علم الإرادة وعلم الإحاطة وعلم الجمع(بحث في الجبر والاختيار)

شريف هادي في الأربعاء ٠٦ - أغسطس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

(بحث في الجبر والاختيار)
بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله الذي خلق النفوس وسواها ، وألهمها بميزان الحق والعدل فجورها وتقواها ، وسلام على كل رسول بلغته رسالة فأداها ، أما بعد
قال تعالى"واذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها اباءنا والله امرنا بها قل ان الله لا يامر بالفحشاء اتقولون على الله ما لا تعلمون" الأعراف28
مقدمة:
مسألة الجبر والاختيار ، وهل الإنسان مسير أم مخير كانت الشغل الشاغل لإتباع الأديان السماوية ومازالت وليس أدل على ذلك من خطاب البابا ب&ve;نديكيت السادس والذي أحدث ضجة في حينه عندما تكلم عن مناظرة بين مسلم من بلاد فارس والإمبراطور البيزنطي ، وقال خلالها بالحرف الواحد (الفعل الصادر وفق العقل لا يخالف طبيعة الله، أما التعاليم الإسلامية فهي تقرر أن الله متعال بشكل مطلق، وبالتالي فإرادته لا تخضع لتحديدات عقلنا نحن ومقولاته، بما في ذلك مقولة المعقولية) ، ولو أن البابا قرأ للمعتزلة وأفكارهم – والتي سوف نتعرض له – ما قال قولته هذه أو سقط سقطته هذه وهو رجل الدين وعالم اللاهوت ، وإن كانت سقطته ليست بموضوعنا ولكن تطرقنا إليها بالقدر الذي يخدم بحثنا.
والمسلمون كغيرهم من أتباع الديانات وأبناء جلدتهم من بني الإنسان شغلتهم قضية الجبر والاختيار واختلفوا فيها مذاهب شتى ، وسنورد كلام الفرق والطوائف في هذه المسألة وسنحاول الاختصار قدر الاستطاعة بما لا يخل بأهداف البحث ونتائجه ثم نورد بعد ذلك رأينا الخاص والذي نرجوا له أن يكون معبرا عن الفكر القرآني.
يبقى أن نجيب على سؤال: لماذا نحاول إيجاد رأي للفكر القرآني في هذه المسألة؟ .
والإجابة ببساطة أننا كمسلمين حنفاء نؤمن بالقرآن مصدرا وحيدا للتشريع ، وجب علينا إيجاد تراث خاص بنا في جميع القضايا الإسلامية ، لبلورة فكر قرآني يمكن الرجوع إليه لمعرفة رأي القرآنيين في القضايا المختلفة وطريقة تفكيرهم وكيف يستشهدون بالأدلة النقلية وهي بالنسبة لهم كتاب الله وحده ، والذي يؤدي الأخذ به وحده مصدرا ودليلا إلي فض الاشتباك بين العقل والنقل والذي حدث لعدم معقولية النص الذي يعتمد عليه أصحاب التراث وينسبوه لرسول الله عليه السلام رغم مخاصمته للعقل.
وسنبدأ بذكر رأي الفرق الإسلامية المختلفة ثم ندعوا الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا للحق وهو نعم المولى ونعم المصير.
رأي السنة والوهابيين في هذه المسألة:
ويمثلهم رأي الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله والذي أخذناه من موقعه على النت فقال بالحرف الواحد (الإنسان مسير وميسر ومخير، فهو مسير وميسر بحسب ما مضى من قدر الله، فإن الله قدر الأقدار وقضى ما يكون في العالم قبل أن يخلق السماء والأرض بخمسين ألف سنة، قدر كل شيء سبحانه وتعالى، وسبق علمه بكل شيء، كما قال عز وجل: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ[1]، وقال سبحانه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا[2]، وقال عز وجل في كتابه العظيم: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ[3]، فالأمور كلها قد سبق بها علم الله وقضاؤه سبحانه وتعالى، وكل مسير وميسر لما خُلق له، كما قال سبحانه: هو الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ[4]، وقال سبحانه: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى[5]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء)) أخرجه مسلم في صحيحه.
ومن أصول الإيمان الستة: الإيمان بالقدر خيره وشره، فالإنسان ميسر ومسير من هذه الحيثية لما خُلق له على ما مضى من قدر الله، لا يخرج عن قدر الله، كما قال سبحانه: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ[6]، وهو مخير أيضاً من جهة ما أعطاه الله من العقل والإرادة والمشيئة، فكل إنسان له عقل إلا أن يسلب كالمجانين، ولكن الأصل هو العقل، فمن كان عنده العقل فهو مخير يستطيع أن يعمل الخير والشر، قال تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ[7]، وقال جل وعلا: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ[8] فللعباد إرادة، ولهم مشيئة، وهم فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[9]، وقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ[10]، وقال تعالى: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ[11]، فالعبد له فعل وله صنع وله عمل، والله سبحانه هو خالقه وخالق فعله وصنعه وعمله، وقال عز وجل: فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ[12]، وقال سبحانه: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[13] فكل إنسان له مشيئة، وله إرادة، وله عمل، وله صنع، وله اختيار ولهذا كلف، فهو مأمور بطاعة الله ورسوله، وبترك ما نهى الله عنه ورسوله، مأمور بفعل الواجبات، وترك المحرمات، مأمور بأن يعدل مع إخوانه ولا يظلم، فهو مأمور بهذه الأشياء، وله قدرة، وله اختيار، وله إرادة فهو المصلي، وهو الصائم، وهو الزاني، وهو السارق، وهكذا في جميع الأفعال، هو الآكل، وهو الشارب. فهو مسؤول عن جميع هذه الأشياء؛ لأن له اختياراً وله مشيئة، فهو مخير من هذه الحيثية؛ لأن الله أعطاه عقلاً وإرادة ومشيئة وفعلاً، فهو ميسر ومخير، مسير من جهة ما مضى من قدر الله، فعليه أن يراعي القدر فيقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ[14]، إذا أصابه شيء مما يكره، ويقول: قدر الله وما شاء فعل، يتعزى بقدر الله، وعليه أن يجاهد نفسه ويحاسبها بأداء ما أوجب الله، وبترك ما حرم الله، بأداء الأمانة، وبأداء الحقوق، وبالنصح لكل مسلم، فهو ميسر من جهة قدر الله، ومخير من جهة ما أعطاه الله من العقل والمشيئة والإرادة والاختيار، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة ومقعده من النار))، فقال بعض الصحابة رضي الله عنهم: ففيم العمل يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم تلا عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى[15]. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وكلها تدل على ما ذكرنا. والله ولي التوفيق) ... إنتهى
مناقشة الرأي وتقديره
ومن المسالب التي يمكن أن نأخذها على هذا الرأي:
1- أنه جمع للإنسان الجبر والاختيار في آن واحد ، فرغم إيمانه بقدر الله سبحانه وتعالى ، وأن هذه الأقدار في علم الله ومشيئته قبل خلق الخلق بخمسين ألف سنة ، إلا أنه عاد وأعطى الانسان الاختيار في أن يفعل أو لا يفعل أي الاختيار في الطاعة والمعصية ولكن لم يجبنا كيف يمكن فض الاشتباك الحادث بين (رفعت الأقلام وجفت الصحف) وبين إرادة الإنسان في إتيان فعله.
2- هذا من ناحية ومن ناحية أخرى القول بأن إرادة أداء الفعل للإنسان ثم خلق الفعل نفسه من الله يثير مشكلتين أولهما وكأن الله سبحانه ينفذ إرادة مخلوقاته من البشر تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وثانيهما خلق الله لأفعال البشر على ما فيها من شر بما يعني أن الله يخلق الشر تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
3- ثم أن تحديد قدر الله بزمان وهو (خمسين ألف سنة) يجعل علم الله للأقدار حادث – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- بمعنى أنه لم يجب على سؤال هام هل بدأ علم الله بالأقدار حين قدرها قبل خمسين ألف سنة من خلق الخلق أم أن علمه بها لا يحده حد ولا يرتبط بزمان؟ وهو سبحانه الكبير المتعال ،
4- وأخيرا إختياره للفظ (ميسر) والذي أيضا حمله على الجبر والتسيير ، مع أن اللفظ القرآني لا يحمل على الجبر ولكنه يحمل على عكس ذلك تماما ، يحمل على الاختيار ، ولنراجع النص القرآني في قوله تعالى " فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى" [سورة الليل 5 : 10] ، الآيات تتحدث عن فعل الإنسان وهو يتأرجح بين الخير والعطاء والتقوى والتصديق ، وبين البخل والاستغناء والتكذيب ، أما لفظ التيسير فهو مرادف للتسهيل وهو عكس العسر الذي هو مرادف للمشقة في بلوغ الفعل ، ففي الآيات كانت الإرادة كاملة للخير أو للشر من الإنسان ولم يكن من الله إلا تسهيل إرادة الإنسان.
رأي الأشاعرة:
لم يخرج رأي الأشاعرة عن رأي أهل السنة في أن الإنسان يختار أفعاله ثم يكتبها الله عليه ، وقد سبق وناقشنا ذلك في الحديث عن رأي أهل السنة
رأي الجبرية:
الجبرية أو الجهمية هم أتباع جهم بن صفوان وقالوا بأن الإنسان مسير وليس مخير وأنه لا إرادة للإنسان في أفعاله فهو مجبر عليها لأنها قدر الله في الإنسان ، وهو مغلول اليد عن أداء أفعاله والخير والشر كله من عند الله.
مناقشة رأي الجبرية وتقديره
ومن المسالب التي يمكن أن نأخذها على هذا الرأي:
1- نسبة كل الأفعال لله فلماذا يحاسب الإنسان؟ إذا كانت أفعاله بإرادة الله سبحانه وتعالى ، أو كما قال الجبر الأموي في رسالته لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز (فهل وجدت يا عمر حكيما يعيب ما يصنع، أو يصنع ما يعيب، أو يعذب على ما قضى، أو يقضي ما يعذب عليه؟ أم هل وجدت رشيدا يدعو إلى الهدى ثم يضل عنه، أم هل وجدت رحيما يكلف العباد فوق الطاقة ويعذب على الطاعة؟ أم هل وجدت عدلا يحمل الناس على الظلم والتظالم. وهل وجدت صادقا يحمل الناس على الكذب أو التكاذب بينهم؟) [ المرجع بن المرتضى 16]
2- لم يبين لنا هذا الرأي كيف سيتأول مئات الآيات التي تخالف ما توصلوا إليه وبأن الله سبحانه وتعالى سيحاسب الإنسان على أفعاله ، ثم لماذا إذا الجنة والنار؟
3- بقى أن نسوق أيضا أقوال الحسن البصري في الرد عليهم فقال في الرد على عبد الملك بن مروان (فافهم أيها الأمير ما أقوله: فإن ما نهى الله عنه فليس منه، لأنه لا يرضى ما يسخط من العباد، فإنه تعالى يقول : "ولا يرضى لعباده الكفر وأن تشكروا يرضه لكم" (الزمر 7)؛ فلو كان الكفر من قضائه وقدره لرضي ممن عمله"! ثم يضيف قائلا : "والقوم ينازعون في المشيئة، وإنما شاء الله الخير فقال تعالى: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر"البقرة 185) ابن المرتضى82
رأي الشيعة:
لكي نتعرف على رأي الشيعة نسوق ما قاله علي بن موسى الرضا عندما سأله الحسن بن علي الوشاء ، أالله فوض الأمر للعباد؟ فقال له "هو أعز من ذلك" ، فعاد وسأله ، أأجبرهم على المعاصي؟ فقال له "الله أعدل وأحكم من ذلك" ثم ذكره بما عندهم من حديث يسمونه قدسي ينسبونه لله تعالى (يا أبن آدم أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيئاتك مني) وعليه فإن النتيجة بالنسبة لهم أن الإنسان مخير في أفعاله وتصرفاته ولكن هذا التخيير بعلم الله سبحانه وتعالى ، وهو علم مسبق مكتوب في اللوح المحفوظ ، ويقولون أن الله يسبب الحسنات للعبد أما سيئاته فنفسه الأمارة بالسوء هي التي تسببها.
مناقشة رأي الشيعة وتقديره:
ومن المسالب التي يمكن أن نأخذها على هذا الرأي:
1- الاعتماد على الحديث القدسي والمرويات ، وهذا نستهجنه ونرفضه.
2- بساطة الرأي رغم إحتياجه لتأصيل أكثر
3- القول بأن الله يخلق الخير فقط ونفسه الأمارة بالسوء هي التي تخلق الشر يضاهي أقوال المعتزلة وسنأتي في نقضها عند بحث أقوال المعتزلة
رأي المعتزلة:
يقولون بإختيار الإنسان لأفعاله خيرا أو شرا وأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وترك له أمر أفعاله إليه دون تدخل منه ، فالانسان يقرر ما يشاء وليس لله قدرة على منعه – تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا – ووصل الحد ببعضهم أن قالوا إن الله لا يعرف فعل العبد إلا بعد أن يوجد العبد فعله
يقول واصل بن عطاء إمام المعتزلة (إن الباري تعالى حكيم عادل لا يجوز أن يضاف إليه شر ولا ظلم ولا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمر، ويحتم عليهم شيئا ثم يجازيهم عليه. فالعبد هو الفاعل للخير والشر والإيمان والكفر والطاعة والمعصية، وهو المجازَى على فعله، والرب تعالى أقدره على ذلك… ويستحيل أن يخاطب -الله- العبد بـ "افعل" وهو لا يمكنه أن يفعل ولا هو يحس من نفسه الاقتدار والفعل.) [الشهرستاني. الملل والنحل ج1 ص 47]
القاضي عبد الجبار بن أحمد في الأصول الخمسة وأدلتها يقول (يجب التمييزفي الأفعال بين ما يجب أن ينسب إلى إرادة الإنسان واختياره وبين ما يجب أن ينسب إلى الله. والقاعدة في ذلك "أن ننظر في الفاعل ونختبر حاله ، فإن وجدنا الفعل يقع بحسب قصده ودواعيه وينتفي بحسب كراهته وصارفه حكمنا بأنه فعل مخصوص"، أي أنه مخلوق له، وأن الله قد خلق فيه القدرة على فعله. أما إن وجدنا أن الفعل "لا يجوز أن يكون مقدورا للإنسان بالقدرة فيجب أن يكون مقدورا للقادر بذاته وهو الله تعالى". وهكذا فالسكون والحركات على اختلاف أجناسها والاعتمادات (الاهتزازات) على اختلافها والمتولدات كالتأليف والألم والصوت والكلام وكذلك النظر والندم والاعتقادات المبتدأة والظن، كل ذلك يقع بقصد الإنسان ودواعيه وهي مقدورة له بالقدرة التي يُحْدِثُها الله فيه، وبالتالي فهي أفعال له. أما الروائح والطعوم والألوان والحرارة والبرودة.... فهي غير مقدورة للإنسان بمعنى أن الله لم يمنحه القدرة على إحداثها وبالتالي فلا يستطيع فعلها وإنما هي من خلق الله مباشرة) [الأصول الخمسة وأدلتها 325]
ويقول المعتزلة بنظرية العدل الإلاهي فيقولون (أن الله "منزه أن يضاف إليه شر وظلم، وفعل هو كفر ومعصية، لأنه لو خلق الظلم كان ظالماً، كما لو خلق العدل كان عادلاً‏")
كما قالوا بوجوب تنفيذ وعده ووعيده: فـ "المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة‏:‏ استحق الثواب، والعوض والتفضل معنى آخر وراء الثواب (أي زيادة عليه). وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها‏:‏ استحق الخلود في النار لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار‏.‏ وسموا هذا النمط‏:‏ وعدا ووعيداً"‏.‏ كما "اتفقوا على أن أصول المعرفة وشكر النعمة‏ واجبة قبل ورود السمع (قبل سماع دعوة الأنبياء) والحسن والقبح يجب معرفتهما بالعقل، واعتناق الحسن واجتناب القبيح واجب كذلك"‏.‏ أما وُرود التكاليف الشرعية فهي ألطاف للباري تعالى أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء عليهم السلام‏:‏ امتحاناً واختباراً،‏‏ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بينة‏"‏‏) [منقول من بحث للأستاذ / محمد عابد الجابري]
مناقشة رأي المعتزلة وتقديره
ومن المسالب التي يمكن أن نأخذها على هذا الرأي:
1- مخالفة رأي المعتزلة للكثير من الآيات القرآنية ، وعلى سبيل المثال قوله سبحانه وتعالى في سورة طه ( يعلم السر وأخفى) والأخفى هو الذي لم يسر بعد فكيف يقولون بأن علم الله للحوادث حادث بعد فعل الإنسان ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، ثم ماذا يقولون في قوله عالم الغيب والشهادة؟.
2- افترضوا وجود علاقة عكسية بين إرادة الله وإرادة البشر فكلما زاد نطاق إرادة الله قل نطاق إرادة البشر حتى إنعدم وكلما زاد نطاق إرادة البشر قلت إرادة الله – تعالى سبحانه عن ذلك علوا كبيرا – مع أن هذا الافتراض غير موجود إلا في عقولهم لأن الإنسان هو مخلوق لله عز وجل ، فإرادة الخالق تحيط بإرادة المخلوق لقوله تعالى" يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم اذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا" النساء108، ثم أن الخالق هو الذي ييسر للمخلوق أداء فعله لقوله سبحانه وتعالى "" فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى" [سورة الليل 5 : 10]
3- الوصول لنتائج شاذه ومنها خلود المسلم في النار ، ولكن ستكون ناره أقل من نار الكفار ، في قولهم بالمنزلة بين المنزلتين ، ولتمسكهم بالوعد والوعيد على ما فهمته عقولهم ،
4- حكموا بالعقل على النقل فأولوه (النقل طبعا) ، وأظنهم بذلك إتفقوا مع قول الإمبراطور البيزانطي الذي ساقه البابا كرأي للمسيحية.
5- وإن كان رأي المعتزلة في هذا الموضوع – من باب شهادة الحق – هو أقرب الأراء للصواب ، على ما سنتبين بإذن الله سبحانه وتعالى.
وبعد أن تعرضنا لأراء وأقوال الطوائف المختلفة في موضوع (الجبر والإختيار) ثم ناقشنا هذه الأقوال وقدرناها ، وجب علينا أن نعرض لرأينا الشخصي ، ولكن قبل أن نضع رأيا ، نوضح لماذا جعلنا عنوان البحث (علم الإرادة وعلم الإحاطة وعلم الجمع)؟ ، وعلى أي أساس قسمنا علم الله سبحانه وتعالى إلي علم إرادة وعلم إحاطة وعلم جمع؟ وما دخل علم الله في الجبر والاختيار؟
نقول وبالله التوفيق:
علم الله:
قال تعالى" قل ان تخفوا ما في صدوركم او تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الارض والله على كل شيء قدير" آل عمران 29 ، وقال تعالى" وهو الله في السماوات وفي الارض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون" الأنعام3 ، وقال تعالى " وان تجهر بالقول فانه يعلم السر واخفى" طه7
والآيات التي تتكلم عن علم الله كثيرة ، فهو علم مرتبط بذات الله سبحانه وتعالى ، علم ليس له أول ولا منتهى ، علم بما كان وما سيكون وما لم يكن إن كان كيف يكون ، يعلم ما نخفي في صدورنا ويعلم نجوانا ويعلم سرنا وجهرنا وما نكسب ، بل يعلم ما هو أخفى من السر ، والأخفى من السر هو السر قبل أن يسر.
والمطالع لآيات القرآن الكريم لن يجد عناء في معرفة كل هذه المعاني والأ وصاف لعلم الله سبحانه وتعالى وأكثر، ومما لا شك فيه أن اللغة تقف عاجزة عن وصف هذا العلم الذي لا ينبغي أن يكون أو حتى يوصف به غير الحق سبحانه وتعالى.
أقسام علم الله من القرآن:
أولا:علم الإرادة:
بالبحث في كتاب الله سبحانه وتعالى وجدنا أن علم الله سبحانه وتعالى إرتبط في بعض الآيات الكريمة بإرادته سبحانه وتعالى وهنا أصبح علم كوني لا دخل لإرادة أي من مخلوقاته فيه ، وهو سبحانه عز وجل يدبر الأمر ويخلق الخلق ، ويفعل ما يريد بهذا العلم الإرادي الذي لا حدود له ، ومن الملاحظ في القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى عندما يذكر هذا العلم في القرآن يذكره مرتبط بصفته (عليم) ، وعليم على وزن (فعيل) وهي إحدى أوزان صيغ المبالغة ، ولا مبالغة في وصف صفات الله سبحانه عزوجل وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، ولكنها محدودية اللغة أمام عظمة الخالق سبحانه وتعالى ، وكأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يخبرنا أنه عندما يذكر صفته (عليم) على هذا الوزن (فعيل) تكون دليل على إرتباط العلم بالقدرة و الإرادة على الفعل والخلق وسبحانه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وقد ذكر لفظ (عليم) في القرآن مائة وواحد وستين مرة (161) منهم مرتين في وصف إسحاق عليه السلام في قوله تعالى " قالوا لا توجل انا نبشرك بغلام عليم "الحجر53 ، وفي قوله تعالى " فاوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم" الذاريات 28 ، أما في الباقي فكانت صفة لله سبحانة وتعالى ، ونؤكد على أن الفرق بين صفة الخالق وصفة المخلوق هو نفسه الفرق بين ذات الخالق جل وعلا وبين ذات المخلوق ، ونلاحظ أن وصف إسحاق (غلام عليم) إرتبط بدعاء إبراهيم عندما جعله الله سبحانه وتعالى للناس إمام قال (ومن ذريتي) فكانت النبوة في بيت إسحاق إلي أن جاء آخر الرسل عليهم جميعا السلام من بيت إسماعيل ، والنبوة علم إقترنت بالإرادة على العدل والخير ، لقول الله (لا ينال عهدي الظالمين) ، فأصبح وصف إسحاق عليم يتفق على جمع العلم بالنبوة مع الإرادة على العدل والخير.
الإدلة القرآنية على علم الإرادة المرتبط بإسم الله (عليم)
1- قال تعالى" هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوى الى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم" البقرة29 ، فإرتبط هنا اللفظ بفعل الله وحده وإرادته في الخلق دون دخل لأي من مخلوقاته.
2- وقال تعالى" قالوا سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم" البقرة 32 ، وهنا إرتبطت الصفة بإرادة الله في تعليمه للملائكة وفقا لمشيئته وإرادته وحده سبحانه وتعالى
3- وقال تعالى" ولن يتمنوه ابدا بما قدمت ايديهم والله عليم بالظالمين" البقرة95 وهنا إرتبطت بإرادته وقدرته على الحساب
4- وقال تعالى" ولله المشرق والمغرب فاينما تولوا فثم وجه الله ان الله واسع عليم" البقرة115، وهنا إرتبط بقدرة الله وإرادته على كل أركان الكون
5- وقال تعالى" وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" البقرة127 ، وهنا إرتبط علم الله بإرادته على تقبل العمل الصالح لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
6- وقال تعالى" فان امنوا بمثل ما امنتم به فقد اهتدوا وان تولوا فانما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم" البقرة 137، وهنا أرتبط علم الله بإرادته على كف أذى الكفار عن رسوله عليه السلام
7- وقال تعالى " يسالونك ماذا ينفقون قل ما انفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فان الله به عليم" البقرة215 ، وهنا أرتبط العلم بقدرة الله على الجزاء الأوفى لمن يفعل الخير.
8- وقال تعالى "... وان تفعلوا فانه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم" البقرة282 ، وهنا أرتبط علم الله سبحانه وتعالى بإرادته على منح العلم للمتقين.
9- وقال تعالى " هو الذي انزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا ايمانا مع ايمانهم ولله جنود السماوات والارض وكان الله عليما حكيما" الفتح4 ، وهنا أرتبط العلم بإرادته على منح السكينة في قلوب المؤمنين ، وقدرته التي بها يملك جنود السماوات والأرض.
10- وقال تعالى " الم تر ان الله يعلم ما في السماوات وما في الارض ما يكون من نجوى ثلاثة الا هو رابعهم ولا خمسة الا هو سادسهم ولا ادنى من ذلك ولا اكثر الا هو معهم اين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ان الله بكل شيء عليم" المجادلة 7 ، وهنا أرتبط علم الله سبحانه وتعالى بإرادته وقدرته على حساب الناس يوم القيامة محسنهم ومسيئهم.
ونكتفي بهذا القدر من الأدلة القرآنية ، وليرجع القارئ الكريم للقرآن الكريم في حالة رغبته في الإطلاع على باقي الأدلة القرآنية ومدى الصلة الوثيقة والارتباط في صفة الله سبحانه وتعالى (عليم) بين العلم والإرادة له سبحانه.
ثانيا: علم الإحاطة:
وهو ذلك العلم الذي لا ينبغي لغير الله وحده وبه يستغرق علمه سبحانه وتعالى جميع الأحداث والأشخاص من جميع الجوانب ، وهو علم اطلاع رب العالمين على أفعال البشر ، إطلاع لا جهل فيه – تعالى الله علوا كبيرا – يحيط بالحدث من كل زواياه ، علم يليق بذاته سبحانه وتعالى ، فبصره لا يحده حدود ولا يمنعه عائق جل وعلا وسمعه لا تتداخل فيه الأصوات ولا حدود لصفاته وقدرته سبحانه وتعالى.
ولله المثل الأعلى لو شهد شاهد على جريمة قتل فإنه سيحكيها من زاوية رؤيته لها ، أما الله سبحانه وتعالى فلا تحد رؤيته زاوية.
ولذلك فإن أفضل وصف لعلم الإحاطة هو العلم الذي يستغرق الأحداث والأشخاص بالكلية ، ولكن مع إستقراء آيات القرآن الكريم نجد أن هذا العلم لا تتدخل إرادة الله وقدرته لتغيير الأحداث ولكنه يقف عند حد إستيعاب الأحداث ليجزي عليها الجزاء الأوفى.
الأدلة القرآنية على علم الإحاطة المرتبط بإسم الله (المحيط):
1- قال تعالى "او كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون اصابعهم في اذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين“ البقرة 19
2- قال تعالى "ان تمسسكم حسنة تسؤهم وان تصبكم سيئة يفرحوا بها وان تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ان الله بما يعملون محيط" آل عمران120
3- قال تعالى" يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم اذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا" النساء108
4- قال تعالى"ولله ما في السماوات وما في الارض وكان الله بكل شيء محيطا"النساء126
5- قال تعالى"ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط" الأنفال47
6- قال تعالى"قال يا قوم ارهطي اعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا ان ربي بما تعملون محيط" هود 92
7- قال تعالى"الا انهم في مرية من لقاء ربهم الا انه بكل شيء محيط" فصلت 54
8- قال تعالى"والله من ورائهم محيط" البروج 20
والشاهد في هذه الآيات أن الله سبحانه وتعالى محيط بالكافرين يعلم كيف يسوءهم أن تصيب المؤمنين حسنة وكيف يفرحون إذا أصاب المؤمنين سيئة ، وهو سبحانه وتعالى محيط بالناس وبأعمالهم وكيف يفعلون الحرام والسيئات وهم يستخفون من الناس ، وكان أولى بهم أن يستخفون من الله سبحانه وتعالى وهو سبحانه معهم (معية علم وإحاطة) إذ يبيتون ويضمرون ما لا يرضى عنه سبحانه والله سبحانه مالك السماوات والأرض ومحيط بهما ، وبما يعمل الناس الذين يخرجون من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله ، وأولئك الذين يرتكبون فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين فإن الله بما يعملون محيط ، وبالكلية فإن الله سبحانه وتعالى من ورائهم محيط إحاطة علم لا جهل فيه ولا نسيان ولا مراء فيه ولا جدال ، ولكنه علم يقف عند باب رصد أفعال الإنسان ليحاسبه عليها يوم الحساب حتى ولو كانت هذه الأفعال مما لا يرضاها رب العالمين ولا يقبل بها ، ولكنها أفعال البشر التي ستوضع في موازينهم ليحاسبوا عليها.
ثالثا: علم الجمع
وهو ذلك النوع من العلم الذي يجمع الله سبحانه وتعالى فيه بين علم الغيب وعلم الشهادة ، وهو العلم الذي سيحاسب الله عز وجل به الناس يوم القيامة ، وهو الذي يجمع بين علم الأحداث التي حدثت وبين علم الغيب للأحداث التي لم تحدث وسوف تحدث وتلك التي حدثت في أزمنة سحيقة وأماكن بعيدة لا تصلها إلا قدرة رب العالمين وكذلك الغيب الذي لا يعرفه شهود الأحداث إلا رب العالمين ، وهو المتعلق بالنفوس والسرائر.
الأدلة من القرآن على علم الجمع
1- قال تعالى" وهو الذي خلق السماوات والارض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير" الأنعام73
2- وقال تعالى" يعتذرون اليكم اذا رجعتم اليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبانا الله من اخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون الى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون" التوبة94
3- وقال تعالى" وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون الى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون" التوبة 105
4- وقال تعالى" عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال" الرعد9
5- وقال تعالى" وقال الذين كفروا لا تاتينا الساعة قل بلى وربي لتاتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الارض ولا اصغر من ذلك ولا اكبر الا في كتاب مبين" سبأ3
6- وقال تعالى" قل اللهم فاطر السماوات والارض عالم الغيب والشهادة انت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون"الزمر46
7- وقال تعالى" هو الله الذي لا اله الا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم" الحشر22
8- وقال تعالى" قل ان الموت الذي تفرون منه فانه ملاقيكم ثم تردون الى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون" الجمعة8
9- وقال تعالى" عالم الغيب فلا يظهر على غيبه احدا" الجن26
والشاهد من الآيات أن عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال جامع الناس ليوم الحساب يوم ينفخ في الصور وينبأنا سبحانه وتعالى بما كنا نعمل ، وهو سبحانه لا يغيب عن علمه وقدرته مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر فكل شيء مدون في كتاب مبين ، وهو سبحانه لا يظهر على غيبه أحدا.
هو علم الله سبحانه وتعالى الذي إقتضت لطائف رحمته وعزائم مغفرته أن يدخره لحسابنا يوم القيامة ، فتوزن أعمالنا بميزان علم غيبه سبحانه ، فيتحقق عدل الله في بشره مقترنا بموجبات رحمته وواسع مغفرته على ما يعلمه عنا بعلم غيبه وشهادته ولا نعلمه حتى نحن عن أنفسنا ، علم يليق بذاته ولا ينبغي لغيرة ، فهو سبحانه الكبير المتعال ، العزيز الرحيم ، الرحمن الرحيم .
الخلاصة:
نخلص من ذلك أن الله سبحانه وتعالى عالم عليم جمع لنفسه أنواع ثلاثة من علمه سبحانه ، أولها مقترنا بقدرة إرادته وهو العلم الذي وصف به الحق نفسه فقال (عليم) ، وثانيها مقترنا بقدرة إحاطته وهو العلم الذي وصف به الحق نفسه فقال (محيط) ، وثالثها هوعلم مقترن بقدرة عظمته اللانهائية في علم الماضي دون أول والحاضر دون غمة والمستقبل دون آخر علم الغيب الذي أدخره لنفسه والشهادة المقترنه بتنزيهه عن الشريك في الملك والشبيه والصاحبة والولد فسبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وهو العلم الذي سيجمعنا به وينبأنا بأعمالنا ويضع لنا به الموازين الحق يوم القيامة.
الجبر والاختيار
يسأل سائل وما دخل علم الله بالجبر والاختيار؟
فنقول بتوفيق الله بأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان بعلم إرادته فكان مسيرا لا أختيار له في بيئته أو اسرته ، ولا أختيار له في شكله أو صفاته الوراثية أو وظائفه الحيوية ، كما أنه لا دخل له في تعاقب الليل والنهار ولا في جميع الظواهر الكونية التي تحدث برضاه أو رغما عنه لا يهم ، وكل ذلك بإرادة رب العالمين سبحانه وتعالى العليم.
ثم أن الله سبحانه إقتضت إرادته تكليف الإنسان – الذي حمل الأمانه وكان ظلوما جهولا – بعلم إحاطته ، والإنسان يكون مخير في إتيان أفعاله وتأرجحها بين الخير والشر، ولكي نفهم قضية الاختيار في إتيان الإنسان أفعاله نعود للوراء قليلا.
الله جاعل في الأرض خليفة
فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وقال للملائكة (إني جاعل في الأرض خليفة) فردت الملائكة (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) ، فقال لهم رب العالمين (إني أعلم ما لا تعلمون) ، وأعطاهم درس عملي أن علم آدم الأسماء كلها (علم آدم كيف يستخرج الإسم من عين المسمى) ، ثم عرضهم على الملائكة وقال (أنبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتم صاديقين) ، فكان رد الملائكة (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) فقال (يا آدم أنبئهم بأسماءهم)
السؤال الأول: هل الإنسان خليفة الله؟
والإجابة طبعا لا ، لأن وجود الخليفة يستوجب غياب المستخلف ، والدليل من كتاب الله قال تعالى " وواعدنا موسى ثلاثين ليلة واتممناها بعشر فتم ميقات ربه اربعين ليلة وقال موسى لاخيه هارون اخلفني في قومي واصلح ولا تتبع سبيل المفسدين " الأعراف 142 ، فلما غاب موسى إستخلف هارون حتى يعود ، ولكن الله سبحانه وتعالى لا يغيب والدليل في قوله سبحانه وتعالى " الم تر ان الله يعلم ما في السماوات وما في الارض ما يكون من نجوى ثلاثة الا هو رابعهم ولا خمسة الا هو سادسهم ولا ادنى من ذلك ولا اكثر الا هو معهم اين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ان الله بكل شيء عليم" المجادلة 7 ، فالله سبحانه وتعالى لا يغيب بعلمه وقدرته وإرادته ، فأستوجب ذلك أن نفهم أن الاستخلاف لخلق أسبق على البشر ، وقد يكونوا الجن وقد يكونون غيرهم والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني: كيف عرفت الملائكة أن الإنسان سيفسد فيها ويسفك الدماء؟
يقول البعض قياسا على فعل السلف على الأرض والذين خلفهم الإنسان ، ونقول لو أن ذلك كذلك ، فإنه قياس ظالم ، إذ كيف نقيس على ظلم (زيد) أن (عبيد) سيكون ظالم ، ولم نعاين من أفعاله شيئا حتى الآن ، ثم أن الله جعل الإنسان خليفة لمن قبله وذلك لظلم من قبله – على رأي من قال بذلك – فإن كان الخليفة مماثل للمخلوف فلا سبب لإستخلافه.
ثم أن الله تعالى قال على لسان الملائكة (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) عندما سألهم أن يستخلصوا الأسماء من عين المسميات وهي عملية أسهل من القياس على فعل سابق ، إذا فالملائكة لا يقيسون على أفعال سابقة ولا يستنبطون لأنهم يستمدون علمهم مباشرة من الله.
ويبقى السؤال قائم: كيف عرفت الملائكة أن الإنسان سيفسد ويسفك الدماء؟
والإجابة: علموا من الله مباشرة ، فلما رفضنا القول السابق بأن الملائكة قاست على فعل الأولين ، نظرنا وتدبرنا في كتاب الله الفعل (جعل) فوجدنا أن باب هذا الفعل أوسع بكثير من باب الفعل (خلق) ، لأن الله عندما ذكر الفعل جعل في القرآن يتبعه اسم فإنه يذكر لنا من صفات هذا الإسم ، وعلى سبيل المثال:
1- قوله تعالى"الحمد لله فاطر السماوات والارض جاعل الملائكة رسلا اولي اجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء ان الله على كل شيء قدير"فاطر 1 ، قوله تعالى جاعل الملائكة تبعها بأنهم رسل وأن هذه الرسل أولي أجنحة.
2- وقوله تعالى"واذ جعلنا البيت مثابة للناس وامنا واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى وعهدنا الى ابراهيم واسماعيل ان طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود" البقرة 125 ، وهنا وصف الله البيت بأنه مثابة للناس وأمنا وأمرنا بأن نتخذ من مقام إبراهيم مصلى.
3- وقوله تعالى"وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا... الآية" البقرة 143 ، وقد جعلنا الله أمة وسطا صفتنا الأساسية أن نكون شهداء على الناس ، ولكنها شهادة محكومة بشهادة الرسول علينا إذا أتبعنا الكتاب الذي جاء به.
نكتفي بهذا القدر ، ومن يريد البحث فعليه بكتاب الله ، فباب الجعل واسعا يشمل دائما صفات المجعول ، ولأن اللغة القرآنية فريدة ، فإن المستخلص من موقف الملائكة من خلق الإنسان أن الله عندما قال لهم (جاعل) فقد تلا ذلك بصفات المجعول وهي أنه (سيفسد فيها ويسفك الدماء) والسبب من خلقه وهو (العبادة والتسبيح) ، فكان فهم الملائكة من إخبار الله لهم ، فجاء ردهم لازم غير متعدي وفقا للإخبار فإن كان الإنسان سيفسد ويسفك الدماء والسبب لإستخلافه العبادة فنحن نعبدك ونسبح بحمدك ونقدسك ، فقال سبحانه إني أعلم ما لا تعلمون ، أن رغم ما سيقع فيه الإنسان من إمتحان قاس ، ودفع إلي الشهوات ووسوة الشيطان له إلا أنه سيعبد إختيارا في حدود التكليف الذي قبله عندما سأله الله (ألست بربكم) قالوا (بلى) ، والله تعالى أعلم.
عصيان إبليس وخطيئة آدم:
بعدما خلق الله آدم وبعد تلكم القصة التي حدثت بين الملائكة ورب العزة عن إستخلاف آدم ، أمرهم الله سبحانه بالسجود لآدم فسجد الملائكة كلهم أجمعون ، إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين ، وناقش رب العزة ورفض السجود لما خلق الله من صلصال من حمأ مسنون ، فأخرجه الله منها بعصيانه ولعنه وجعله رجيم ، فتمادى في غيه وقال لرب العزة (بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين) وأستثنى البعض من عباد الله المخلصين ، ولا يعرف إبليس أنه بعصيانه وبغوايته لآدم وذريته إنما ينفذ قدر الله سبحانه وتعالى ، لأن الله سبحانه وتعالى وهو الكمال المطلق والحق المطلق والمستحق وحده للعباد كل أنواع العبادة إستحقاق تنزيه ، وأسمى أنواع العبادة تلك التي تكون إختيارية ، وأفضلها في الإختيار التي تكون مخالفة لطبيعة العابد التي تأبى الرتابة في الأداء والضعف على الإستمرار قال تعالى" يريد الله ان يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا" النساء 28 ، وأعظمها التي تقترن بالغواية على آداء غيرها ، وأعلها مرتبة التي تخرج من رحم المعصية ، وهذا النوع من العبادة يقدر عليه كل من الجن والإنس نظرا لأن الله منحهم الإختيار ، ثم أن الإنس وحده تكون عبادة أعظم قدرا وأعلى مرتبة لكونه أضعف من الجن بالنظر لمادة خلقه وطبيعة.
فلذلك فإن عصيان إبليس وغوايته للبشر من بني آدم يجعل طاعتهم لله وعبادتهم له أعلى مرتبة وأسمى قدر ، بما يليق بجلال الله سبحانه وهو سبحانه غني عن العالمين.
أما خطيئة آدم ، فقد تلقى الأمر من ربه بعدم الأكل من الشجرة هو وزوجه ، ولم يرد الأمر على الله كما فعل إبليس أو حتى يناقشه فيه ليتبينه كما فعلت الملائكة ، ولكنه قبله رغم أنه يقع في المرتبة أغرب من أمر الله لإبليس أو إخباره للملائكة ، فالأمر لإبليس واضح بالسجود لما خلق الله تنزيها للخالق لا عبادة للمخلوق ، وقد رده فإستحق اللعن والرجم ، وإخبار الملائكة بما يقع في مشيئة رب العالمين من إختياره لخليفة لمن سبقه على الأرض ليعمرها ، أما الأمر بعدم الأكل من الشجرة فليس له سبب يعرفه آدم ومع ذلك قبله دون رد أو مناقشة وإستفسار ، إلا ان آدم بضعفة وغياب عزمه بعد قبوله الآمر فعل ما نهي عنه وعلم بعد فعلته بمعصيته فطفق وزوجه يخصفان على سؤاتهما من ورق الشجر بعدما كان الجزاء السريع أن بدت لهما سؤاتهما ، فكانت توبة الله على آدم بأن تعلم من الله كلمات كيف يتوب بها ، وقبلها منه الله بلطف رحمته وعظيم كرمه لأنه – آدم – إبتداء لم يرد الأمر أو يناقشه ، ثم هبط للأرض مع الجن جميعا ليبدأ التكليف المرتبط بالطاعة والمعصية والحساب والجزاء.
الإرادة والمشيئة
الإرادة:
هي عقد العزم على الفعل ، وتشمل إتخاذ كافة التدابير اللازمة للفعل المراد تنفيذه ، ولكنها لا تشمل الفعل نفسه ، ولنتدبر قوله تعالى"ولو ارادوا الخروج لاعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين" التوبة46 ، وقوله تعالى"ومن اراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فاولئك كان سعيهم مشكورا"الإسراء 19 ، هذا فيما يتعلق بإرادة الإنسان وقد أثبتها الله له ، فوصف الإرادة هو عقد النية والعزم مع الإعداد ، وقد يكون الإعداد في حد ذاته أداء كما في الآية في سورة الإسراء ، أن الإرادة الكلية للمؤمن هي الآخرة (الجنة) فكان أعداده لها هو سعيه في الدنيا ، وحتما سيكون شكر الله لسيعه بدخوله الجنة
وإرادة الله سبحانه وتعالى هي قضاءه وقراره الذي لا معقب عليه ، قال تعالى"له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من امر الله ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم واذا اراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال" الرعد 11 ، وقال تعالى"انما امره اذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون" يس 82 ، إذا فالإرادة سابقة على الأداء ، ولكن الفرق بين إرادة العبد وإرادة الرب ، أن إرادة العبد قد تخيب ، إذا خالفت إرادة الرب ، قال تعالى"وارادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين"الأنبياء 70 ، وقال تعالى"كلما ارادوا ان يخرجوا منها من غم اعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق" الحج 22 ، أما إرادة الله سبحانه وتعالى فهي قضاءه ، قال تعالى"وان يمسسك الله بضر فلا كاشف له الا هو وان يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم" يونس 107 ، ثم أن الله يقول"بديع السماوات والارض واذا قضى امرا فانما يقول له كن فيكون" البقرة 117 ، وفي سورة يس الآية 82 إستبدل لفظ (أراد شيئا) بـ (قضى أمرا) ، ولذلك لا راد لأمره وقضاءه.
المشيئة:
المشيئة هي إرتباط الإرادة بالأداء ، وهي قدر الله ، أي ما تم فعلا من قضاء الله هو المشيئة ، وما قضاه سبحانه قبل حدوثه هو الإرادة المنتظر حدوثها لتخرج من باب القضاء الي باب القدر، قال تعالى"...يهدي من يشاء الى صراط مستقيم"البقرة 142، وقال تعالى "...والله يرزق من يشاء بغير حساب" البقرة 212 ، وقال تعالى"...والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم" البقرة 247 ، وقال تعالى"...ولكن الله يهدي من يشاء...الآية" البقرة272 ، وقال تعالى" قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير انك على كل شيء قدير" آل عمران 26.
الشاهد من الآيات السابقة وغيرها كثير في كتاب الله سبحانه وتعالى ، أن مشيئة الله قد نفذت في الهدي والرزق والملك ، وهكذا فهي قدر الله سبحانه وتعالى ومشيئته التي نفذت في عباده.
الإنسان مخير:
عرفنا أن الإنسان قد قبل التكليف من الله ، لقوله تعالى" انا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فابين ان يحملنها واشفقن منها وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا" الأحزاب 72 ، والشاهد في هذه الآية أن هناك أمانة وأصبح الانسان مؤتمن عليها ، فلو إإتمنت شخصا ثم لم تجعل له الاختيار في التصرف فلا عبرة لهذه الأمانة ، لأن من مقتضيات الأمانة حرية التصرف للمؤتمن فلو وفى إستحق الجزاء الأوفى ، ولو خان إستحق أن يهان بأن يلقى في النار مهان.
وللإنسان إرادة ومشيئة على النحو التالي.
إرادة الإنسان:
وللإنسان إرادة وهذه الإرادة متباينة ومختلفة عن إرادة رب العالمين ، يؤتي بها الطاعات أو يرتكب بها المعاصي ، وهذه الإرادة إلهام من رب العالمين عند خلق النفس وتسويتها ، قال تعالى " وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)[الإنسان] ، والإرادة لا تخرج عن الفجور وهو شق ستر حجاب النهي المضروب على المعاصي نهيا دون حائل يحول بين المرء وإتيان فعل المعصية ، والتقوى بوقاية النفس من الوقوع في المعاصي وإتيان الطاعات بوازع من النفس دون تدخل من الغير لحملها على الطاعة.
ففي الحالتين لا تدخل في إرادة الإنسان من الله سبحانه وتعالى لذلك جعل الله فعل المكره(بضم أوله وفتح ما قبل آخره) شرا أو خيرا كأن لم يكن ، لتدخل إرادة جانبية من الغير لكشف أستار حجاب العلاقة بين المرء وربه ، قال تعالى" من كفر بالله من بعد ايمانه الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم" النحل 106 ، وهذه الآية توضح أن فعل المكره لا يعتد به ، كما توضح أيضا أن هناك إرادة للإنسان تختلف عن إرادة رب العزة سبحانه وتعالى بل حتى وقد تتضاد مع إرادة رب العزة سبحانه ، فتغضبه ، ولكنه سبحانه لا يتدخل فيها إطلاقا حتى تكون سببا في إستحقاقه عذاب عظيم.
مشيئة الإنسان:
عرفنا الإرادة على أنها العزم على الفعل ، أما المشيئة فهي إقتران العزم بالفعل ، وكما أن للإنسان إرادة ، فإن له مشيئة ن ولكن إذا كانت إرادة الإنسان متباينة ومختلفة عن إرادة رب العالمين ، فإن مشيئة الإنسان إذا أتخذ سبيل الرشاد والإيمان ، تكون دائما في حدود مشيئة الله ، أي أن مشيئة الله مستغرقة لمشيئة الإنسان إستغراقا كليا ، لأنه في النهاية لن يصل للإيمان الموجب لرحمة رب العالمين إلا بمشيئة رب العالمين ، قال تعالى" إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31) [الانسان] ، وقال تعالى" إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) [التكوير].
والشاهد في هاتين الآيتين أنه عند ذكر مشيئة الإنسان للإستقامة وإتخاذ سبيل إلي الله ، لا يكون ذلك إلا بمشيئة رب العالمين في الأول ، فتكون مشيئته مستغرقة لمشيئة عبده التائب المنيب الأواب ، ولذلك قال رب العزة سبحانه وتعالى" يا ايها الذين امنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف ياتي الله بقوم يحبهم ويحبونه اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم" المائدة54 ، ذلك أن الحب منه أولا لأولئك القوم الذين يتصفون بالذلة للمؤمنين والعزة على الكافرين ويجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم ، وهوفضل الله سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء.
أما إذا كانت مشيئة الإنسان للكفر فإنها لا ترتبط بمشيئة رب العالمين قال تعالى" وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر انا اعتدنا للظالمين نارا احاط بهم سرادقها وان يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا" الكهف29 ، والشاهد أن من يكفر يخضع لعذاب الله بنار أحاط بهم سرادقها ، ولكن ذلك لا يكون بمشيئة الله سبحانه كما يكون مع من شاء الإيمان والطريق المستقيم
الخلاصة: أن للإنسان مشيئة للإستقامة وهي مشيئة مستغرقة في مشيئة رب العالمين ، ومشيئة للكفر وهي مرتبطة به وحده يحاسب عليها بنار أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وسائت مرتفقا.
والسؤال: هل يكون الإنسان مخير إذا تدخلت مشيئة الله لتغيير من عمله؟
والجواب قطعا يبقى مخيرا ، لأن المشيئة تتدخل لتجعل نتيجة عمله خائبة أو موقوفه ولا تتدخل في إختيارة للعمل نفسه ، ولنتدبر قوله تعالى"... كلما اوقدوا نارا للحرب اطفاها الله ويسعون في الارض فسادا والله لا يحب المفسدين" المائدة64 ، وقوله تعالى" واذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك او يقتلوك او يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" الأنفال30
فكانت لهم إرادة الاختيار فأختاروا الكفر ، ولكنهم عندما أرادوا أن يتخذوا خطوات تنفيذية للحرب والفساد وقتل الرسول وكانت هذه الخطوات ضد مشيئة رب العالمين ، أوقف الله سبحانه وتعالى جريمتهم فأصبحت خائبة
حل إشكالية بعض الآيات بتدبرها:
1. قال تعالى"وان كان كبر عليك اعراضهم فان استطعت ان تبتغي نفقا في الارض او سلما في السماء فتاتيهم باية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين" الأنعام35
2. قال تعالى"ولو شاء الله ما اشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما انت عليهم بوكيل" الأنعام 107
3. قال تعالى"ولو اننا نزلنا اليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا الا ان يشاء الله ولكن اكثرهم يجهلون" الأنعام 111
4. قال تعالى"وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس والجن يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون" الأنعام 112
5. قال تعالى"وكذلك زين لكثير من المشركين قتل اولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون" الأنعام 137
6. قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم اجمعين" الأنعام 149
7. قال تعالى" ولو شاء ربك لامن من في الارض كلهم جميعا افانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" يونس 99
المتفق عليه من تدبر كتاب الله أن الإنسان إذا أختار طريق الصلاح (الطريق المستقيم) فإنه يختاره بمشيئة رب العالمين أي أن مشيئة الله إستغرقت مشيئته ، أما إذا أختار الكفر فتستقل به مشيئته ، دون دخل لمشيئة رب العالمين
والشاهد في كل هذه الآيات السابقة أن الله سبحانه وتعالى لحكمته ، وما كتبه على الإنسان من تكليف لم يتدخل بمشيئته على من كفر بل ترك له حرية الكفر ، فهذه الآيات لا تعني الجبر ولكنها تشير إلي الإختيار ، وإلي حرية الإنسان المطلقة في إختياره الشر وأن الله سبحانه لم يتدخل بمشيئته ليوقف إختيار الإنسان بل أبقى ذلك لحسابه يوم القيامة.
ويتضح هذا المعنى جلي في الآية 99 من سورة يونس أن الله سبحانه وتعالى لم يتدخل بمشيئته ليجعل كل من في الأرض جميعا مؤمنين ( أي يكرههم على الإيمان) ، والدليل أنه إستنكر على نبيه أن يكره الناس على الإيمان ، فهذه الآيات تؤكد حرية الإيمان والكفر (حرية الاختيار) ، ولا تدل على الجبر أبدا ، بل أكثر من ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يستنكر على الإنسان أن يجبر الإنسان على الإيمان ، وهي أعلى مراتب حرية الاختيار.
هل الإنسان خالق لأفعاله؟
نقول نعم الإنسان يخلق أفعاله ، ولنتدبر قوله تعالى" انما تعبدون من دون الله اوثانا وتخلقون افكا ان الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له اليه ترجعون" العنكبوت17، وهنا أعتبر الله سبحانه وتعالى الإفك الذي يتخذوه بصناعة الأوثان ثم عبادتها (خلق) .
ثم أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ، ثم كتب عليه (التكليف) وجعله مؤتمن (بضم أوله وفتح ما قبل آخره) ، وأعطاه حرية الاختيار بين الإيمان والكفر ، وبين الرشاد والضلال ، فإما أن يدخل في حظيرة الإيمان فتستغرقه مشيئة رب العالمين ، أو يختار الضلال فيخلق أفعاله التي سيحاسب عليها.
ولكن يجب أن نؤكد على أنه لا يخلق من عدم ، فهذه لله وحده ، كما أن خلقه لا يتعدى إرتكابه للفعل ، فلا مقارنة بين خلق الله وخلق البشر ، فخلق الله فيه روح والبشر لا يقدرون على خلق بعوضه ، ولنتدبر قوله تعالى" ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم انشاناه خلقا اخر فتبارك الله احسن الخالقين" المؤمنون 14.
كما يجب أن نؤكد على أن كل ذلك في حدود علم الله الأزلي ، فالله سبحانه وتعالى يعلم بصفته (محيط) ويعلم لكونه (عالم الغيب والشهادة) ما سيكون من هذا الإنسان ، ولكن علم لا تتدخل فيه الإرادة ، وليس أكثر من تدخل مشيئته وقت خلق الفعل الضار ليصحح منه بجعله موقفا وخائبا ، وليس أدل على ذلك من قصة العبد الصالح (الخضر) مع موسى عليه السلام أن الله جعله يتدخل وفقا لمعطيات الناموس البشري لرد الأمر وفقا لمشيئة رب العالمين دون التدخل في إختيار البشر.
وأخيرا فإن علم الله سبحانه وتعالى بالقدر الذي يليق بذات الله سبحانه وتعالى ، فهو علم أزلي ، لا يأتيه جهل أو نسيان ، علم بما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف سيكون ، علم يحيط بالأحداث من كل جوانبها بل وبظاهرها (الشهادة) وباطنها (الغيب) ، والله سبحانه بسابق علمه يعلم ما سيكون منا من طاعة أو معصية ، ولكنه علم إحاطة لا علم إرادة ، بل هو علم لا يتدخل به فيما نفعل ، ومن المشهور أن العلماء يسوقون مثال المدرس الذي يتنبأ بسقوط التلميذ لسابق علمه بمدى تحصيله ، والأب الذي يتنبأ بأفعال إبنه لسابق علمه بأخلاقه ولكن دون تدخل منهما في إرادة التلميذ أو الولد ، ولله المثل الأعلى.
هذا والله تعالى أعلم
ندعوه مخلصين أن تستغرق مشيئته مشيئتنا ، فنستقيم ونتخذ إليه السبيل ، فمن زحزح عن النار وإدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
شريف هادي

اجمالي القراءات 30742