أول ما يلفت النظر فى أسلوب تعامل نظام مبارك العسكرى مع المجتمع المدنى المصرى أنه يعامله من منطلق العداء المباشر ويثير هذا الوضع الكثير من السخرية الغاضبة فكيف يعادى نظام لدولة مستمرة لأكثر من عشرة آلاف عام بكل هيئاتها ومؤسساتها مجتمع مدنى لا يزيد عمره عن بضعة عشرات من الأعوام وبالتالى لا يعد المجتمع المدنى المصرى منتصرا فى معركته بالفوز فى جولاتها ولكن بمجرد الإستمرار فى المقاومة أو بلغة الملاكمة هى معركة بين قبضة قوية وجسد ضعيف والمنتصر هو من سيصمد للنهاية وتتلخص أهم اللكمات التى يوجهها النظام للمجتمع المدنى المصرى فى
* لكمات قانونية
حيث تتعرض منظمات المجتمع المدني في مصر للكثير من القوانين المقيدة لقدرتها على العمل من أجل الترويج للحرية والديمقراطية، فبالإضافة إلى قانون الطوارىء الذي يسمح للحكومة بالتدخل في شؤون منظمات المجتمع المدني هناك قانون الجمعيات رقم 84 لسنة 2002 الذي يعطي وزارة الشؤون الاجتماعية سلطة واسعة تمكنها من تنظيم وحل ومراقبة مصادر التمويل الخاصة بتلك الجمعيات،ويحرم ذلك القانون على الجمعيات الأهلية أن تمارس أي نشاط سياسي أو نقابي،وتسمح الطبيعة الغامضة للقانون للسلطة التنفيذية بحل المنظمات الأهلية بقرار إداري إذا ما تعارضت أنشطتها مع الآداب العامة او النظام العام أوالمصالح القومية للدولة أو إذا مثلت أي انتهاك للتوافق الاجتماعي وهذه كلها الفاظ مطاطة غير محددة الأبعاد تسمح للدولة أن توقف نشاط أى جمعية إذا تجاوزت أيا من الخطوط الحمراء للنظام .كما تمتلك وزارة الشؤون الاجتماعية الحق في تعيين مجلس إدارة تلك الجمعيات حتى تضمن السيطرة الكاملة عليها.وقد أدت تلك القوانين التشريعية المقيدة إلى قيام بعض الجمعيات بممارسة النقد الذاتي وتجنب الحياة السياسية،ودفعت البعض الآخر إلى التحايل على هذه القوانين عن طريق تسجيل نفسها كشركات مدنية لا تقع تحت طائلة وزارة الشؤون الاجتماعية
* لكمات قطع التمويل
حيث تحتاج منظمات المجتمع المدني إلى التمويل لتحقيق أهدافها المرجوة،لكن القانون رقم 84 لسنة 2002 المتعلق بالمنظمات غير الحكومية يحظر عليها الحصول على تمويل محلى دون الحصول على إذن الحكومة.وقد أدى ذلك إلى نقص الاستقلال المالي لتلك المنظمات ومن ثم قبلت المعونات المادية من وزارة الشؤون الاجتماعية التي بسطت نفوذها وسيطرتها على تلك المنظمات،وفي الوقت الذي نجد فيه معظم الأعمال الخيرية في مصر نادرا ما تكون خارج الإطار الديني تقوم المنظمات المدنية بالإعتماد على التمويل الخارجي وبالرغم من أن النظام المصري يتقبل المعونة الأجنبية إلا أنه ينكر ذلك الحق على منظمات المجتمع المدني وفي ذلك الصدد نجد أن القانون رقم 84 يحظر أيضا على المنظمات غير الحكومية الحصول على تمويل خارجي دون إذن من الحكومة مما يعني أن النظام فقط وبعض المنظمات غير الحكومية الموالية له هم فقط الذين يحق لهم الحصول على التمويل الخارجي.هذا بالإضافة إلى أن إنتهاك ذلك القانون يدفع وزارة الشؤون الإجتماعية إلى حل المنظمة والتحفظ على ممتلكاتها وأموالها أما بالنسبة لمنظمات المجتمع المدني غير المسجلة في وزارة الشؤون الاجتماعية والتي تقبل التمويل الأجنبي فتكون عرضة للكمة التالية
* لكمات التشوية الأعلامى
عادة ما يكون تناول الإعلام لدور المجتمع المدنى سلبيا أو على أفضل تقدير تعتيميا ولكن ما أن تتجاوز إحدى المنظمات بعض الخطوط الحمراء السياسية حتى تتعرض لحملات شرسة بدعم من الحكومة موجهة لها أصابع الاتهام بالعمالة والخيانة وتهديد الوحدة الوطنية ويقود هذه الحملة مبارك شخصيا حيث سبق له إتهام بعض نظمات المجتمع المدنى بتلقى معونة 70 مليون دولار من جهات مشبوهة كما اتهم أيضا حركة كفاية بالعمالة وتلقى دعم خارجى دون أن تقدم أجهزته الأمنية دليلا واحدا يدعم إتهاماته الكاذبة وعادة ما تنجح تلك الحملات في الإساءة إلى منظمات المجتمع المدني خاصة إذا صدرت من رئيس دولة من المفترض أنه لا يكذب على شعبه وفى النهاية إذا صمد المجتمع المدنى أمام كل هذا وجه له نظام مبارك اللكمة الأقوى وهى اللكمة الأمنية التى تتلخص وببساطة فى تلفيق قضية أمنية وإلباسها الثوب الجنائى للتخلص من أى منظمة تصمد أمام النظام وتمثل تجربة مركز ابن خلدون مع نظام مبارك التطبيق المثالى لحالة الصراع بين الدولة المصرية والمجتمع المدنى وفى الأمر الذى جعلنا نحن الخلدونيون نخرج من هذه المعركة بعدة دروس أجملها الدكتور سعد الدين إبراهيم فى
* أهمية بناء الثقة بين منظمات المجتمع المدنى
دائما ما تبالغ الدولة المصرية تبالغ في قدرات منظمات المجتمع المدنى ، ولا تكُف عن محاربتها ومحاولة تحجيمها. وحينما قُبض على رئيس مركز ابن خلدون وسبعة وعشرون من العاملين فيه والمتعاملين مع المركز أصيبت بقية منظمات المجتمع المدني بالصدمة والشلل لفترة طويلة. كذلك تملّك الخوف من عدد كبير من النشطاء وسمح ذلك بغياب الثقة بين النشطاء أنفسهم لذلك فإن بناء الثقة بين منظمات ونشطاء المجتمع المدني هو شرط ضرورة، إذا كان لحركة حقوق الإنسان أن تنمو ويشتدّ عودها في السنوات القادمة.
* أهمية المجتمع المدني العالمي لحماية القرين الوطني
بعكس تلكؤ وضعف إستجابة المجتمع المدني المصري في قضية ابن خلدون كان المجتمع المدني العالمي سريعاً وقوياً ومستمراً في دعمه لمركز ابن خلدون والتضامن معه.
وكانت أهم فواعل منظمات المجتمع المدني العالمي هي المنظمات الحقوقية ـ مثل العفو الدولية، وهيومان رايتس ووتش، والفيدرالية الدولية، وحماية حقوق الأقليات. وكذلك المنظمات المهنية ـ مثل جمعية دراسات الشرق الأوسط الأوربية والأمريكية، والجمعية الدولية لعلم الإجتماع، والجمعية الدولية للعلوم السياسية، ورابطة المحامين الأمريكية، وبيت الحرية، ورابطة الكتاب الدولية، والرابطة الأمريكية لتقدم العلوم، والرابطة الأمريكية للعلماء والمهندسين، وفضلاً عن البيانات العديدة التي أصدرتها هذه المنظمات حول قضية ابن خلدون قد أرسلت مندوبين عنها لحضور جلسات المحاكمتين الأولى والثانية، ثم المحاكمة الثالثة أمام محكمة النقض. من ذلك أيضاً أن الإعلام الخارجي ـ ممثلاً في الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية ـ قد قام بدور تنويري للرأي العام العالمي من ناحية، ودور ضاغط على الحكومة المصرية من ناحية ثانية، وعلى البرلمانات (البرلمان الأوربي، والكندي، والكونجرس الأمريكي) والحكومات في الديموقراطيات الغربية من ناحية ثالثة.
أي أن المجتمع المدني العالمي قد أصبح قوة لا يُستهان بها في حماية المناظر الوطني… ولولا ذلك لكان الأمرأسوأ بكثير مما حدث.
* أهمية إستخدام منظمات المجتمع المدنى المصرى لسلاح الإعلام
خلال تجربة السنوات الثلاث لقضية ابن خلدون، جنّدت الدولة الصحافة المباحثية "الصفراء" والصحافة الحزبية والقومية في حملة مسعورة لاستعداء الرأي العام المصري والقضاء على مركز ابن خلدون،وأقصى ما إستطاعه بعض الصحفيين والكتّاب الشرفاء هو نشر مقال هنا أو مقال هناك في بعض الصحف الحزبية وتؤكد تلك التجربة مجدداً أهمية وجود وسيلة إعلامية "ليبرالية" حقيقية تعبر عن المجتمع المدني وقضاياه، وتنتصر لأصحابه حينما يجرى الإعتداء على حقوقهم.
كما يكشف هذا الدرس عن الأهمية القصوى لتجميع أسماء الأقلية الشجاعة التي خاطرت وكتبت أو وقعت بيانات المناصرة والتضامن لتكون نواة شبكة من أصدقاء المجتمع المدني، يتم وضع أصحابها على قوائم إرسال نشرات منظمات المجتمع المدني، ودعوتهم إلى أنشطة هذه المنظمات بصفة دورية منتظمة، دون إنتظار حدوث الأزمات أو القضايا المشابهة لقضية مركز ابن خلدون.
* أهمية مواجهة الخوف
من المؤكد أن معظم المفكرين المصريين، وكذلك معظم المصريين، لم يتعلموا ولم يمارسوا مواجهة الخوف. ولعل تلك الحقيقة هي التي مكنت الأجهزة الأمنية، بعدة ألوف من العاملين فيها، من قهرعشرات الملايين من أبناء الشعب المصري طوال العقود الخمسة الماضية وقد تحولت مواجهة وإدارة الخوف إلى ما يشبه "العلم" أو "الفن"، الذي يتخذ مظاهر متعددة مثل تنظيم المظاهرات والمسيرات وقد تصل إلى حد العصيان المدني … ولعل خروج المظاهرات الإحتجاجية في ستمائة مدينة في قارات العالم الست في نفس اليوم في أواخر فبراير 2003، إحتجاجاً على دعاة الحرب على العراق، هو أبلغ دليل على ما وصل إليه هذا الفن من تقدم. وقد تحولت بعض مبادرات هذا الفن إلى ما يشبه المؤسسة، مثل المنتدى الإجتماعي العالمي.
* أهمية التراكمية
منذ مبادرة اللجنة المصرية المستقلة لمتابعة الإنتخابات (1995)، تمت مبادرات أخرة ـ مثل لجنة الوفاق الوطني للإصلاح السياسي والدستوري، وبيان المائة (بمناسبة أحداث الكشح)، ولجنة الدفاع عن الديموقراطية (بإلغاء قوانين الطوارئ والإصلاح الدستوري)، ولجنة الحريات، واللجان الشعبية لمناصرة الشعبين الفلسطيني والعراقي.
ورغم أن عدداً من نفس الشخصيات العامة قد شارك في معظم هذه المبادرات، إلا أن هناك غياباً "للتراكمية" في هذه المبادرات العامة. وتكاد كل مبادرة منها أن تبدأ من الصفر، بدلاً من أن تبدأ منذ إنتهت آخر المبادرات على الأقل من حيث المشاركين ومن حيث الخبرة التنظيمية.
ولذلك فمن الأهمية بمكان توثيق كل مبادرة من حيث آدبياتها والمشاركين فيها، وإعداد وتوزيع قائمة النشطاء على كل المهتمين بالعمل العام. ويمكن بالطبع إستخدام تكنولوجيات الاتصال السريع في هذا الصدد ـ مثل مواقع على الإنترنت، والاسطوانات المدمجة.
* أهمية خلق سياج أوسع يحتوي كل المبادرات
حتى نُضفي معنى ومغزى لكل المبادرات الحقوقية، ينبغي أن يكون الهدف الأكبر واضحاً، حتى لو تعددت وإختلفت الوسائل والشخوص، ذات العلاقة. ومن الواضح أن هذا الهدف الأكبر والسياق التي تندرج كل المبادرات تحته حركة وطنية مصرية أو حركة قومية عربية من أجل الديموقراطية. لذلك نقترح أن يكون ذلك هو أسم المظلة التي تعمل تحتها: "الحركة المصرية من أجل الديموقراطية"، والتي قد تبدأ كفيدرالية من منظمات حقوق الإنسان، والدعوة للمجتمع المدني والديموقراطية.
وفى النهاية رغم استمرار قضية ابن خلدون ثلاث سنوات وما انطوت عليه من معاناه مادية ومعنوية وأدبية، إلا أنها توجت بالنصر، لا فقط لأصحاب القضية المباشرين، ولكن لكل منظمات المجتمع المدني في مصر والوطن العربي. ولكن هذا النصر لا ينبغي أن يخدعنا. فحربنا ضد الإستبداد والطغيان مستمرة وما زال جسدنا قادرا على تحمل الضربات فهل تستسلم القبضة وتعترف بالهزيمة