الأحزاب الدينية تستهدف المجتمع العراقي من خلال المرأة | |||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||
العرب سماح بن عبادة [نُشر في 06/12/2015، العدد: 10119، ص(20)] | |||||||||||||||||||||
وقف الطلبة وأساتذتهم جنبا إلى جنب إناثا وذكورا في احتجاجات ومظاهرات للتعبير عن رفضهم لقرار الفصل بين الجنسين أو ما يسمّونه توحيد الجنس رافعين شعارات مثل "لماذا تفصلوننا عن أمهاتنا" و"المرأة حضارة والثقافة والفنون أساس الحضارات"، ورفعت إحدى طالبات معهد الفنون شعار "نحن جيل يحطّم التخلف" كما رُفعت لافتة كبيرة حملها المحتجّون تحوي تحليلا معمقا لوضعهم في التعليم ولوضع العراق عموما تقول "التذكير والتأنيث حصل في الموصل "داعش" ويراد في الكرخ الأولى"زاهد" (زاهد سعدون حمودي المدير العام لتربيه بغداد الكرخ الأولى). داعش ذكر/أنثى = زاهد ذكر/أنثى". ليصلوا إلى استنتاج أن الأحزاب الإسلامية هي التي تدير الكرخ الأولى. أوردنا هذه الشعارات للدلالة على درجة وعي وفهم الطلبة والطالبات لحجم ولأبعاد هذا الفصل بينهم حسب الجنس وتنديدهم به ورفضهم له ولمن يقف وراءه من جهات سياسية شبهوها بداعش في توجهاتها ومشاريعها وسياساتها. وأيضا تأكيدا على سموّ تفكيرهم ومنه سمو وقداسة العلاقة بين الأستاذ والطالب وبين الطالب والطالبة بقطع النظر عن الجنس. وتعبيرا عن نظرتهم للمرأة على أنها الأم ومنبع الحياة والحضارة والثقافة. التعليم حصّن عقول وفكر الشباب والشابات العراقيات كما أساتذتهم من الأفكار الظلامية التي تجعل الجنس يلعب دور الحاجز بين طالب العلم ومعلّمه أو زميله. هم يدركون أن التمييز بين أفراد المجتمع الواحد على أساس الجنس يشكل مبدأ أساسيا في أيديولوجية الإسلام السياسي. كما يصرّون على أن جامعتهم من المفترض أن تكون "جامعة" -فعلا لا قولا- بين مختلف الانتماءات ومختلف الطبقات الاجتماعية وأن تكون مظلة تأوي الإناث والذكور تحت راية العلم والفن والإبداع ولا تفرق بينهم. كما أن اختصاصات الفنون الجميلة تستهوي المبدعين والموهوبين والشغوفين بالفن الذي يرتقي بفكرهم وميولهم عن التفكير في الزميلة والأستاذة على أنها أنثى في مجتمع ذكوري لم يكن يفكر في وجوب سترها واستبعادها حتى لا تثير شهوات الذكور المحيطين بها. مشروع يستهدف المرأة بدرجة أولى ويضرب عرض الحائط بحقوقها ومكتسباتها بهدف كسر النمط الاجتماعي السائد عبر فصل النساء عن الرجال لتأكيد دونية المرأة النظرة للمرأة على أنها شريك في الحياة تتقاسم مع الرجل الفضاء الأسري والاجتماعي وفضاءات التعلّم والعمل في شتّى الميادين ليست خاصة بطلبة وأساتذة معاهد الفنون الجميلة في بغداد بل هي نظرة يتبناها أغلب العراقيين والعراقيات وهو ما يثبته تاريخ تعليم الفتيات في العراق.
فالمرأة العراقية جلست جنبا إلى جنب في مقاعد الدراسة مع زملائها في الجامعة منذ عقود وحققت نجاحات علمية مثلها مثل زملائها بل أحيانا تفوقت عليهم.
ومعهد الفنون الجميلة منذ تأسيسه في ثلاثينات القرن الماضي احتضن الطلاب ذكورا وإناثا ودرّس في فصوله أشهر أساتذة الفنون نساء ورجالا ليتخرج على أيديهم ثلة من الفنانات اللاتي بلغنا شهرة محلية وعربية وعالمية في الفن التشكيلي وفي النحت والمسرح وغيرها من الاختصاصات وهو في ذلك مثله مثل بقية مؤسسات التعليم العالي العراقية.
الإيمان بقيمة التعليم لدى العراقيين لصالح أبنائهم وبناتهم كان له الفضل في دخول المرأة العراقية للمدارس في تاريخ متقدم على نظيراتها في العديد من الدول العربية الإسلامية حيث مثّل التعليم السبيل الأمثل لتطوير وبناء المجتمع وللنهوض بالمرأة وتحريرها من الأمية لتتمكن من الحصول على عمل يمكّنها من تحقيق ذاتها. هذا ما جعل المرأة العراقية تضمن مكانتها في المجتمع العراقي الذي آمن بدورها الفاعل في بناء الدولة وتحقيق التنمية وهو ما جعل الدستور العراقي يضمن حقوق المرأة ويقر بضرورة تشريكها في المجتمع والاقتصاد والسياسة. غير أن العراق الذي عُكس طريق سيره نحو التقدم، بالتدخل الأميركي منذ عام 2003 والذي نهبت ثرواته وآثاره وتاريخه الفني وأضعفت فيه جميع أجهزة الدولة، بات اليوم أرضا ترتفع فيها أصوات وسطوة الإسلام السياسي وبات ممزقا بالطائفية وخاضعا لأجندات أحزاب الإسلام السياسي التي تسعى جاهدة للقضاء على النمط المجتمعي والثقافي المدني المعتدل وإرجاعه إلى عصر الظلمات.
فالأحزاب الدينية ذات المرجعيات الطائفية تريد أن تحوّل المعاهد والجامعات إلى مساجد وإلى حوزات علمية يدرس فيها التاريخ الطائفي أكثر من الفنون والآداب والعلوم.
وتطبيق هذا المشروع يشترط فصل الإناث عن الذكور في هذه الفضاءات العلمية وهو كذلك جزء من مخطط الإسلام السياسي في العراق لإعادة المرأة إلى الوراء ووضعها في كيس النقاب الأسود وفي سجن البيت الذي يمكّن من سترها وفرض الوصاية عليها. ومن هنا تأتي المساعي للحد من فرص تعلم المرأة للفنون بالذات. وتتهم معاهد الفنون بأنها تكرّس الميوعة وبأن الاختلاط فيها ينذر بفساد أخلاقي لدى الشباب.
هذا المشروع الذي يستهدف المرأة بدرجة أولى ويضرب عرض الحائط بحقوقها ومكتسباتها يهدف لأن يتمكن من كسر النمط الاجتماعي السائد ومن غرس الفكر الطائفي والرجعي فيه عبر فصل النساء عن الرجال لتأكيد دونية المرأة.
وهو مسار لا يمكن أن يكتمل دون تسريب قوانين وقرارات مثل الفصل بين الجنسين في الجامعات والمعاهد، ودون إرجاع المرأة إلى الوراء عبر تقليص حضورها في الفضاء العام وفي المؤسسات والحد من الفرص المتاحة لها للخروج من المنزل وللعمل ليسهل نشر الفكر المتشدد والمتطرف الذي يخضع للمعايير الطائفية أكثر من المعايير الإسلامية الحقيقية.
ويندرج التمشي نحو الحد من اختلاط الفتيات بزملائهم الطلبة في التعليم في خطط بعيدة المدى تؤثر تدريجيا في الثقافة العراقية وتقضي تدريجيا على الفكر الحداثي الذي يؤمن بالمساواة بين الجنسين فعندما تدرس الطالبة في جامعات البنات يصعب عليها فيما بعد الاندماج في سوق العمل في فضاء مختلط وفي المقابل يصعب على الرجل قبولها كزميلة في العمل أو تقبّلها كشريك فاعل في الفضاء العام.
تاريخ تحرر العراقيات لا يسمح لهن بالرجوع إلى الوراء عندما وصل ولي العهد الأمير غازي بن فيصل الأول بغداد أول مرة قادماً من الحجاز، وذلك في العشرينات من القرن الماضي، كانت مدرسة للبنات في استقباله وقد تخلت مديرة المدرسة وطالباتها عن حجابهنَّ، فلم يكن هناك مَن اعترض أو احتج على هذا الفعل، بينما كانت ضجة الخلاف بين السفوريين والحجابيين قائمة على صفحات الجرائد. بمعنى أن المرأة العراقية قد بدأت في التحرر مِن القيم السائدة في العهد العثماني، والتشجيع كان حكوميا ومِن زعامات المجتمع. فآنذاك كانت صبيحة الشيخ داوود أول طالبة جامعية التحقت بكلية الحقوق المختلطة ولم يمنعها لا الدولة ولا الأهل، ولم يقف ضدها رجال الدين ولم يحرضوا أحداً عليها، ومعلوم أن قضية المرأة وتحررها كانت قد ظهرت شرارتها عام 1910 عندما نشر الشاعر جميل صدقي الزهاوي مقالته في “المؤيد” المصرية، ثم نشرت في صحف بغداد، وقد نال ما ناله مِن قبل الوالي العثماني آنذاك، لكن قضية المرأة لم تغلق، بل على العكس فتحت أبوابها من جديد. خلال عقد العشرينات والثلاثينات وما بعدهما صار طلبة الجامعة مناصفة بين البنين والبنات، فظهر بينهنَّ الشاعرات والكاتبات والرسامات والفنانات والطبيبات والحقوقيات، وكل صفوف الدراسة الجامعية كانت مختلطة، ولم يشهد تاريخ التعليم الجامعي العراقي مخاطر أخلاقية. فمن عجب لو قارنّا تلك العقود، التي وضعت المرأة العراقية بمكانتها المناسبة، مع العقدين الأخيرين (2003-2015)، حيث تبوأت العراقية أول منصب وزاري في الشرق الأوسط، مثلما هي وزيرة البلديات نزيهة الدليمي، ودخلت المرأة الأحزاب السياسية، وكل هذا كان يجري بالاختلاط مع الرجال، فتقدم مثل هذا لا يمكن أن يتحقق مع الساتر أو الحاجز بين الجنسين، والإشارة إلى المرأة بالحمل والرجل بالذئب. جرت محاولات وزارة التربية والتعليم العراقية، في عهد وزيرها خضير الخزاعي، على منع الاختلاط في معهد الفنون الجميلة، وهو أكثر المؤسسات الجامعية ميلاً للاختلاط، وذلك لطبيعته، لأنه لا يتجزأ إلى ذكوري وأنثوي، وعندما نقول ذلك لا نقصد أن بقية التخصصات قابلة للمنع. حتى صدر القرار قبل أيام فاضحاً التردّي الحضاري والتخلف الثقافي اللذين يُقاد إليهما المجتمع العراقي، كانقلاب على تلك العقود التي تميزت فيها العراقيات في كافة المجالات. علينا حساب الانتكاسة الحضارية التي تجري على يد الإسلاميين في العراق، وكأن المشاكل قد تفرعت مِن هذا الاختلاط! في هذا القرار شيء من زيادة التوحش في المجتمع ضد المرأة بالذات، فالمقصود بالقرار المرأة لا الرجل بالدرجة الأولى.
وسيبرّر فقهاء هذا القرار بالحفاظ على التقاليد وبحماية أخلاقيات المجتمع الإسلامي، وهنا نقول: هل كان العراقيون في تلك العقود بلا أخلاق ولا دين ولا تقدم ولا عطاء إنساني؟ وأين الأخلاق التي بثت في المجتمع كي يكون بحاجة إلى مثل هذا القرار؟ إن مقارنة بسيطة بين أخلاقيات الأمس وأخلاقيات اليوم تكفي لمعرفة ما وراء هذا القرار.
الإسلام السياسي يستهدف حق المرأة في التعليم فرض قرار الفصل بين جامعات البنين وجامعات البنات وبين أستاذات للبنات وأساتذة للبنين دون الاهتمام بردود فعل الأساتذة والطلبة من الجنسين الذين رفضوا هذه القرارات ولم يجدوا لها مبررات تقنعهم بجدواها، يدل على طبيعة الممارسات السياسية الجارية اليوم في العراق بقرارات فوقية تأتي استجابة لطلب من السلطات المحلية ذات الخلفية الدينية المتشددة التي تسيطر على مفاصل السلطة. فهذا التداخل بين الديني والسياسي ترتب عنه قرار توحيد الجنس في معاهد الفنون الجميلة بتعلات ترتبط بحسن سير العملية التعليمية من جهة وبتطبيق الشريعة الإسلامية من جهة أخرى. ورغم ما قدّمته مديرية التربية في الكرخ ووزارة التربية من حجج اتكأت في مجملها على رفع مستوى التعليم الجامعي وعلى حسن توزيع الكفاءات من المدرّسين والمدرسات وعلى صون الفضاء الجامعي مما يمكن أن يلحقه من جراء الاختلاط بين الجنسين من مشاكل أخلاقية إلا أنها تعلات تفتقد إلى سند قوي وليس لها من هدف سوى التفرقة والتمييز ضد المرأة بإقرار ومباركة من حركات الاسلام السياسي التي تسعى لفرض ذلك من منطلق طائفي.
في المجمل هذه الحجج جميعها تصب في تغليف الحقيقة بأسباب أكاديمية وتعليمية وأخلاقية بينما الأسباب الحقيقية وراء اتخاذ مثل هذا القرار تتمثل في تنفيذ رؤية متشددة لأحكام الشريعة التي تقر بنظر الأحزاب السياسية ذات المرجعية الدينية ضرورة وأفضلية الفصل بين الجنسين في المجتمع وانطلاقا من الجامعات وهو ما لم يقبله الطلبة والأساتذة الجامعيون.
المدرّس في قسم المسرح في المعهد يوسف خالد يقول إن “بعض الوزراء والسياسيين يمتهنون الإسلام السياسي ويحملون أجندات خاصة تشوّه صورة الحياة العراقية. لا يمكن للعراق، وبغداد على وجه الخصوص، أن تكون مدينة مغلقة. بغداد مصدر إشعاع ثقافي. ونحن وطلابنا نصر على التمسك بذلك”.
من جهتها قالت نبراس هاشم، إحدى مدرسات معهد الفنون الجميلة، في حديث لوسائل إعلام محلية إن “خروج المئات من أساتذة المعاهد الفنون وطلبتهم للتظاهر بسبب قرار مديرية تربية الكرخ الأولى بتوحيد الجنس وعدم تدريس المدرسات في المعاهد التي فيها بنين والعكس.. سيولّد فراغا كبيرا بحصص الطلبة”، مشيرة إلى أنه لا توجد صلاحية لمديرية تربية الكرخ بإصدار مثل هكذا قرارات، لارتباط المعاهد بمديرية الإعداد والتدريب ووزارة التربية وليس بمديريات التربية”.
وكان عدد من المهتمين بالفنون والفنانين والفنانات العراقيات وكذلك الأكاديميون قد عبروا في وقت سابق عن تخوّفهم من تراجع الفن العراقي ومن تراجع تدريس الفنون ومن أثر ذلك على الأجيال الصاعدة من الطلبة إناثا وذكورا.
وكانت الفنانة العراقية زينب عبدالكريم قد صرحت بأن “التربية الفنية تشكل حجر الزاوية في بناء دولة حديثة. وربما تلعب دوراً هاماً في استعادة السلام في العراق. فالطلاّب الذين يتعلّمون قيمة الجمال والحياة، ينبذون العداء والغضب”.
وهو ما يؤكد أن تعليم الفنون يظل أداة لتطوير المجتمعات إذ ينأى بها عن الفكر المتشدد. هذا تحديدا ما يجعل أحزاب الإسلام السياسي تتّجه لضرب التعليم عبر تشويهه والتأثير بشكل سلبي على الفضاءات الجامعية من خلال تشويه سمعة الإناث في المجال الفني. ومن ثمة المرور لتشويه وشيطنة التعليم المختلط في جميع مؤسسات التعليم العالي العراقية حتى يتسنى لها الولوج بسهولة إلى تغيير فكر الشباب ومنه إلى بث أفكارها المتطرفة لدى جميع فئات المجتمع. فالحركات الإسلامية تعتمد طرقا متعددة لفرض أيديولوجيتها الرجعية والتمييزية ضد المرأة لتعيدها إلى الوراء وتفرض عليها مبادئها وتقصيها من الفضاء العام وهذا هو جوهر سياساتها الاجتماعية. |