذين آمنوا هي المجموعة المقابلة لمجموعة {الذين كفروا} التي تضم داخلها مجموعاتها الجزئية من الكافرين والكُفَّار والكفرة وغيرهم. و{الذين آمنوا} كُتِبَ عليهم القصاص والصيام والقتال بينما الصلاة كِتَابٌ موقوت على {المؤمنين}. ولذلك جاءت الصلاة من يوم الجمعة خطاباً للذين آمنوا لتكون واحدةً من وسائل إرتقائهم ليصبحوا مؤمنين. و{المؤمنون} مجموعة خاصة لا توصف في القرءان إلا بالإيجاب حصراً فهم الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وهم لا يرتابون في إيمانهم بالله ورسوله وغيرها من الصفات الحميدة ومآلهم في جنات عدن حيث الفوز العظيم. ومجموعة المؤمنين تضم أيضاً مجموعات جزئية مترقية داخلها مثل {المؤمنون المفلحون} الذين ذكرت سورة “قد أفلح المؤمنون” الصفات التي يترقُّون بها للفلاح. وهدف القرءان نقل الذين آمنوا ليصبحوا مؤمنين والصلاة من يوم الجمعة أمر للذين آمنوا ليرتقوا درجات في عملية الهدى على الصراط المستقيم حتى تصبح الصلاة كتاباً موقوتاً لهم عندما يدخلوا دائرة المؤمنين وبعدها يمكنهم أن يرتقوا داخل مجموعة المؤمنين.
2. الفعل في القرءان بعد “إذا” مُؤَكَّد الوقوع وهذا ما يشهد به التاريخ إذ أن النداء للصلاة من يوم الجمعة لم ينقطع منذ نزول هذه الآية. والأمثلة في القرءان كثيرة مثل “إذا السماء انفطرت” و”إذا السماء انشقت”. وهذا الفعل الذي يجيئ بعد “إذا” يتمايز عن الفعل الذي يجيء بعد “إن” لأن الأخير إحتمالي الوقوع؛ أي أنه يمكن أن يقع ذلك الحدث الذي يمثله الفعل بعد “إن” أو لا يقع. ومثال ذلك <... قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين> و كما في نهاية الآية 9 من سورة الجمعة <... إن كنتم تعلمون>. وهذا يدل على أن الذين آمنوا لا يعلمون على وجه اليقين الخير في السعي إلى ذكر الله وذَرْوِ البيع إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة.
3. و”الصلاة من يوم الجمعة” وقتها يمتد من الضحى ليدخل في الوقت الثاني (وقت الظهر والعصر) للصلوات الخمسة؛ أي أنه وقتٌ من يوم الجمعة. وقد ظهر رأي في شبكة الإنترنت يقول أن “الصلاة من يوم الجمعة” ليس المقصود بها “صلاة الجمعة” المعروفة لدينا بل هو نداء للصلاة المعروفة من ظهر وعصر ومغرب في يوم الجمعة الذي هو يوم البيع والشراء. ومؤدى ذلك الرأي أن هذا اليوم سُمي أصلاً بيوم الجمعة لأن الناس يجتمعون فيه من أجل البيع والشراء وبالتالي فهم عرضة لإضاعة الصلاة في هذا اليوم المزدحم بالأعمال، الأمر الذي استدعى أن يذروا البيع عند سماع النداء للصلاة.
وفات هذا الرأي عدة أمور ـ أولها ـ أن الصلاة الأسبوعية هنا أمر للّذين آمنوا بينما الصلاة اليومية كتاب على المؤمنين الذين أُمِروا بإقامتها والمحافظة عليها. وثانيا ـ فإن الصلاة هنا خوطب بها الذين آمنوا وليس المؤمنين مما يجعلنا أمام صلاة أخرى صفتها أنها من يوم الجمعة حتى يكون وقت النداء لها ممتداً في وقت تجمع الناس للبيع والشراء من بداية الضحى وحتى نهاية العصر؛ فهي تظاهرة أسبوعية يجتمع لها الذين آمنوا سعياً إلى ذكر الله. والأمر الثالث هو محل الخطاب من الواقع حيث أن هناك إجماع جمعي عملي تطبيقي على كيفية صلاة الجمعة. إذ أن الرسول هو الذي حدد لنا كيفية صلاة الجمعة حسب ما أمرنا الله بطاعته في الآية 56 من سورة النور <وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون> إذ أنها الآية الوحيدة التي جاء فيها التركيب (وأطيعوا الرسول) منفرداً وعلينا أن نطيع الرسول في هذه الآية في تعليمه لنا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. وإقامة الصلاة على الحنيفية الإبراهيمية تشمل صلاة الجمعة التي لا يختلف عليها المسلمون منذ أن أقامها النبي الرسول وحتى اليوم.
4. ذكر الله ارتبط في القرءان بالقلوب التي هي أدوات الوعي الصاعد للوحي النازل والسعي لذكر الله يعني أن هؤلاء الذين آمنوا عليهم الإنتباه لسعيهم حركةً في الترقِّي إلى ذكر الله عبر تدبر القرءان العظيم، والأمر ليس سهلاً وعليك فقط ملاحظة أن التركيب هو (إلى ذكر الله) وليس (لذكر الله). ولذلك فالأحسن في خطبة الجمعة أن تكون تدبراً للقرءان في كل مجالات الخلق والأمر؛ أي في أشياء الطبيعة ومعاني الشريعة؛ على منهج القرءان في التشابه والتثاني (كتابا متشابها مثاني). والسعي إلى ذكر الله الذي هو أكبر من الصلاة حركة نحو عالم الأمر (الشريعة) بينما الإبتغاء من فضل الله حركة نحو عالم الخلق (الطبيعة). والإبتغاء من فضل الله وسيلته الإنتشار في الأرض ولكن الأحسن فيه أيضا أن يكون سياجه ذكر الله الكثير حتى يفلح أو لعلّه يفلح. والذكر صفة للقرءان (ص والقرءان ذي الذكر) والصلاة جزء من الذكر ووسيلة له (وأقم الصلاة لذكري) إلا أنه أكبر منها (ولذكر الله أكبر). والذكر يشمل الكتب التي أنزلها الله للرسل قبل القرءان و(أهل الذكر) هم الذين يعلمون هذه الكتب.وورد التركيب (ذِكْر الله) في القرءان 11 مرة والتركيب (ذُكِر الله) 4 مرات والتركيب (ذَكَر الله) مرة واحدة وهذه التراكيب جاءت مرتبطة بالصلاة أو بالقلوب وَجَلاً وإطمئناناً وخَشْيَةً ولِيناً وقَسْوَةً أو بالأموال والأولاد أو بالصد والإنساء عن ذكر الله من طريق الشيطان.
ثانيا ـ خطبة الجمعة
صلاة الجمعة أَمْرٌ للّذين آمنوا من الرجال والنساء بالذهاب إليها
(أ) إذا أقيم النداء لها
(ب) وإذا كانت الخطبة ذكراً لله.
ولذلك فمن الواجب علينا تهيئة المساجد لإستيعاب الرجال والنساء حتى يستجيبوا لأمر الله بالسعي إلى ذكره سبحانه وتعالى. وخطبة الجمعة هي ذكر الله ـ كما أسلفنا ـ الذي أُمرنا بالسعي إليه؛ الأمر الذي يجعل لها أولوية الإحسان بها وإليها حتى تكون درسا أسبوعياً في ذكر الله نَفِيئُ إليه حتى لا يتسلط علينا الشيطان فينسينا ذكر الله. وكما خضع المسجد في شكله للتجديد الذي هو سنة في الإجتماع الإنساني فكذلك يجب أن تخضع خطبة الجمعة التي هي إحدى وظائف المسجد للتجديد في طريقة تقديمها ومحتواها.
1.موضوع خطبة صلاة الجمعة يجب أن يكون إختيارياً يقترحه {الذين آمنوا}، هؤلاء الذين أمروا بالسعي إلى ذكر الله وهم الرجال والنساء. ويمكن أن يكون إختيار موضوع الخطبة بكتابة المصلين لإقتراحاتهم ووضعها في صندوق خاص بها ليتسنّى للّجنة المسؤولة عن ذلك الإطلاع عليها وترتيبها وإيجاد الخطيب المناسب لها. وتكون الموضوعات ذات صلة بالقرءان العظيم إذ أن النبي صلى الله وملائكته عليه كان يخطب من القرءان حتى جاء في الأثر أن إمرأة حفظت سورة ق من تكراره لها. وهذا يدل على أن خطب النبي في صلاة الجمعة كانت القرءان وتدبره رغم أنها لم تصلنا كاملة. وعلى اللجنة المسؤولة أن تجري دراسة تعرف عن طريقها المستوى الثقافي والعلمي للمترددين على المسجد بالتشاور معهم لتضع برنامجاً يفيدهم ويجعلهم يقبلون على صلاة الجمعة لسماع خطبتها من ذكر الله بكل وعي وإنتباه.
2.خطيب الجمعة يكون متغيراً ولا يكون إنساناً واحداً راتباً يكرر فكره مهما كان جيداً على أسماع المصلين كل أسبوع. وكون النبي الكريم كان الخطيب الوحيد ليس حجةً في أن يكون الخطيب راتباً نسمعه كل العام أو كل الأعوام، إذ أنه صلى الله وملائكته عليه كان نبياً ورسولاً يشرف على مرحلة الأسلمة الأولى لذلك المجتمع الأول حتى نقتدي به في منهج الخطبة وهو ذكر الله وليس غير. ولذلك الأحسن لنا أن نستمع في كل أسبوع لصوت جديد. ومن الأفضل أن تعلن اللجنة المسؤولة عن ذلك الصوت الجديد وعن موضوع الخطبة القادمة قبل مدة كافية من الجمعة القادمة. وبذلك فسوف يصبح الموضوع المعلن عنه للجمعة القادمة متاحاً للنقاش وقد يغري البعض بالقراءة فيه إنتظاراً للخطبة حتى يتم فهم الموضوع فهماً سليماً والاستزادة فيه من إمامنا المتخصص أو الملم بموضوعه.
3.تدريبب الأئمة على كيفية الخطابة حسب وسائل التدريب المعاصرة التي تراعي العلوم السلوكية والنفسية والإجتماعية. وهذا التدريب ليس صعباً فمن الممكن أن يتم لمجموعة من أهل المسجد من تخصصات مختلفة لهم نظرات في تدبر الذكر الحكيم ويكون هذا التدريب في كيفية النظر للقرءان العظيم ليستخرج المتدرب منه موضوعاً متماسكاً يكون مفيداً للمصلين وكيفية ربطه مع راهن المصلين خاصة إذا كانت هذه رغبتهم. وإختيار الأسلوب وتجويد الطرائق الخطابية مهم أيضاً في التدريب. ولا داعي للزعيق ونهر المصلين وكأنهم قصّر أبوهم جاهل لا يعرف كيف يتعامل معهم.
4.وعلى الخطيب أن يعدّ موضوعَه جيداً وأن يستعين بكل وسيلة تسهل له موضوع الخطبة وتجعل المصلين يركّزون معه ويستفيدون مثل برامج الحاسوب (PowerPoint) وآلات العرض الحديثة (Beamer / Projector). وهذا يساهم في إنهاء عشوائية الإرتجال التي من عيوبها الإنتقال بين نقاط كثيرة ومتباعدة وعدم التركيز في موضوع الخطبة وتفصيله حسب مستوى المصلين.
5.من الأفضل أن تكون الخطبة متوسطة الطول متفقاً على بداية توقيتها ونهايته ليتمكن المصلون من ضبط توقيت جداول أعمالهم حتى يكون إنتشارهم في الأرض بعد الصلاة ضمن التخطيط الذي يقودهم إلى الإبتغاء من فضل الله. ويمكن أن تحدّد اللجنة المسؤولة جلسة أخرى يوم الجمعة أو السبت مثلاً لتوسيع موضوع خطبة الجمعة ونقاشه بالنقد أو الإضافة وتحديد الموضوع القادم حسب إقتراحات المصلين وإختيار الخطيب الذي يمكنه أن يقوم بالخطبة في الموضوع القادم.
وإذا ارتأينا أن وقت خطبة الجمعة نصف ساعة مثلاً فيمكن لنا أن ننتقل بعد ذلك إلى توزيع المساجد في المدينة أو الحي أو القرية على تواقيت مختلفة من وقت الضحى وحتى قريب العصر والإعلام عن ذلك في الوسائط المتاحة. وقد يكون ذلك بالإتفاق مع مكتب العمل الذي عليه أن يشارك في الضبط التوقيتي للصلاة إذا لم تكن الجمعة إجازة رسمية في البلد المسلم المعني أو كان هناك تجمع مسلمين في بلد غير مسلم حيث لا تصلّي المساجد كلها في وقت واحد ليتسنّى للمصلين إختيار المسجد الذي يناسبهم من حيث توقيت الصلاة وأوقات أعمالهم. والمعروف أن الجمعة ليست أصلاً إجازة دينية بل المطلوب فيها الإنتشار في الأرض والإبتغاء من فضل الله بيد أنه لا غضاضة في إتخاذها إجازة رسمية إذا كان ذلك بإختيار المواطنين.
6.ومن تجربتي في بعض المساجد التي كنت أصلي فيها الجمعة أستطيع أن أذكر بعض المميزات الأيجابية في ثلاثة منها كأمثلة فقط. دكتور عبد الصبور شاهين نجح في أن تكون خطبته في مسجد عمرو ابن العاص ذكراً لله في جزئها الأول حيث كان (يفسر) فيها القرءان بترتيب السور ولكنه كان خطيباً واحداً راتباً والموضوع لم يستشار فيه المصلون وإن كان قريباً من إهتماماتهم. في مسجد مصطفى محمود نجحت اللّجنة المسؤولة في أن تعلن الموضوع لأسبوع أو شهر كامل وأن تختار لكل موضوع من يناسبه من الخطباء ولكن لم أكن أعلم أن الموضوع من إختيار المصلين أم من إختيار اللّجنة التي قد تكون قريبة من اهتمامات المصلين. وهاتان التجربتان كنت شاهداً عليهما في السنوات التسعين من القرن المنصرم؛ ولا أعرف مصيرهما الآن.
والتجربة الثالثة كنت شريكاً فيها في مسجد المركز الإسلامي في ولاية التيرول بالنمسا في السنوات الأولى من قرننا الحالي. نجحت تجربة التيرول في أن يتعدد الخطباء وأن يكونوا من مجتمع المصلين الذين يعرفون الواقع واللغة عكس الخطباء المستوردين. ونجحوا نوعاً ما في أن يطرقوا موضوعاتٍ مختلفة حسب تكوينهم الفكري وقد إلتزم إثنان منهم بالتدبر في القرءان وكانت النتيجة أعلى من جيدة لأن المصلين اهتموا بالخطبة التي موضوعها التدبر . والذي نجحنا فيه كاملاً هو موضوع التوقيت لأن بعض المصلين يأخذون إذناً محدداً من أعمالهم لأجل الصلاة فكان لا بُدَّ من إلتزام توقيت دقيق يتيح لهم التنسيق بين الصلاة وأعمالهم. جلسة الجمعة أو أحيانا السبت كانت من أجمل وأنجح التجارب التي رأيتها من حيث حريّة النقاش وجديّة الموضوعات التي قد يكون التوسّع في موضوع الخطبة السابقة من بينها. ولكننا لم ننجح في استطلاع آراء المصلين وكنَّا عامة من ذوي المستوى العلمي المنخفض ولكن حصل تطور ملحوظ لكثير من المصلين.
المهم أن هناك بعض الإشراقات في تطوير خطبة الجمعة ولكنها تبقى تجديداً جزئياً لا يساهم في عملية الإصلاح المنشودة. والتجديد المنشود في موضوع الخطبة وتأهيل الخطيب ما زال بعيد المنال في ظل عقليتنا الآبائية الراهنة. والله أعلم.